تقرير/أشرف الصوفي
بعد رحلة شاقة يقطعها طائر البلشون الأبيض، قادمًا من أوروبا، يحط الرحال في محميات الطيور في عدن.
يفضل هذا الطائر العيش في الموائل التي تبعد أقل من 2,000م في الأراضي الرطبة عذبة المياه أو قليلة الملوحة، وقنوات التصريف وأحواض معالجة مياه الصرف والمساحات المروية ومزارع الألبان المشيدة قرب مصادر المياه.
يتواجد أحيانًا عند الخلجان المينية المحمية التي تنتشر فيها أشجار المانجروف، وهذا ماتتميز به محميات الطيور في عدن، لكن اليوم، تواجه هذه المحميات تحديات تهدد وجودها بسبب الحرب والتوسع العمراني، و الإهمال البيئي، مما قد يجبر طائر البلشون الأبيض ومئات الأنواع الأخرى على هجرانها للأبد.
يعشق محمد الحميدي مشاهدة هذا الطائر، وكان يخصص الجزء الأكبر من جدول رحلاته، إلى محميات الطيور في عدن، لكنه وفي الأعوام العشرة الماضية لم يعد يفضل زيارتها، كونها أصبحت غير مناسبة وتعاني الإهمال الكبير.
يشعر محمد بالحزن على هذه المحميات، وكيف أصبح واقعها اليوم. يقول الحميدي"لعُشة": يأسرني مشاهده طائر البلشون الأبيض الجميل، يعجبني ذكاءه، وطريقة صيده للأسماك، ومن المؤسف أن لا يرى هذا الطائر في هذا المكان منزل له".
تمتلك محافظة عدن اليمنية نظامًا من محميات الأراضي الرطبة ذات المواقع الفريدة، التي تمتد على مساحة 26 كيلومترًا مربعًا، تشتهر هذه المحميات، بكونها محطة توقف أساسية لأكثر من 10,000 طائر سنويًا ينتمون إلى حوالي 150 نوعًا مختلفًا، أبرزهم: النحام الوردي القصير، البلشون، النورس أبيض العين، ملك العقبان، والبجع، يجتازون السماء قادمين من أوروبا وآسيا في طريقهم إلى إفريقيا
عوامل التدهور
خلال السنوات الأخيرة، شهدت هذه المحميات تدهورًا كبيرًا؛ نتيجة الحرب الدائرة بين الحكومة المعترفة بها دوليًا وبين جماعة الحوثي، والتي اندلعت في عام 2015، و وصلت إلى مدينة عدن، تسببت الحرب بعمليات نزوح واسعة، إثر الاشتباكات المسلحة التي طالت المدينة، مادفع العديد من السكان لاختيار أجزاء من المحميات والبناء بها.
وعلى وجهها الآخر، الحرب أدت أيضًا إلى عدم الاهتمام بالبنية التحتية اللازمة للحفاظ على المحميات، فالمساحات الطبيعية التي كانت تعد ملاذا آمنًا للطيور أصبحت مهددة بفعل التعديات البشرية والنفايات.
يقول الدكتور فواز باحميش، مدير مركز الدراسات والبحوث البيئية في جامعة عدن ل"عُشة" : " تزخر محميات الطيور في عدن بالأشجار النادرة، وتعد أهوارها موئلًا لمئات الأنواع من الطيور، مايجعلها وجهة سياحية مهمة" ويشير إلى أن تصاعد النزاع المسلح في اليمن منذ عام 2014، حال دون القدرة على المحافظة على المرافق الحيوية، فتدهورت البنى التحتية، وتحولت أجزاء واسعة من المحميات إلى مباني سكنية .
ويرى باحميش أن الخطر الأكبر على هذه المحميات هو استمرار الزحف العمراني، والاعتداءات المتكررة على مساحات كبيرة منها، يُضيف: "عوامل عدة ساهمت في التدهور المخيف للمحميات، أبرزها: النزوح ، والاكتظاظ السكاني الذي شهدته مدينة "إنما"، وتحول الصرف الصحي إلى هذه المحميات، إضافة إلى الطغيان، والزحف العمراني على أراضي المحميات، و أخذ صندوق النظافة لأجزاء من المناطق الشرقية، وتحويلها إلى مكب للنفايات".
يؤكد باحميش أن أعداد الطيور قلت بشكل كبير، يقول لـ"عُشة" : الرعي الجائر من قبل الأهالي، وتكدس القمامة، وتلوث المياه بالصرف الصحي، أدى الى هجرة الطيور من المحميات".
الحسوة: من العالمية إلى واقع مأساوي
في عام 2006، أعلنت الحكومة اليمنية منطقة "الحسوة" محمية طبيعية رسميّا بمساحة تبلغ 189 هكتاراً.
