آخر تحديث :الخميس-21 نوفمبر 2024-02:04م
أدب وثقافة

"الروع": الخوف بتفسير زهران القاسمي...

السبت - 09 نوفمبر 2024 - 10:37 ص بتوقيت عدن
"الروع": الخوف بتفسير زهران القاسمي...
(عدن الغد)متابعات

رواية "الروع" للشاعر والروائي العُماني زهران القاسمي (1974) من الروايات التي ما إن تُغلق صفحاتها حتى تشعر أنّ الشخصيات التي قرأتها تريد أن ترافقك، أو أنّها ترافقك عنوةً بفعل الإتقان، وتلك هي الخفّة الساحرة التي تُميّز الفن عندما يُشرف أو يطلّ على الحياة الواقعية.

"الروع" عنوانٌ تتكثّف فيه حكاية الرواية، الصادرة حديثاً عن "دار ميسكلياني"، وهي حكاية عن محجان وعن الروع، وفي مواقع كثيرة من النصّ يراهما القارئ الأمر نفسه. وهُما بالفعل الأمر نفسه إذا ما قُرر النصّ بدلالته، ولا فصام بينهما.

بلغة أهل الشام، الروع هو "فزّاعة الحقل"، أمّا محجان فهو الشخصية الأساسية في الرواية، اسمه عبيد بن ربيع، يُذكَر مرّةً واحدة خلال الرواية. عدا ذلك، ينادونه في القرية محجان لطوله الفارع، والمحجان هو محجان الراعيات "العصا الطويلة التي يخبطن بها أوراق الأشجارِ العالية لتتساقط فتأكل الماشية". ولهذا التفصيل دورٌ في رسم الشخصية الوحيدة التي يكترث القارئ بمصيرها وتطوُّر حكايتها وصولاً إلى النهاية التي صوّرها صاحب "تغريبة القافر" (الجائزة العالمية للرواية العربية، 2023) لتصلح لرواية تحمل هذه الخفّة في بنائها، إذ لا يمكن الجزم بوقوع النهاية فيها بالمبدأ. وربما تكون النهاية المفتوحة بالصورة التي نراها هنا، هي ما دفعتني إلى الاعتقاد بأنّ محجان أراد أن يرافقني، بصفتي قارئا، بمصيره المفتوح الملتبس.

أيضاً، إن أراد أحدٌ البحث عن محجان، فسوف يراه، لا في القرية العُمانية فقط؛ بل في القُرى كلّها. وهو الشخص الذي لا يأبه له الآخرون، إلى درجة يعتقد نفسه غير مرئي، يعمل سائقاً لحافلة المدرسة. ويدفعه اللومُ العدواني لأحدهم لإهماله تركة والدته، المزرعة البعيدة والجدباء، إلى التفكير بالمزرعة واستصلاحها، بالأحرى إعادة تأهيلها، ومن ثمّ زراعتها والعناية بها إلى جانب عمله سائقاً. لكن، بقي ينقص هذه المزرعة كي تستحقّ اسمها؛ روعٌ، فزّاعة تُبعد الحيوانات والطيور، والبشر.

نصٌّ يتجاوز الجغرافية العُمانية بقدر ما هو وفيٌ لها

مع تأكيد محجان على ضرورة أن يكون روعه فاعلاً ضدّ البشر، لا الحمير والطيور فقط، تعود الرواية لتغزل في منطقتها الأثيرة، وهي البشر أنفسهم، بغاياتهم ودوافعهم وبصراعاتهم مع الرغبات والشرور وأسباب الكراهية. وبدا أنّ اعتزال محجان في المزرعة ليس اعتزالاً بغرض الزراعة، بقدر ما هو اعتزالٌ - قائم بذاته - للبشرِ أنفسهم، لمتاعبهم، ولما يلقون به على بعضهم من آلام. بدا أنّ محجان في المزرعة يبني حجّةً يعتزل بمقتضاها الآخرين، ويلجأ إليها. وما الروع الضخم وانشغال محجان المُلحّ فيه، كأنّه صنمٌ، إلّا تلك الذريعة التي يضطرّ بطل العمل إلى بنائها كي يُفسّر نفسه للآخرين، أو بالأحرى كي يعفيه الآخرون من تفسير نفسه لهم.

ما يبحث عنه محجان يرميه الروائي العُماني إلى قرّائه، وكأنّما كلّ منّا يبني بصورة غير واعية روعه الخاص، وهذا الروع أخال أنّه خوف فطري كأنّه خوف السلالة كلّها. بالطبع هذا دافع عامّ، إلّا أنّ القاسمي لا يكتفي بالخوف والاغتراب الفطري، بل يُلقي على بطل العمل الكثير من آثار التجاهل والتنمّر وعدم الأهلية، حتى لكأنّ محجان غريبٌ بين أهله، ذلك الاغتراب الذي أفضى به إلى أن يُحرق حقولهم.

في لحظة بدا أنّ النصّ المعني بمحجان فقط صارَ معنياً بالقرية كلّها، وبالعلاقات المبنية على القوى التقليدية في مجتمع القرية، علاقات أراد محجان نسفها. والنصّ منسوج بحرفة تجمع التناقضات طبقة فوق أُخرى. أخيراً، نعرف أنّ محجان ذلك الفرد النكرة، الذي بدا أنّه أراد من الحياة فقط اعتزال الناس، ومع إتمام تقلّباته في علاقته مع الروع، وبعد أن رأى هجوم المجتمع عليه ممثّلاً بزيارة المطاوع له، أظهرَ ما تجنّب إظهاره بالزراعة والعمل والاعتزال؛ إذ مع "موت" الروع بزيارة المطاوع، أظهر تلك الثورة المختبئة فيه، ورغبته بالانقلاب على كلّ شيء، وعوض التسليم للناس جميعهم، أراد أن ينقلب عليهم جميعاً، وكأنّه ثورة ضدّ ما يُفزع الناس، وما يقلق عليهم عيشهم.

النصّ من غير ادّعاء مليءٌ بدلالات لا ترتبط بعُمان بقدر ما هي مرتبطة بها في الآن نفسه. فالنصّ الذي يُطلع القارئ العربي على القرية العُمانية، يُطلعه أيضاً على جغرافيته هو، قارئا، سواء بما تتركه الرواية من تساؤلات، أو من قراءتها لواقع كلّ القرى. نصّ زهران يتجاوز جغرافيته بقدر ما هو وفيٌ لها، وربما تكون هذه سمةٌ في الأدب العُماني تُفسّر حضوره في أهمّ التكريمات الأدبية.