كتب/ فهمي غانم
كيف لهذا الشاب اليمني القاص محمد أحمد عبد الولي المولود عند مشارفة العقد الرابع من القرن الماضي على الإنتهاء وبالتحديد في 12 نوفمبر العام 1939م أن يغسل وجعه بالكلمات وأن ينسج منها كلّ تأملاته وسردياته القصصية بمعيار الجودة وبِرسمٍ إبداعي جميل حتى غذا من لزومياته وعنوانه إلى العالمية..
فقد برع في فن القصة والرواية كشكل إبداعي مثير للإهتمام ملئَ بها فضاءاته من منظور أكاديمي التزم فيه مذهب الواقعية الإشتراكية وانتصر لها وهي التي تشكلت من رحم الكلاسيكية وتجاوزت الرومانسية والسريالية فاقترب كثيراً من تصوير المشاهد بكل إحترافية الأديب وقدرته على تصوير الزوايا الخفية ربما كبديل إبداعي يثري العمل القصصي خلافاً للقصة الطويلة الكلاسيكية التي غرقت كثيراً في التفاصيل وشربت من ماءها حتى كادتْ أن تختنق..
يبدو أن تطور المرحلة في نهاية الستينات وبداية السبعينات وظهور المدارس الأدبية وتنويعاتها الإبداعية وأشكالها المؤسسية كان مؤشراً إيجابياً على زحف الجديد وإحلاله موضوعياً فتمكنتْ القصة والواقعية منها وخاصة الواقعية الإشتراكية التي ارتبط إسمها بالثورة البلشفية في روسيا من أن تفرض هيمنتها على المشهد الادبي كله وتتبوأ سُدة العرش الأدبي وتتقدم المسيرة وأن تزيح من طريقها كلَّ ماعلق بالأجناس الأدبية الأخرى أو على الأقل الحد من تغولها وتأثيرها بعد أن خبأ سحرها وتوارى ظلها فقد حققت القصة القصيرة كما يبدو إمتدادات بينية أزالت ذالك الغموض وتلك السرديات الطويلة والهوامش المفتعلة التي صاحبت القصة التقليدية كلون ادبي ظلَّ الفارس الذي يُحسب له حساب ردحاً من الزمن فتقدمت القصة على يد رائدها في اليمن محمد عبد الولي الصفوف كمبدع يشدُّ الرحال إليه حمل راية التجديد بكل شفافية الأمر الذي سمح له الإقتراب أكثر من كشف المستور والدخول إلى المناطق المظلمة والإبتعاد عن النمطية والتجريد والاعتناء بالتفاصيل الهامشية التي ربما لاتعكس روح العصر بإيقاعاته المتجددة مما يجعلها تتموضع في زوايا ضيقة تُحشر فيها حشراً فيصبح العمل هنا أشبه بخيال المآتة التي لا يتجاوز اللحظة وهو الأمر الذي كما يقول نقاذها أفقد القصة الطويلة الكثير من بريقها وفعاليتها بعد أن أُنهكتْ بالتفاصيل فأضطرت أن تنزل من برجها العالي لتتسول حاجتها إلى ترويج جديد لها..لكن الرأي السديد أن الإبداع حالة مستدامة نجده في كل الألوان والمدارس المختلفة ولانستطيع الجزم أن أحدهم صرع الآخر بالضربة القاضية وأحسب أن المسألة ليست بهذه السهولة والخفة لأن كلَّ لون له أساليبه وأدواته وكل فيه الثراء والمتعة والتشويق والخيال وكل لون له جمهوره ومريدوه..
والنموذج عندنا رواية (يموتون غرباء) التي صدرت في عام 1971م والذي كتب مقدمتها الأستاذ الفقيد عمر الجاوي من أهم الروايات اليمنية التي تؤرخ ريادة القاص عبد الولي للقصة في اليمن..
(يموتون غرباء) نبشت عش الدبابير ودخلت المناطق المحرمة في تجربة ساخنة وإحساس مفرط بالألم بين واقع مرير وحلم بعيد المنال وكشفت ذالك (التناقض الحاصل بين الإنتماء والهوية والواقع) كما قال به حسن عبد الوارث..
بطلا القصة عبد سعيد وطائتو الحبشية إذ كانت الغربة هي المشترك بينهما فعند عبد سعيد مثّلت الغربه عنده جسراً لخلخلة مفهوم العبودية السياسية والثقافية عبودية الداخل المفكك إنسانياً فكانت رحلته بهذا المفهوم رفضاً للثابت ومداعبة لحلم بقصر أو بيت حتى يقول الناس أجملَ بيت بيت عبد سعيد أجمل قصرٍ قصر عبد سعيد وهو رمز معنوي وأخلاقي له علاقة بوطنه لكن الحلم تحول جسداً ذابَ في قبر صغير ضمه في تلك البلاد البعيدة الحبشة..
