قليلة هي الأحداث التحويلية التي تُغيّر مجريات الأمور وتُوجّه مساراتها إلى سياقات جديدة بعيدة عن التوقعات والاستنتاجات المبنية على معطيات الحراك الطبيعي للصراعات وتفاعلاتها.
ففي اللحظة التي بلغ فيها منحنى الصراع الإقليمي حدّ التوازن، ومالت أغلب السيناريوهات إلى احتمال بروز مرحلة جديدة من التنافس السلمي بين المحور الإسرائيلي والمحور الإيراني، استنادًا إلى المكاسب التي حققها كل محور عقب انتصار الثورة المضادة التي أطاحت بثورات الربيع العربي، كنتيجة لتحالف غير معلن بين الشركاء المتناقضين.
في الوقت ذاته، جاء هذا التوازن نتيجة الاستحقاقات الجيوسياسية التي أفرزتها الحرب الروسية الأوكرانية، وصراع الشرق مع الغرب، ومحاولة العمل في مساحة المشتركات بين الإدارة الديمقراطية الأمريكية والنظام الإيراني.
بناءً على ما سبق، اتجهت التوقعات نحو سيناريوهات تُرجّح حدوث تسوية بين المحورين، ولو بشكل مؤقت، ما فعلته حركة حماس من خلال عملية "طوفان الأقصى" كان بمثابة بعثرة حقيقية لكل الأوراق، وتغيير عميق في الحسابات والتوازنات.
لقد أحدثت العملية تحولًا كبيرًا في مسار الصراعات والتسويات، ووضعت المحورين، مع الدول والأذرع التابعة لهما، في مواجهة عسكرية مباشرة وصدام حقيقي، مما نسف الشراكة الخفية وتبادل الأدوار التي مورست لأكثر من عقد في مواجهة الربيع العربي والإسلام السياسي السني، كما غيّرت بشكل حاد قائمة الأولويات والاستراتيجيات الأمنية لكل طرف.
ونحن في ذكرى الطوفان، نشير إلى أن السابع من أكتوبر 2023 لم يكن مجرد تاريخ عابر أو حادثة نوعية، بل كان حدثًا تحويلياً تجاوز كل الخطوط الحمراء وكسر كل المحددات المرسومة، فقد نقل المنطقة من حالة التوازن إلى دائرة المواجهة المفتوحة، مما جعل التوقعات والتحليلات مجرد تخرصات وتخمينات، ورجماً بالغيب لا يلامس المستقبل ولا يقترب منه، وعلى العكس من ذلك فقد أصبح وقوع المفاجآت والأحداث غير المتوقعة أمرًا حاضرًا في أغلب الأوقات.
لقد غيّر "طوفان الأقصى" حسابات الدول، وكشف بوضوح طبيعة النظام العالمي الذي تقوده أمريكا، كما عرى الحضارة الغربية، وأظهر كيف أن القيم التي يرفعها الغرب قد تحوّلت إلى همجية رعناء ووحشية كاسحة ،
وشاهد العالم ديمقراطية أمريكا وقد استحالت قمعا واستبداداً مقيتا ، وانتهاكا غاشما لأبسط الحقوق والحريات، وأدرك الجميع أن أمريكا تقود مشروعًا صهيونيًا استعماريًا عنصريًا، دمويا، لا يُقيم للإنسان أي حق ولا يرعى للنفس البشرية أي حرمة.
كشف الطوفان بكل وضوح حجم التجهيل الذي تُمارسه الأنظمة على الشعوب، وكيف تمت مصادرة وعيها وإرادتها الحرة ، كما فضح الأنظمة العربية والإسلامية التي فقدت القدرة على فعل، أي شيء مهما كان بسيطا، وقول أي شيء مهما كان تافهاً.
ولم نعد نسمع ولا نتابع سوى العربدة الإسرائيلية والغطاء الذي يوفره السيد الأمريكي، الذي يمارس بلطجة وسطوة رعاة البقر مع العالم أجمع. اليوم ومع اشتداد المواجهة بين إيران وإسرائيل بشكل دراماتيكي، و بغض النظر عن المستوى الذي ستصل إليه الأمور بين شركاء الأمس أعداء اليوم، يبدو أن كل التوقعات والسيناريوهات معرضة للخيبة وعدم التحقق. فقد قضى "طوفان الأقصى" على علم التنبؤ من أساسه، وجعل كل الاحتمالات واردة.
وفي ظل جنون نتنياهو وجريه المحموم وراء أحلامه التلمودية، نأمل أن نكون على مشارف الوعد الحق، وأن تشهد الأيام القادمة أحداثًا تغيّر موازين القوى لصالح الشعوب المقهورة، التي ما زالت تبحث عن حريتها وإرادتها المصادرة.
ولله درك، أيها الطوفان.