يحتاج عبدالملك 67 عامًا بشكل يومي لفحوصات دورية وعلاج منتظم، وقياس ارتفاع (ضغط الدم) وبعض الإجراءات، لكن بسبب إغلاق العيادات أصبح هذا الأمر شبه مستحيل؛ خصوصًا في ظل الظروف الاقتصادية التي يعيشها وعدم القدرة على تحمل تكاليف الخدمات في المركز والمستشفيات الخاصة، بالإضافة إلى أعباء الازدحام في المستشفيات العامة.
ففي ظل الأزمة الصحية المتفاقمة في البلاد منذ أكثر من تسعة أعوام، يواجه المصابون في عواصم المدن اليمنية الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثي صعوبات كثيرة وتحديات إضافية، في الحصول على الخدمات والرعاية الطبية الأولية في الوقت الراهن، نتيجة إجراءات سلطة صنعاء الصحية وإغلاقها العيادات الإسعافية (الأولية، والقبالة).
ومنذ إغلاق عيادة الصمود للإسعافات الأولية في نهاية أغسطس آب 2022، وعبدالملك الصايدي، المصاب بارتفاع ضغط الدم، يعاني منذ قرابة خمسة أعوام من صعوبة الحصول على الرعاية الصحية المناسبة، وأبسط الخدمات الطبية الضرورية لمراقبة تطور حالته الصحية
يتعين على “عبدالله” قطع مسافة (3 كم) يوميًا للوصول إلى المستشفى وعند وصوله، وبعد الوصول يجد نفسه في انتظار يتراوح بين 3 إلى 4 ساعات؛ ما يعني أنه يقضي تقريبًا من 120 إلى 180 دقيقة في طابور طويل من المرضى بالحالات المشابهة، حتى يتمكن إجراء بعض الخدمات الإسعافية التي كانت مع وجود العيادات متوفرة بكثرة وبسهولة.
يقول: “إن تلك الإجراءات الجديدة المتخذة -في إشارة إلى الإجراءات الصحية المتعلقة بإغلاق العيادات- حولت معركتنا اليومية من السعي حول حقوقنا الغذائية، إلى السعي خلف حقوقنا الصحية، ومن سعاة بعد لقمة العيش إلى سعاة حول أبسط الخدمات الطبية”.
وبنبرة تفيض بالحزن استطرد قائلا: “لقد زادت وتضاعفت معاناتي في الوقت الراهن وساءت حالتي الصحية، وتأثرت نفسيًا ومعنويًا، وأصبحت في وضع صعب بسبب هذه الإجراءات غير المدروسة”.
وختم حديثه: “لم تكن العيادات مجرد محطة أولية لإجراء الفحوصات الأولية وضرب الحقن؛ بل عيادة ومستشفى للكثير من المواطنين المعوزين في ظل الأوضاع الحالية وانهيار النظام الصحي”.
إن معاناة عبدالملك ليست مجرد حالة فردية؛ بل هي مرآة تعكس واقعًا أليمًا يعيشه العديد من المصابين في المدن اليمنية الواقعة تحت سيطرة جماعة الحوثي؛ حيث تضيق السبل وتتعاظم الأزمات، وتزدحم الأحياء بالسكان، وتزداد الحاجة الملحة إلى الخدمات الطبية الأساسية. ومن بين هؤلاء أم أحمد المدان، 43 عامًا، التي تواجه تحديات صحية صعبة وتعاني من ارتفاع ضغط الدم ونوبات كهربائية وجلطة دماغية. تحكي: “إغلاق العيادات أثر عليّ بشدة؛ حيث أصبحت أواجه صعوبات في قياس ضغط الدم وضرب الحقن، وأحيانًا كنت أحتاجها، وكان من الصعب توفيرها حال كانت العيادات موجودة”.
وتضيف: “حاولت الذهاب إلى المستشفيات، لكن الأسعار المرتفعة كانت عائقًا كبيرًا، كما أنني أعاني من زيادة الوزن، مما يجعل الأمور أكثر تعقيدًا، حتى لو طلبت مساعدة منزلية، فإن التكاليف ستكون باهظة”. وتصف تجربتها في المستشفيات بأنها محبطة؛ إذ تعاني من الزحام والأسعار المرتفعة، مما يجعلها تتجنب اللجوء إليها. مؤكدة: “بأن محاولاتي للذهاب إلى المستشفيات كانت مخيبة للآمال بشكل كبير”.