هنا بصيرة سياسية وشفافية ثاقبة إذ يتلاعب بالرمز إبداعياً على نحو جميل فالحلم هنا تسطير أخلاقي لما يدور في عقله باستعادة وطن مفقود وحلم موعود وهذا هو سر أزمته الوجودية التي حملته على الهجرة هروباً من ذالك الفارق الإنساني وهذا ربما هو الذي جمعه مع بطلة القصة طائتو فاقدة الإحساس أصلاً بالإنتماء نظراً لوضعها في السلم الإجتماعي الأدنى كإنسانة تعيش على هامش الحياة ومن دكانه الصغير في المركاتو أعاد تشكيل الوعي الجمعي الذي أفرزه الإحساس بالظلم الإجتماعي والطبقي فكانت تلك المرأة المهمشة تعيش لحظات من اللذة الفارغة التي لامعنى لها إلاّ لتعويض ماتراه إحساساً عميقاً بالظلم وإنسحاقاً طبقياً مدمراً فهي نموذج لإمرأةٍ موجودة جسداً فوق أرضها ووطنها الغائب عنها نفسياً وأخلاقياً ووضعها المهمش في مجتمع لايرحم إتضحت معالمه تحاول فهمه وترويضه إلاّ أن المسافة بعيدة وعميقة
(هناك الآف من السكارى الأغنياء يملكون قلوباً من ذهب وهناك فقراء لايملكون فرنكاً واحداً لكنهم يبيعون أنفسهم ليعيش أبناءهم)..
حوار مشحون بالألم بين مجتمع مخملي ناعم وبين مجتمع خشن يجسد الفارق الإنساني ويعكس إتساع الفجوة بين الخير والشر في ثنائية تراجيدية مأساوية هي إحدى تجليات الصراع النفسي الذي يعيشه المهاجر على خلفية وطن مأزوم ووضع إجتماعي وإنساني مسدود وفي ظروف بالغة التعقيد
وقد أكد ذالك الكاتب الفلسطيني الأمريكي أدوارد سعيد إنّ الرواية (هي سبر للأغوار النفسية لشخوصها)
هنا لايلتزم عبد الولي بالضرورة برؤية أحادية جامدة إنما هو يحرك النص من داخله ويفتح المجال عمَّن يؤطر ذالك الإحساس المنبعث من قصصه ضمن حسابات دقيقة يخرج فيه من القيود المدرسية إلى فضاءات التعبير الحر فهو يفكك الواقع ويجعل من قراءته متعة ذهنية وفنية وثقافية وذوقية وقبل ذللك إنسانية مع خلفية فانتازية متسمة بالخيال والجمال والدهشة..
كان أكثر ذكاء من أن تقوده تفاصيل علاقته بتلك المهمشة خارج السياق الدرامي للقصة وبنيتها الفنية فقد حافظ فيها كغيرها من الروايات على إستقامة النص ومنهجيته وعمقه اللغوي وخياله الثري مستفيداً من تراكم الخبرة وتنوع التجربة وسلاسة الصياغة ونقاء التعبير وتداخل الجمل بشكل مموسق وأنيق وقد أفضى هذا إلى تطور لاحق للقصة الواقعية فقلّص كثيراً من تأثير القصة الطويلة فأصبح الحضور الإبداعي عنده صمام أمان لسلامة القصة وجودتها..
إن هذا التطور الملموس حقق أهدافه من خلال الخروج عن المألوف والعادي وتزاحم تلك الصور والمشاهد والأفكار التي لم تعد صالحة للعصر الأدبي الجديد القائم على منهجية الفعل الأدبي على نحو يخلق حالات مستديمة من الألق والنشوة والصعود إلى مدارج الاضواء بخطى حقيقية ومحسوبه لكنها ناجحة..
(نحن ياصغيرتي لا أرض لنا لاتربة لنا إننا ضائعون)..
هنا الحبكة..هنا العقدة..هنا الأزمة..هنا الضياع..