وتعد الحسوة من أبرز المحميات الطبيعية في عدن، وتميزت بكونها موقعًا استثنائيًاداخل المناطق الحضرية، وهو ما ساهم في حصولها على جائزة "خط الاستواء" في عام 2014 ضمن 26 موقعًا طبيعيًا على مستوى العالم.
تُمنح هذه الجائزة العالمية كل عامين للمواقع التي تحقق نجاحات بيئية واجتماعية بفضل جهود المجتمعات المحلية.
عبد الحكيم هملايا، وكيل وزارة المياه في الحكومة المعترف بها دوليًا، أشار ل"عُشة" أن الفترة ما بين 2006 و2008 شهدت اهتمامًا حقيقيًا بهذه المحميات. تمثل ذلك بقرار رئيس الوزراء باعتماد "الحسوة" كمحمية طبيعية، تبعه تنفيذ عدد من المشاريع بدعم من الأمم المتحدة.
أضاف عبدالحكيم أن المحميات، ومنها الحسوة، كانت تُدار لفترة طويلة من قبل المجتمعات المحلية وتحت إشراف الهيئة العامة لحماية البيئة، لكن هذه الجهود انهارت منذ عام 2015 نتيجة الاعتداءات من قبل جماعة الحوثي، مما جعلها منطقة خطرة وأدى إلى توقف الأنشطة في المحمية.
ولا تتوقف التهديدات التي تتعرض لها المحمية، فمؤخرًا تعد مياه الصرف الصحي كما يرى عبد الحكيم، المعضلة الكبرى التي تعاني منها المحمية، حيث كانت تعتمد على مياه الصرف الصحي المعالجة، التي كانت نقاوتها عالية وتتناسب مع كمية الأحواض الموجودة.
إلا أن الوضع تغير جذريًا في السنوات الأخيرة. حيث أصبحت كميات المياه التي تضخ إلى المحمية هائلة، دون وجود توسع في الأحواض المعالجة أو صيانتها.
يقول عبد الحكيم: "المياه التي تدخل الآن إلى المحمية رديئة للغاية، وذلك بسبب زيادة عدد السكان والتوسع العمراني في مدينة عدن، وعدم إنشاء أية أحواض إضافية لمعالجة المياه. هذا الوضع تسبب في تلوث المحمية بشكل كبير، وأثر على البيئة الطبيعية فيها".
انعكاسات سلبية
التأثير السلبي لتدهور المحميات يمتد إلى النظام البيئي في المحمية. اختلال البيئة الطبيعية يسبب هجرة الطيور إلى مناطق أخرى، وقد يؤدي إلى انقراض بعض الأنواع التي كانت تجد في عدن بيئة ملائمة للتكاثر والبقاء.
كما أن خسارة هذه المحميات تؤثر بشكل مباشر على التوازن البيئي، ما ينعكس على السكان المحليين من خلال فقدان الموارد الطبيعية وزيادة معدلات التلوث.
بالنسبة لحسان محمد، فإن هذه المحميات كانت تعد مصدر دخل رئيسي له ولعائلته، من خلال عرضه لبعض المنتجات المحلية التي يقدمها للزائرين، لكن ذلك لم يعد ممكنا، فمع الإهمال وتأثيرات الحرب، قل عدد الزائرين لهذه المحميات.
يشرح ذلك حسان ل"عُشة": كُنت أجني بعض المال من خلال تقديم الخدمات لزائري هذه المحميات، وبيع بعض المنتجات المحلية، لكني توقفت عن ذلك منذ عامين، لم تعد الناس ترغب بالتنزه هنا، ومظهر المحميات تغير، القمامة ومياه الصرف الصحي تفوح رائحتها في المكان، لم يعد الأمر مجديًا"
تؤكد ذلك الناشطة البيئية لميس قاسم ل"عُشة": "المحميات ليست مجرد أماكن ترفيهية، بل هي جزء من النظام البيئي العالمي. تدهورها يؤثر على الطيور التي تعتمد عليها وعلى المجتمعات المحلية التي استفادت من جمالها وثرواتها الطبيعية".
محميات عدن: إرث بيئي بحاجة إلى إنقاذ عالمي
تعد محميات الطيور في عدن، مثل الحسوة، جزءًا من التراث البيئي العالمي الذي يواجه تهديدات متعددة نتيجة التغير المناخي والنشاط البشري غير المستدام. هذه المحميات ليست فقط مواقع طبيعية محلية، بل هي جزء من الجهود الدولية لحماية التنوع البيولوجي بموجب اتفاقيات بيئية عالمية، مثل اتفاقية رامسار للأراضي الرطبة واتفاقية حماية الطيور المهاجرة.
وفقًا لأهداف التنمية المستدامة (SDGs)، فإن الحفاظ على محميات عدن يعكس التزام اليمن بتحقيق أهداف مثل العمل المناخي (الهدف 13)، والحياة في البرّ (الهدف 15)، والحفاظ على المياه النظيفة (الهدف 6).
