في إطار الندوة الفكرية عن النخلة والواحة في التراث المادي وغير المادي والتي عقدت مؤخرا في مدينة دوز من ولاية قبلي التونسية في مهرجان دوز للشعر الشعبي في دورته الثامنة قدّم الباحث اليمن مجيب الرحمن الوصابي مداخلة قيمة حمت عنوان " النخلة والأشجار المقدسة في اليمن في جلسة اليوم الأول التي ترأسها الدكتور حسن مبارك شبه الوصابي في ورقته العلمية النخلة بالإنسان إذا قُطعت رأسها تموت ومثله عمرا وكتب في ملخصه المتميز " تحاط النخلة في الوجدان العربي الجمْعي بهالة من القداسة والتعظيم، وصلت إلى حدّ العبادة، فقد ذكرت المصادر عبادة أهل نجران لنخلة عظيمة قبل دخول النصرانية والإسلام، وبقيت بعض أشكال الرواسب الثقافية لتقديس النخل إلى يومنا هذا، لتسعى الدراسة من خلال منهج النقد الثقافي الأسطوري إلى رصد تلك الرواسب، و ظاهرة تقديس اليمنيين لبعض الأشجار كاللبان والمُرّ، ودراسة البِنى الأسطورية السردية وتفكيكها بوصفها مدخلًا للمبحث الثاني الذي يخصص للنخلة في التراث اليمني والعربي بين السرديات الأسطورية والنقوش وفي المعتقدات والرواسب الثقافية المرتبطة بشجرة النخيل؛ التي جعلها العرب مؤنسنة تبكي وتحزن وتعشق، لتكون النخلة وحضورها في الأمثال الشعبية اليمنية عنوانّا للمبحث الأخير من الدراسة التي قمنا برصد بعض الأمثال الشعبية المتعلقة بالنخلة وتوابعها وشرحها، وهي تتشابه مع كثير من الأمثال العربية الأخرى التي عكست مزاجًا عربيًّا عامًّا يعطي للنخلة مكانةً عظيمة في حياته وفي مماته فكانت وطنًا لكلّ عربي.
ويرتبط أغلبُ الناس في اليمن في راي الوصابي ارتباطا عضويا بالنباتات والأشجار التي يزرعونها في واحاتهم وبساتينهم- في مأكلهم أساسا، وفي تشييد بيوتهم ونسج ملابسهم، ومنها تكون أدواتهم التي يستخدمونها في مساكنهم وصنع أسلحتهم، إذ تعادل عندهم الحياة، وتحمل الأشجار والنباتات لليمنيين إشارات ثقافية عميقة لتجاربهم وخيالاتهم وأساطيرهم التي تتساوى مع مرموزات حيوانية في تشكيل وعيهم الطوطمي المبكر، والطوطمية: كما عرفها الوصابي هي تماهي الإنسان بحيوان او كائن حي، فيظن انه هو نفسه، او على الاقل من نسله وسلالته، ويحاول ان يجاريه ويقلده في كل شيء تقريبا. وهي حاضرة إلى يومنا في مناسباتهم من ميلادهم إلى مماتهم وفي سلسلة أنسابهم بوصفها ألقابا مجهولة سبب التسمي بها كــــ (شجرة، عنبة، نخلة، زبيبة، لبانة، المر، ريحان، عُثرب، اللبان، سبولة، ورد، زهرة، حنظلة... الخ).
ويضيف الوصابي في بحثه أن الأشجار والنباتات استعملت علاجا لأمراضٍ مختلفة أو للوقاية منها تضاعفت أهميتها، سيما إن استخدمت لطرد الأرواح الخبيثة. وللأشجار والنباتات حضور قوي في الشعائر الدينية والطقوس التعبدية التي يُتقرب بها من الآلهة وسائر المعبودات، وقد اشتركت جلّ الحضارات في هذا الأمر تبركا وتعظيما، فقدّس اليمانيون نباتات معينة وأشجارا، واعتقدوا في منافعها، وذُكرت في النقوش المسندية واستخدمت رسوماتها على الجدران والتماثيل والمعابد ، وحضرت بقوة في كثير من الأساطير اليمنية، ومنذ البدايات الأولى للوعي البشري على الأرض تم التمييز بين نوعين من الأشجار: الطيب المبارك والخبيث، كما ورد ذلك في القرآن الكريم، وشبهت النفوس والشعوب والديانات وفق هذه الثنائية الضدية، فكانت أشجارٌ للانا طيبة مباركة، وأشجار الآخر خبيثة نجسة، فهذه شجرة لليهود خاصة بهم تذود عنهم، وهذه شجرة طيبة للمسلمين، كما اتخذت الأشجار رموزا في أعلام الدول مثل لبنان وكندا.