بهذه القدرة والمناورة الفنية بالكلمات والإشتهاء اللفظي فقد شهدت القصة عند هذا القاص المتميز ميلادها وشهرتها وواقعيتها وحملت في طياتها جهازها المناعي الذاتي ونظام حمايتها الفطري وامتلكت لغتها الخاصة وأناقتها التعبيرية فهي لاتسقط المفاهيم الأكاديمية إسقاطاً مخيباً للآمال بل تتعامل مع المصطلحات بشئ من الحساسية اللغوية الراقية التي لاتتقولب بل تنضجها على مفاعيل هادئة وبشكل إحترافي أكاديمي مهني إبداعي جميل كأنّكَ تعيش المشهد أو تتخيله من خلال أدواته الفنية المعتبرة وعناصر الجمال المكتملة ويصبح النص بدلالاته الحسية والروحية جهاز استشعار للواقع ولكن برسم خيالي ناضج بعيد عن الغلو والشطط أو التمدد عند أعالي النص وهو بقدراته تلك يحول النص الى جسم (فرط صوتي) إذ جاز لنا التعبير يتجاوز الاحساس السطحي إلى ماوراء ذالك للوصول إلى الهدف بكل حرفية ومهارة واقتدار فيرشقنا عندها محمد عبد الولي بتشكيلات قصصية بنيوية وبأضواءٍ كاشفة تعطينا مساحة أفضل للرؤية فهو يعود لاكتشاف نفسه واكتشاف الأحداث والأشخاص ويعيد خلقها وإنتشالها من واقعها السئ كما فعل في قصة (يموتون غرباء) ولكن بسلاسة معرفية وقدرة استنطاقية للحالات الإنسانية فهو يقترب منها ليزيل عنها الحرج من خلال العيش بداخلها وترجمة مشاعرها واحساسها والدخول بنا الى عالمه الخاص برؤية مستبطنة للإنسان وواقع شفاف ينساب الينا بصور ومشاهد على نحو من الحداثة والتجريب ومن موقف ثابت ثري تجد فيه الخيال جنباً مع الواقع في تلازمية متوائمة وفعل أدبي راق ليستفز ملَكاتنا نحو تجويد متقن لقرآءة نصوصه على نحو أفضل فهو يجمع مترادفات الحياة وتناقضاتها ومتوالياتها ومشاهداتها الحسية والروحية ليشحن فينا مواقف إيجابية وهذا هو الهدف الأسمى للواقعية فهي ليست هروب من الخيال أو عجز عن التنميق والتزيين والترصيع بكل المحسنات البديعية والمهارات البلاغية ولكن نحن أمام نص معبأ بكل المشاعر الإنسانية المتناقضة التي تحمل وجعها وألمها وغربتها وقسوة الحياة خارج الوطن وكأننا أمام سيناريو حُبكت لقطاته في مشاهد درامية تراجيدية..
وقد قال عنها د إبراهيم أبو طالب(هي الأكثر نضجاً وتأسيساً)..
سرديات محمد عبد الولي ليست من باب إستدرار العواطف لأن ذالك وقتي وظرفي بل أنه يُحمّل الكلمات حملها الأيقوني ويدفع شحناتها نحو إطارات الحياة المختلفة لتكون لسان حاله ومراد قصده وسلسلة التزاماته الروحية وشغفه نحو خلق مبررات وجوده الانساني وأثره في المنظومة الفكرية والأدبية وصولاً لتأسيس نظريته الخاصة للادب والقصة بشكل خاص..
وفي (يموتون غرباء) نجد تلك العقدة التي نشأت من الاغتراب عن الوطن فكان الإحساس عميقاً لكنه كان مفتاح الجودة في الإقتراب بعمق روائي أفضل ولربما نجد المرأة هنا معادل موضوعي للحرمان فعبد الولي ينتصر لها وللأرض والإنسان من حيث هو كائن حي فيقدم بانوراما وصفية للرغبة والخوف واللذة والألم لكنه بتأطير غير مفتعل فيضع الشخوص خاصة طائتو بطلة القصة تلك المرأة المهمشة بقالب إنساني يرتفع بالأحداث وفقاً لمتوالياتها المشبعة بالجراح النازفة وما اختزنت به ذاكرته فهو يقدمها هنا كرمز مكثف لحالات الإستلاب الإجتماعي والنظرة الدونية لبعض الفئات فهي تعيش حالة إنسحاق طبقي في مجتمع يتحكم فيه ثالوث التخلف والرجعية والتقاليد العتيقة فتصبح اللذة هنا معياراً للتنفيس وإطلاق بالونات تعزز فيه حريتها فقد استطاع محمد عبد الولي أن يعيد نفخ تأملاته في روحها لينسخ منها نسخة جديدة تبرز فيها قدرات تلك المهمشة وتصبح مشروعَ حياة قابلاً للتمدد والإتساق مع إنسانيتها لمواجهة واقعها الغير متجانس وهو بذالك إنما يعكس روحه ومايريده للوطن من عودة الروح إليه ليتحرر من حالة التبعية ومن نفس الثالوث المتخلف..
ليس بالضرورة أن تنتهي القصة بالفرح فالبداية هي التي صنعت النهاية
لم يكمل عبد الولي مشروعه لأنه ببساطة فقد مات بطله عبد سعيد قبل أن يبلغ المنى لكن القاص الأديب محمد عبد الولي استعرض بذكاء ملامح مأساة المغترب اليمني وخاصة المولودين منهم الذين يجترحون الألم ويعيشون نكبتهم النفسية على نحو أمرّ من العلقم..
ولهذا يقول أدوارد سعيد (لقد ساهم كون الكاتب مولوداً من أب يمني وأم أثيوبية في نقل صورة واقعية عن هذين العالميين دون تزييف)..
نستطيع التأكيد أنّ الأديب الروائي محمد عبد الولي قد أكمل مشروعة في الحياة وبشّرَ به في عدد من أدبياته وأعماله منها (الأرض ياسلمى) و(شئ اسمه الحنين) و(عمنا صالح) و(صنعاء مدينة مفتوحة) وتعامل مع الرمز في بعض منها برؤية فنية ولغوية وجمالية التقط فيه معطيات الواقع وقدّم تصوراته المنحازة للفقراء على نحو متوازن ومتسق مع مبادئه وقيمه وثقافته وتجربته الحياتية..
########انتهى