ومن جانبه يقول الصحي، منير عبدالمغني، إن الإجراءات التي اتخذتها السلطة الصحية أثرت بشكل كبير على الكثير من المصابين اليمنين بمختلف الشرائح المجتمعية؛ المسنين والأطفال والنساء، وتسببت في حرمانهم من الحصول على أبسط الخدمات الطبية التي كانوا يحصلون عليها بسهولة.
مشيرًا إلى أن سياسة السلطة الصحية وإغلاقها للعيادات وحصرها لنشاط عمل (العيادات الصحية) في المناطق النائية، يؤثر بشكل مباشر على حياة شريحة واسعة من المصابين في المدن اليمنية، على وجه الخصوص المصابون المعوزون الذين يفضلون العيادات الصحية لأسباب متعددة؛ منها التكلفة المنخفضة للخدمات الطبية، مؤكدًا ن هذه الإجراءات التي اتخذتها السلطة الصحية لن تدفع المرضى اليمنين إلى المستشفيات كما يظن البعض منا؛ بل سيؤدي إلى بقاء المرضى في منازلهم، مما يعرضهم لمخاطر؛ خاصة في ظل عجزهم عن تحمل تكاليف العلاج في المستشفيات الخاصة.
وتعاني اليمن واحدة من أعلى معدلات وفيات الأمهات في العالم، مع وجود مرفق صحي واحد فقط من بين كل خمسة مرافق عاملة، يقدم حاليًا خدمات صحة الأم، فيما يحتاج نحو 17.8 مليون شخص للمساعدات الصحية في العام 2024، بينهم حوالي 5.5 مليون امرأة بحاجة لخدمات الرعاية الصحية الإنجابية. بحسب تقرير حديث لمنظمة الأمم المتحدة.
كما أن الوضع الصحي في اليمن أصبح سيئًا للغاية بالنسبة لمن لديهم حالات مرضية صعبة أو حتى معتادة حاليًا، وذلك لعدة أسباب؛ منها عدم الاستقرار السياسي وغياب الدولة التي تهتم وتمول الخدمات الطبية، وتسهر على توفير الكادر الطبي المؤهل، وتعمل على بناء المستشفيات والمستوصفات والمخابر الطبية في جميع محافظات الجمهورية اليمنية. وفقًا للمركز اليمني للدراسات.
وبلغ عدد العيادات الإسعافية والقبالة في اليمن حتى بداية عام 2022، 2.799 عيادة تقريبًا، منها 2490 عيادة خاصة بالإسعافات الأولية و390 عيادة قبالة وتوليد، معظمها في محافظة صنعاء وأمانة العاصمة حسب إحصائية التقرير السنوي 2022 لوزارة الصحة العامة.
كما تعرضت أغلب هذه العيادات المنتشرة بكثرة داخل عواصم المدن اليمنية، والبالغ عددها (1045) عيادة في العاصمة صنعاء فقط، لحملات ابتزاز ومضايقة من مكتب الصحة في المحافظة، منذ بداية 2022 وحتى اللحظة.
ومنذ بداية العام 2024م تعرضت هذه العيادة لأكثر من 62 حملة تعسف من الجهات المسؤولة، فيما أغلقت 300 عيادة لعدة أشهر بحجة عدم امتلاكها ترخيص الإنشاء والمزاولة، وفق ما تناقلته وسائل الإعلام المحلية.
العاملون الصحيون هم أكثر المتضررين
تعتبر المعاناة التي يواجهها اليمنيون نتيجة إجراءات إغلاق العيادات الصحية أزمة شاملة؛ حيث لا تقتصر على فئة معينة؛ بل تشمل جميع شرائح المجتمع اليمني. ووفقًا لرئيس اللجنة التحضيرية لنقابة العيادات الإسعافية، نضال العزب؛ فإن العاملين الصحيين في المهن المساعدة هم الأكثر تضررًا من هذه الإجراءات والحملات المستمرة منذ مدة تزيد عن ثلاثة أعوام تقريبًا.