كما قدم الدكتور الوصابي مباحث في اللبان والمر الذين يصنع منهما البخور والمكانة المقدسة للبخور في العالم القديم، وشجرة القات التي اثارت نقاشا حادا ليبين الباحث ان الصورة السلبية عن القات وتأخر اليمن بسببه مغلوطة ومبالغ فيها
وتحدث الوصابي في مبحثه قبل الأخير عن بعض السلوكيات البشرية المجهولة المنشأ وما هي إلا رواسب ثقافية لممارسات تعبدية شعائرية قديمة ومعتقدات يظن الناس أنها صحيحة وإن خالفت العقل والمنطق، وشجرة النخيل ترتبط بمعتقدات مازالت مستمرة إلى يومنا إذ تضفى على الشجرة صفات بشرية فهي تحزن وتفرح وتعشق وتتألم وتبكي، ولا يواخي العربي إلا بينه وبين النخلة فلا يُسميها شجرة، وفي بعض الواحات اليمنية يُحرّم قطع النخلة تحريما باتا، وينظر الى من يفعل هذا الفعل الآثم ويعتبر ممن ارتكب جرما، وفي حضرموت يعد التبول أو كشف العورة لنخلة جريمة شنيعة وإهانة، وينكر الناس جني النخلة في المساء، وفي العراق يجب قراءة المعوذات والدعاء وإلا تعرض قاطع النخيل وفق المعتقد الشعبي العراقي للأذى الإلهي، والحقيقة "فقد كانت شجرة النخيل تدخل في طقوس التقرب للآلهة حيث كانت توضع الفسائل الصغيرة في أكواز فخارية أمام الإله الذي تجرى طقوس التقرب إليه ويكون ذلك بواسطة سكب الماء المثلج في الكوز الفخاري الذي يحتوي على فسيلة النخيل".
وتنقل لنا السرديات الشفهية اليمنية عن النخلة العاشقة والمعشوقة قصصا طريفة، فعندما يشاهد صاحب النخلة ميلان عند نخلته تجاه نخلة أخرى، فإنه يقوم بأخذ شيء من تلك النخلة المعشوقة وغالبا تكون ذكرا من طلعها تحديدا او أن تعلق سعفة من سعف النخلة على النخلة المائلة فتعتدل. وعندما سئل أحدهم عن نخلته العاشقة التي لا تثمر فأجاب انها تأبى أن تلقح من أفضل الفحول ولا تنتج؛ فأشير له بالبحث عن فحل بالجوار تحبه" ولما تم البحث في المنطقة وجدت نخلة مذكرة فتية عند الجيران وتم تلقيحها بلقاح منه؛ فنجحت عملية التلقيح وحملت النخلة"
ومن المعتقدات الذائعة في الجزيرة العربية أنه إذا مات صاحب النخلة فإن نخلته تحزن عليه، ويروى عن بعض النخل أنها لا تثمر لمدة عامين، وربما يتم تبخيرها وقراءة القرآن عليها كي تعود لحالتها الطبيعية، وفي بعض الواحات اليمنية يتم غرس فسيلة لكل مولود وتكون باسمه ذكرا كان او انثى، وملكا له عند بلوغه يتصرف بها كيفما شاء.
وفي العراق القديم إذا أصيب أحد الأطفال بالحمى المتواصلة، تلجأ أمه أو من ينوب عنها في رعاية الطفل المريض الى قطع سعفة من احدى النخلات المميزات وتشعل النار في رأسها ليلة الجمعة، وتطوف بها ثلاثا في الشوارع الخلفية اعتقادا من ان الحمى ستزول، "وإذا لقيت حاملة السعفة الموقدة امرأة وسألت عن السبب فإن الحمى باعتقادهم ستنتقل إلى السائلة ويشفى مريضهم" عودة.
وفي أماكن مختلفة من واحات اليمن والجزيرة العربية حين لا تثمر النخلة لسبب من الأسباب وطال عليها الحال يلجأ صاحبها الى تهديدها دون ان تسب أو تلعن ليقوم صاحبها بحمل معول او منشار او فأس ويشير لها بالوعيد إذا لم تثمر. وقد يلجأ البعض للاحتيال في هذا الامر مثلما يفعل سكان مدينة العقبة الأردنية ففي معتقداتهم أن النخلة عندما لا تثمر لسنوات يتفق صاحب النخلة مع أصدقائه بإثارة الخوف لدى النخلة وكأنها كائن بشري يعقل، فيحمل عليها سيفا يشهره من بعيد وينطلق صوب النخلة مهددا ومتوعدا وهو يصيح: ( اتركوني وهذه النخلة سأقطعها و أمزقها ) وحينها يُقبل عليه اصدقاؤه راكضين ويحولون دون أن يمسها، وعندما يستنكر عمله منهم ويسألونه عن السبب فيجيبهم أنها لم تثمر منذ أعوام، فيزداد غضبه ويندفع نحوها مرة أخرى ويصيح" ذروني أقطعها وأتخلص منها»، فيمنعه أقرانه ويقف أحدهم فيقول بصوت عال: أنا أكفلها لك وأتعهد لك عنها بأنها ستثمر في العام القادم وإن لم تثمر فاقطعها وارمها في البحر، فيسكن غضب صاحبها ويتركها. ليأتي في العام التالي وقد أثمرت" . وفي آخر الندوة تمّ تكريم الباحث الوصابي لجهوده المبذولة في نشر الثقافة وتعزيز أواصر الاخوة من الأستاذ عزالدين بالطيب مدير المهرجان، كما شكر الوصابي اهل المزونة ومدير المهرجان على حسن الضيافة وحفاوة الاستقبال.