فعلى سبيل المثال، تعاني محمية الحسوة من مشكلات تصريف مياه الصرف الصحي، مما يهدد النظم الإيكولوجية فيها. الحلول المقترحة، مثل إعادة تأهيل الأراضي الرطبة وتحسين إدارة المياه، لا تحقق فقط حماية البيئة المحلية، بل تساهم أيضًا في تعزيز الالتزامات الدولية تجاه استدامة الموارد الطبيعية.
هذا الترابط بين المحميات المحلية والأهداف البيئية العالمية يؤكد أهمية التحرك الجماعي. يجب أن تعمل المنظمات المحلية والدولية جنبًا إلى جنب لتأمين تمويل مناسب لإعادة تأهيل هذه المحميات وضمان حمايتها. كما يمكن إدراج محميات عدن ضمن مبادرات عالمية مثل صندوق التنوع البيولوجي والمرونة البيئية، مما يفتح الباب أمام شراكات دولية تعزز صمود النظم البيئية في المنطقة.
إنقاذ محميات عدن ليس فقط مسؤولية محلية، بل هو جزء من معركة عالمية أوسع لحماية التنوع البيولوجي من أجل مستقبل مستدام.
البحث عن حلول
رغم هذه التحديات، لا تزال هناك دعوات لإحياء المحميات البيئية في عدن. يرى عبد الحكيم هملايا، وكيل وزارة المياه، أن الحل يكمن في تعزيز الرقابة البيئية، والحد من التعديات العمرانية، وإعادة تأهيل البنية التحتية لمعالجة المياه. ويكشف هملايا عن تعاون جارٍ مع البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة للبيئة لاستقطاب مشروع جديد يُعنى بإعادة تأهيل المحميات، مشيرًا إلى أهمية تكاتف الجهود المحلية والدولية، وفي هذا الصدد. يقول ل"عُشة": "إعادة إحياء هذه المحميات يتطلب تعاونًا واسعًا لا يقتصر على الحكومة، بل يشمل الجهات المانحة، والمنظمات الدولية، وسكان عدن الذين يجب أن يدركوا قيمة هذه المناطق ويتعاملون معها بشكل حضاري."
من جانبه، يدعو الدكتور فواز باحميش، مدير مركز الدراسات والبحوث البيئية في جامعة عدن، الحكومة والهيئة العامة لحماية البيئة إلى اتخاذ خطوات جادة لحماية هذا الإرث البيئي، بما في ذلك وقف تصريف مياه الصرف الصحي إلى المحميات وتقليل الملوثات.
وأبدى باحميش تفاؤله بالجهود الأخيرة التي تبذلها اللجنة الوطنية للتربية والثقافة والعلوم بالتعاون مع اليونسكو، مشيرًا إلى مؤتمر عُقد في الدوحة لتقديم ملفات ترشيح محميات طبيعية، من بينها محمية الحسوة، بهدف إعادتها إلى مكانتها كمعلم بيئي عالمي.
وبالنظر إلى التحديات الحالية التي تواجه محميات الطيور في عدن، فإن مستقبل هذه المواقع يتوقف على مدى قدرة الجهات المعنية على تبني استراتيجيات مستدامة للحفاظ على البيئة. يشير الخبراء إلى أن توجيه الاستثمارات نحو إعادة تأهيل المحميات، وتحفيز المشاركة المجتمعية في الحفاظ عليها، قد يسهم في استعادة التوازن البيئي.
إضافة إلى ذلك، يمكن أن تلعب المنظمات الدولية دورًا محوريًا من خلال تقديم الدعم الفني والمادي لتنفيذ مشاريع بنية تحتية بيئية متقدمة. ومع الاهتمام العالمي المتزايد بالبيئة، خاصة مع ماخرجت به قمة المناخ COP29 المنعقدة في أذربيجان، بتخصص 300 مليار دولار، لدعم الأنشطة البيئية والمناخية في الدول النامية، وبذلك فإن عدن تملك فرصة لاستعادة مكانتها كوجهة بيئية وسياحية بارزة.
لعل الطيور التي عبرت آلاف الكيلومترات لتصل إلى عدن تحمل رسالة واضحة: الطبيعة تصمد، لكنها تحتاج إلى أن نصمد معها. أن نحميها ليس فقط لأجلها، بل لأجلنا جميعًا، لأن مستقبلنا كبشر مرتبط ارتباطًا وثيقًا بصحة بيئتنا. دعونا نكتب فصلاً جديدًا، تكون فيه عدن منارة للتنوع البيولوجي ومثالاً عالميًا للقدرة على استعادة ما فقد.
تم انتاج هذه المادة بالاشتراك مع منصة عشة غرفة اخبار المناخ والحقوق البيئية