يواصل الرئيس علي ناصر محمد في كشف اغتيال الرئيس الحمدي وأخيه عبدالله، ومن هم خلف هذه الجريمة البشعة .. يقول الرئيس ناصر. مستطردا في حديثه:" إن القاضي محمد الحمدي قال انّ محسن دحابة (والد النائب الإصلاحي فؤاد دحابة) الذي كان يمتهن التنجيد، كان في منزل الغشمي يوم الاغتيال، وإنه شاهد الشيخ محمد الغشمي يستدعي الشهيد عبد الله الحمدي الذي كان قد وصل قبل أخيه إبراهيم من بين الضيوف، بحجة أنّ الأفندم أحمد الغشمي يحتاجه لأمر ما، وعند مرورهما صافح الشهيد عبد الله وتمازحا قليلاً، ثم واصلا سيرهما إلى حيث يوجد أحمد الغشمي، وبعد قليل سمع دحابة صوت إطلاق نار، وبعد الاغتيال قال إنه لو كان يعرف بما سيحدث لحذّر عبد الله، ولو أدى ذلك إلى قتله معه.
كان الشهيد عبد الله قد وصل من ذمار بدعوة من رئيس الأركان الغشمي، لتسلّم سيارات عسكرية لمعسكر العمالقة في ذمار، وعند وصول الشهيد عبد الله إلى صنعاء، أبلغه الغشمي بأنّ مفاتيح السيارات لدى سكرتيره محمد الآنسي، وأن الآنسي ينتظره في عَصِر عند القبر الصيني لتسليمه المفاتيح. ذهب عبد الله لملاقاة الآنسي، وعند وصوله أبلغه شخص كان هناك بأنّ الآنسي ذهب إلى بيت الغشمي بعد أن انتظره كثيراً، ما حدا عبد الله إلى التوجه إلى هناك، وعند وصوله التقى بأحمد الغشمي الذي قال له إنّ الغداء جاهز وإنّ رئيس الوزراء وآخرين من المسؤولين في الدولة قد حضروا، وليتفضل بتناول الغداء معهم، ومن ثمَّ يأخذ السيارات ويعود إلى ذمار. بعد أن أقنع الغشمي إبراهيم بالحضور، وتيقّن من حضوره، استدعى أخاه عبد الله من بين الضيوف لقتله.
ويستمر الرئيس ناصر في حديثه :" يقول القاضي محمد الحمدي إنّ المؤامرة كانت محبوكة جيداً، ولكن فات المتآمرين إدراك أنّ جريمتهم ستنكشف بسرعة، وأنّ أمرهم سينفضح. ويضيف أنّ مَن كان وراء المؤامرة، الشيخ محمد الغشمي والشيخ عبد الله بن حسين الأحمر من جهة القبيلة، وأحمد الغشمي وعلي عبد الله صالح من جهة الجيش، والسعودية كطرف خارجي ومموِّل، لأن العملية جرت بحضور الملحق العسكري السعودي آنذاك، صالح الهديان، ومشاركته، الذي حضر مأدبة مزعومة لكبار المسؤولين اليمنيين، ولم يكن ذا صفة لحضور مثلها.
الجنازة وقراءة القرآن
ويسترسل الرئيس ناصر قائلا:' بعد إعلان مقتل الشهيدين و أشيع جنازتهما وقراءة القرآن الكريم على روحيهما في الإذاعة والتليفزيون وإعلان الحداد على الشهيدين وارتداء ثوب حزن مفضوح وزائف، أُقيمت الصلاة على إبراهيم في جامع العرضي (العرضي مقرّ عسكري بُني في عهد الأتراك، وكان مقراً لقيادة قوات الاحتياطي العام التي كان يقودها إبراهيم حتى تعيينه نائباً لرئيس الوزراء للشؤون الداخلية، وهو حالياً مقرّ وزارة الدفاع). شارك في التشييع الرئيس الجنوبي سالم ربيع علي الذي أدرك وساوره الشك في الاغتيال الذي كان يهدف إلى إجهاض أي خطوة وحدوية يمنية، لأنه كان ينتظر وصول إبراهيم في صبيحة اليوم التالي للاغتيال إلى عدن، وقد قدم من عدن تحديداً للمشاركة في مراسم التشييع ولمعرفة حقيقة مقتل إبراهيم وأخيه ومواساة الأسرة بمصابها ومصاب الوطن. كان الغشمي يشعر بأنّ أصابع الاتهام موجهة إليه، ليس فقط من الرئيس سالمين، بل من الشعب اليمني كله في شمال اليمن وجنوبه، ومن بعض الإعلام العربي والدولي. وبعد إتمام مراسم التشييع، زار سالمين الأسرة لتقديم تعازيه وتعازي القيادة الجنوبية. وأثناء إقامة الرئيس سالمين القصيرة، أنكر الغشمي للرئيس سالمين أيّ صلة له بالاغتيال. ورافق سالمين في التشييع القاتل الغشمي وشريكه علي عبد الله صالح الذي كانت مشاركته تدينه، لأنه لم يكن عضواً في مجلس القيادة، ولا مسؤولاً عسكرياً كبيراً في صنعاء، وكان عمله في تعز قائداً عسكرياً للمحافظة.