وعن ذلك يقول أنور الأهدل، الصحي اليمني: “إن هذه الإجراءات أثرت بشكل مباشر على حياة العاملين الصحيين، وتسببت في حرمان الآلاف منهم من حقوقهم وممارسة أعمالهم، وجعلت الكثير منهم في قائمة العاطلين عن العمل رغم حصولهم على تراخيص مزاولة المهنة وتأهيلهم”.
في ذات السياق، التقى معد التقرير بمالكي “عيادات الثقة” للإسعافات الأولية، التي تضم 15 فرعًا وسط العاصمة، للحديث عن آثار الإجراءات المتخذة، وعبّروا عن معاناتهم من تراكم المستحقات المالية للعاملين وإيجارات المحلات المستأجرة، وذلك نتيجة الإغلاقات التي أثرت بشكل كبير على سير العمل في العيادات.
يقول أنور علي، أحد الشركاء في مجموعة الثقة للإسعافات الأولية: “إن مكتب الرقابة والتفتيش لدى وزارة الصحة وجه بتوقيف جميع فروع العيادة، مما تسبب لهم خسائر في فادحة تقدر بنحو 20 مليون ريال؛ ما يعادل 37 ألف دولار أمريكي، أجور ومستحقات العاملين”.
ويضيف: “ما زال الكثير من زملائه وشركائه حتى اللحظة في مشروع “عيادات الثقة” محتجزين في النيابة على ذمة تأخرهم في دفع الإيجارات المتراكمة، بينما يواجه البعض الآخر أحكامًا قضائية تلزمهم بإخلاء مباني العيادة وتسليم المبالغ المتبقية”.
انتهاكات صارخة للحقوق الإنسانية
ويعتبر الحصول على الخدمات الطبية والرعاية الصحية من الحقوق الأساسية لجميع الأفراد وفقًا للعديد من الاتفاقيات والمعاهدة الدولية؛ حيث تنص المادة رقم (15) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن لكل شخص الحق في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة له ولأسرته، ويشمل المأكل والملبس والمسكن والرعاية الطبية والخدمات الاجتماعية الضرورية”. فيما تنص المادة رقم (12) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية على “حق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية يمكن بلوغه”.
وتعدّ الإجراءات التي اتخذتها السلطة الصحية التابعة للحوثيين فيما يتعلق بإغلاق عيادات الرعاية الصحية انتهاكًا صارخًا للقوانين الدولية، وتقييدًا خطيرًا لحق الحصول على الرعاية الصحية، وفق ما أكده رئيس مؤسسة “دفاع للحقوق والحريات” هدى الصراري، مستندة في ذلك على المادة رقم (55) من الدستور اليمني، والتي تنص على أن “الرعاية الصحية حق لجميع المواطنين، وتكفل الدولة هذا الحق بإنشاء مختلف المستشفيات والمؤسسات الصحية والتوسع فيها، وينظم القانون مهنة الطب والتوسع في الخدمات الصحية المجانية ونشر الوعي الصحي بين المواطنين”.
ومن جانب آخر، تعتبر الصراري، أن التبريرات التي تستخدمها جماعة الحوثي حيال إغلاق عيادات الرعاية التي لا تمتلك تراخيص في ظل الأوضاع الحالية ضربًا من الجنون؛ حيث تشكل انتهاكًا للقوانين الدولية والتشريعات الوطنية، وتعتبر جريمة بحق المدنيين تصل إلى حد جريمة الحرب.
وأوضحت أن منع عمل المنشآت الطبية يثير تساؤلات حول الأهداف الحقيقية وراء هذه الإجراءات؛ حيث إن طواقم الإسعاف والعاملين في المجال الصحي تُعتبر من الأعيان المدنية المحمية بموجب القانون الدولي الإنساني. كما أكدت أن الحوثيين غالبًا ما يستخدمون المدنيين كدروع بشرية، مما يزيد من مسؤوليتهم تجاه هذه الانتهاكات.
ختامًا، وفي ظل استمرار هذه الإجراءات، ينتظر الكثير من المواطنين اليمنيين الحلول المناسبة التي تضمن الوصول إلى الرعاية الصحية والخدمات الطبية اللازمة بسهولة ودون صعوبات ومعاناة.