في رواية "اللعنة"، الصادرة عن "دار نوفل" في بيروت هذا العام، تُقدّم الكاتبة السورية سها مصطفى، في 174 صفحة، سردًا مُكثفًا يمزج بين عوالم تاريخية وروحية مختلفة، ما يعكس نضجًا أدبيًّا يتجاوز كونها تجربتها الروائية الأُولى.
تتوزّعُ الرواية على ثلاثة عشر بابًا، هي: باب الليل، باب الجواري، باب الزمان، باب المكان، باب اللعنة، باب العشق، باب النساء، باب الحرب، باب دمشق، باب الله، باب عشتروت، باب المُلك، باب البحر، وتدور الأحداث بين زمانين ومكانين مختلفين، تربط بينهما خيوطٌ رفيعة، يتمثّل أبرزها بالاعتقاد الباطني بأنّ الروح لا تفنى، بل تعيش في كلّ مرّة حياة جديدة في زمان ومكان مختلفَين.
في بداية الرواية، نُستقبل بولادة الطفلة "حمامة"، التي تأتي إلى الحياة في قرية علَويّة تقع في جبال النصيرة، إبّان فترة الاستعمار الفرنسي. تولد لأسرة تسعى لإنجاب فتاة تساعدها في الحقل وتربية الأولاد، لكن سرعان ما تكتشف رفقة، عرّافة الأطفال والقابلة التي سحبت الطفلة من بطن أمّها، وجود ندبة على جذع الطفلة الأيسر، وهو ما كان يُعتبر في تلك الحقبة نذير شؤم. هذه الندبة تظهر فقط عند الأشخاص المختارين ليعيشوا أكثر من حياة، بروح واحدة تتنقّل بين أجسادٍ متعدّدة عبر العصور والأماكن. ووفقًا لاعتقاد أهل القرية، فإنّ هذه الطفلة تحمل في روحها حكاية من زمن قديم وجيل مندثر.
شخصيتان من زمنين مختلفين يجمع بينهما خيط شفيف..
مع ولادة حمامة، تبدأ الرحلة الشاقّة التي تسير في ظلّ عادات همجيّة وانتهاكاتٍ متكرّرة بحقّ النساء، إذ تتعرّض لاعتداءات من قبل والدها بتحريضٍ من شيخ القرية الذي تكشف حقيقته بحدسها وقوّة بصيرتها، فيتّهمها بأنّها شيطانة ويجب التخلّص منها. هكذا يبيعها والدها ببساطة لأحد التجّار، لتعيش في أجواء قاسية وغريبة في مجتمع تشيع فيه التقوى ظاهرًا والرذيلة باطنًا، حيث المثليّة المنتشرة بين الرجال والنساء، وغلبة القويّ على الضعيف، وحتى اغتصابها.
تكتظّ الرواية برؤىً تتناول المجازر التي ارتكبها العثمانيون ضدّ العلويّين، حيث فتك السلطان العثماني سليم الأوّل بهم في حلب. رؤى الدماء والجماجم طاردت حمامة، رغم أنّها وُلدت بعد أربعة قرون من تلك الأحداث، لتنسج خيوطًا متشابكة بين التاريخ والعادات والمعتقدات الباطنية.
أمّا الزمان والمكان الآخران، فهما في فترة حُكم السلطان سليم الأوّل. محور هذه الفترة هو "رميا"، الفتاة الغنوصية التي نكتشف أنّها من أصحاب الكشف، حيث عاشت بصحبة "إنانا" بعد أن مات والدها. رميا هذه وجدت نفسها في قصر السلطان بعد أن أراد مضاجعتها فارسٌ يدعى جعفر، فرفضت، ليعود بعد فترة، يقتل إنانا ويحرق الحانة التي تعيش فيها رميا ويأخذها إلى إسطنبول، حيث يبيعها في سوق النخاسة إلى أتاماي، رئيس الحاشية في السراي، الذي سيضمّها إلى باقي محضيات القصر.
تضع الرواية المرأةَ في قلب المعتقد والتاريخ والنظرة المجتمعية..
رغم أنّ حمامة ورميا تعيشان في زمنين مختلفين، إلّا أنّ خيطًا شفيفًا يجمع بينهما، ما يجعل القارئ يلمح أنّ العلاقة ليست منفصلة، بل تعكس فلسفة تناسُخ الأرواح والانتقال بين الأجساد. حمامة التي تعيش في ظلّ الطائفة العلَوية وتتماوج بين الإلحاد والمسيحية، ورميا التي تتبنّى حكمة الغنوصيّين، تحاولان اكتشاف الذات وكشف الأسرار العميقة التي تخبّئها الروح.
تتعمّق الرواية في استكشاف التاريخ وخفاياه، عبر رحلة كلّ واحدة، حيث تعكس كلّ منهما انتماءها بطريقة مختلفة؛ حمامة المنتمية إلى طائفة تتناقل طقوسها الدينية شفهيًّا، ورميا التي ترفض الأديان التقليدية وتعتنق "العقل وصبوة الحكمة" دينًا لها، فتظهر شخصيتها الحكيمة مع السلطان، وبين جدران قصره المحفوف بالدسائس والعلاقات المعقّدة.
رغم التشابه النفسي بين الشخصيّتَين، إلّا أنّ مصيريهما يختلفان، حيث يلتقي مصير رميا الموت على يد السلطان، مثلها مثل كثيرات قبلها، بينما تهرب حمامة من قريتها متخفّية في زيّ راهبة إلى بيروت، بعد أن اتُّهمت بممارسة الفاحشة، حيث أرادوا قتلها. اختلاف المصير هو الإشارة إلى نهاية حياةٍ وبدء أُخرى، فلا نهاية حتميّة للروح. إذا انتهى جسد رميا بالموت، فإنّ الروح تتجدّد بهرب حمامة والبدء بحياة جديدة.
يغلب في الرواية الصوت الأنثوي مع تداخُل أصوات الذكور وتأثيرها في سير الأحداث، إلّا أنّها رواية تُقدّم المرأة بالدرجة الأولى، تضعها في قلب المعتقد والتاريخ والنظرة المجتمعية، هي في كلّ الأحوال مصائر لم يرغبن في عيشها بإرادتهنّ، هكذا يولد الإنسان ليجد نفسه في مكان وزمان لم يخترهما، فيفرضان عليه سطوتهما وأقدارهما.
بهذه الحبكة المعقّدة والمشحونة بالتفاصيل الفلسفية والتاريخية، تُثبت هذه الرواية أنّها ليست مجرّد تجربة أُولى عابرة، بل عملٌ أدبي متكامل ينمّ عن جهد بحثي، حيث تُظهر الكاتبة إمكانيّتها في طرح المعتقدات الباطنية والغنوصية بشكل سلس ضمن السرد الروائي.
قدّمت الكاتبة روايةً مشغولة بعناية، ميّزها سرد متماسك على طول الخطّ، بلغة تجنح أحيانًا إلى التفلسف وشعرنة النص ومن ثمّ العودة به إلى طبيعته السردية. قد لا يخوض الكاتب في عمله الأوّل بمثل ما خاضت به سها مصطفى، لكونه يمثّل خلاصة بحث ومعرفة بأسرار ما تكتب عنه.