كان وجود صالح أحد المؤشرات القوية والدامغة على تورط الاثنين في الجريمة. أثناء الدفن، كنت أودّ إلقاء نظرة أخيرة على أخي إبراهيم، وكان بجانبي السفير الأميركي الذي احتضنني وذرف دموعه حزناً على إبراهيم، وحالت عواطفه الجياشة وغير المتوقعة دون رؤيتي لوجه إبراهيم لآخر مرة. بعد الدفن هتفت الجماهير: "أنت القاتل ياغشمي... أنت القاتل يا غشمي"، ورمته بالأحذية أثناء خروجه من مقبرة الشهداء في شارع تعز، وقد ظهرت الأحذية فوق رأسه، في تغطية خبر الدفن في اليوم التالي بجريدتي الثورة التي تصدر في صنعاء، والجمهورية التي تصدر في تعز. ويضيف شهاب محمد الحمدي الذي شارك في مراسم الدفن أنه بعد انتهائها انتظر والده في السيارة مع الحراسة أمام بوابة المقبرة، وكان علي عبد الله صالح يذرع المكان من المقبرة وإليها ذهاباً وإياباً، وكان يبدو عليه القلق والخوف الشديد بسبب غليان الجماهير التي لم تصدق الرواية الرسمية للاغتيال، وخوفاً من انفجار الوضع في تلك اللحظة وخروجه عن السيطرة. وبعد خروج والدي من المقبرة التفّت حوله الجماهير لتعرب عن حبها للشهيد إبراهيم، ولتعزيته، وبالكاد تمكن من الصعود إلى السيارة التي حاول كثيرون رفعها فوق رؤوسهم، تعبيراً عن وفائهم للشهيد وحبهم لأسرته.
الغشمي يقدم العزاء
ويتابع الرئيس ناصر ويقول: في اليوم التالي أرسل الغشمي وفداً إلى مدينة ثلا لتقديم العزاء إلى القاضي محمد الحمدي، وإلى العائلة، وكان الوفد برئاسة عبد العزيز عبد الغني وبعض الوزراء، ومنهم محسن اليوسفي، وزير الداخلية، ومحمد عبد الوهاب جباري وآخرون. لقد كان أعضاء الوفد وغيرهم متواطئين في الجريمة، فعبد العزيز عبد الغني كان في بيت الغشمي أثناء الجريمة، وقد صمت وكأنه لم يكن يعرف شيئاً عنها، بالرغم من أنّ إبراهيم هو الذي اختاره لرئاسة الوزراء في كانون الثاني/ يناير عام 1975، وكذلك محسن اليوسفي الذي كان شريكاً في الترتيبات، والذي كان إبراهيم يسميه وزيرَ الحكومة السعودية في مجلس الوزراء اليمني. هؤلاء وغيرهم لم يستنكروا جريمة الاغتيال وطريقتها، ولم يحولوا دون محاولة إصدار الغشمي لبيان مخزٍ، زعم هو وشركاؤه في مسوّدته التي لم يُكتب لها أن تتحول إلى بيان حكومي رسمي يعبّر عن أخلاق القادة الجدد، أنّ عبد الله وإبراهيم قُتلا وهما في وضع أخلاقي مخلّ مع فتاتين فرنسيتين. وقد عرف الناس بُعيد الاغتيال قصة الفتاتين ومَن جنّدهما من الدبلوماسيين اليمنيين في باريس، ومَن رتّب سفرهما إلى صنعاء وإقامتهما فيها، ورمى بهما إلى أحضان الموت لتغطية جريمة سياسية ووطنية بارتكاب جريمة أخلاقية بجانبها. كان العالم كله يريد معرفة الحقيقة التي ظنّ الغشمي، وصالح من بعده، أنها دُفنت مع الشهيدين، ولم تخلُ مقابلة صحفية لعلي عبد الله صالح، بعد أن تولى رئاسة الدولة بعد اغتيال الغشمي على يد مبعوث جنوبي انتقاماً لإبراهيم، من سؤاله لسنوات طويلة عن الاغتيال وعن نتائج التحقيقات التي زعم الغشمي، ثم هو شخصياً من بعده أنها جارية، وكان في كل مرة يردّ بأنّ التحقيقات مستمرة، مع أنه يعرف، كما كان يعرف الصحفي السائل، غياب أي تحقيق أو تحرٍّ أو متابعة، لأن المجرم لن يشكل لجنة لكي تدينه وتحقق العدالة وتقذف به إلى حبل المشنقة (كانت آخر مقابلة، إن لم تخنّي الذاكرة، مع رئيس تحرير صحيفة الأهرام المرحوم إبراهيم نافع عام 1987).
وقال محمد عبد الله الفسيل بعد اغتيال إبراهيم للسفير حسن السحولي إنّ القاضي الإرياني كان فرصة وضاعت، وكان إبراهيم فرصة أخرى وماتت. بعد اليوم، وبعد ما جرى، لا أمل.
شهادة صفية الحمدي
ويواصل الرئيس ناصر حديثه وقال:" ثلاثة أعوام وأربعة أشهر ويومان أمضاها الراحل رئيساً لليمن قبل أن يذهب لدعوة غداء كان الغداء الأخير له ولشقيقه القيادي العسكري عبد الله. ورغم أنّ التفاصيل متداولة وغير مؤكَّدة من أيّ طرف من الأطراف، لكن شقيقته تحدثت لنا لتكشف معلومة تحسم بعض الشك في مسألة مكان الاغتيال، حيث جرت فبركة الحادثة حينها، وأُلبِس الراحل تهمة الاختلاء بفرنسيتين جُلبتا خصيصاً للحادثة، وظهر الحادث أنه كان لغرض أخلاقي، وأنّ الرئيس وشقيقه قُتِلا بجوار الفرنسيتين اللتين كانتا مقتولتين أيضاً قبل ذلك.
تروي "صفية الحمدي"، الشقيقة الكبرى للرئيس الراحل، تفاصيل الحادثة، حيث التقت أخاها الرئيس في منزله، وهي قادمة من قريتهما "ثلا" (30 كيلومتراً غربيّ العاصمة) بعد عودته من دوامه الرسمي.
تقول صفية: "وجدته عائداً من العمل، وقال لي: أهلاً أختي، متى جئتِ؟ قلتُ له: الآن وصلتُ. ودار حديث عادي بيننا، وقال إنه سيذهب لدعوة غداء عند الغشمي، رغم أنه كان يريد الغداء في بيته، لكن اتصلوا به وأصروا على أن يحضر. قال لهم إنه تعبان ومرهق، وقدمنا له بطاط مع "السحاوق" (طماطم مسحوق مع الفلفل والبهارات)، وكان قد بدأ يأكل البطاط، وكان يحبها، وبعد قليل كنا سنقدم له الغداء، وكان معه شخص اسمه أحمد عبده سعيد، كان سيتغدى معه.
وكان يقول لهم: ما فيش سيارة. وبعدها رأى السيارة التي أتت بي من القرية، وقال لهم: خلاص سيارة أم عادل موجودة. وهذا الموقف ما زال يحزّ في نفسي، كانت السيارة لم يمضِ على شرائنا لها سوى أيام من واحد جارنا في ثلا".
تتابع: "كنتُ أرغبُ في الجلوس معه، لكنهم أصروا، ولم يكن قد مضى على زيارته لي في القرية سوى 4 أيام، وقال لي: خلاص، انتظريني. سأتغدى عند الغشمي وأرجع سريعاً، وشفته آخر مرة من نافذة المطبخ".
وتضيف صفية: "انتظرتُ إلى الساعة الرابعة عصراً، ولم يعد، فغادرتُ منزله وعدتُ إلى القرية، وسمعتُ مثل الناس الفاجعة بأنهم اغتالوه هو وأخي عبد الله".
"عرفنا فيما بعد أنّ عبد الله استدعوه بحجّة أنّ هناك سيارات جاءت هدايا وسنوزعها للوحدات العسكرية. (تعال استلم نصيب وحدتك). وجرى التمويه على الاثنين، لأنّ عبد الله لا يحضر مكان فيه إبراهيم، وكذلك إبراهيم الشيء نفسه.
أما إبراهيم فقالوا له: تعال نتباحث في مسألة المفاوضات على الوحدة. وهو كان مسافراً في اليوم الثاني إلى عدن. وقالوا له إنّ عبد العزيز عبد الغني موجود (حالياً رئيس مجلس الشورى، وحينها كان عضو مجلس القيادة)".
وعلى عكس ما لًفِّق حينها، تنقل شقيقة الراحل معلومة مهمة، وهي أنّ "السائق الذي أوصل الرئيس الحمدي قال لنا إنّ أحمد حسين الغشمي هو الذي استقبله في الباب، وسلّم عليه وأدخله، وبعد ابتعاده مع السيارة بقليل سمع إطلاق نار، قال إنه لم يبتعد كثيراً، وقد سمع إطلاق النار ولم يكن يتوقع أنّ الرصاص كان في صدر الرئيس الحمدي".
وأضافت: "السائق كان هو السائق عندي، وأكد لي ذلك، لكنه لم يكن يتوقع أن يكون إطلاق النار على الرئيس".
(للحديث بقية)