آخر تحديث :السبت-21 ديسمبر 2024-06:47م
أدب وثقافة

قصة قصيرة .. ليلة طويلة

الثلاثاء - 01 أكتوبر 2024 - 09:52 ص بتوقيت عدن
قصة قصيرة .. ليلة طويلة
كتب/ شعيب خليل الحربي
ليس ثمة قريب أو صديق لي في هذه المدينة التي أدخلها لأول مرة بحثاً عن عمل لأقضي عنده هذه الليلة الطويلة لابد.
النقود لا تكفي لإستئجار غرفة في فندق، أو حتى سرير في استراحة ما..
وليس ثمة مكان بديل عن هذا السطح الذي يغرق بالقذارة والأوساخ..
أكياس نايلون كثيفة، وأوراق قات يابسة، أعقاب سجائر صفراء، قنينات بلاستيكية بعضها فارغة وبعضها نصف ممتلئة بالماء أو البول، بصاق أخضر وأسود على الأرض والجدار.
رجال نائمون على الرغم من كل ذلك، وثمة رجل خمسيني يتكئ على مقربة منهم منهمكاً بمضغ القات بشراهة وتلذُّذ.
نظر إلي بريبة واستغراب. كانت عيناه تلمعان وهما تعكسان ضوء مصباح معلق في سطح أحد الدكاكين المقابلة..
تجاهلته وأنا ألقي بقطعة من الكارتون المهترئ على فسحة من السطح تبعد عنهم قليلاً، وتهالكت عليها كخيمة تقطعت أوتادها بفعل عاصفة عاتية.
أغمضت عينَيَّ في محاولة مني لإستحضار النوم دون جدوى، ربما فقدان حاسة واحدة فقط لا يكفي للنوم، ولا أدري هل لابد أولاً أن نتخلى عن كل حواسنا لننام، أم ننام في البدء، ثم نفقد كل حواسنا بعد ذلك.
ضجيج المكان - بما في ذلك شخير النائمين إلى جواري - ما يزال يخترق أذنَيَّ..
وحالة الطقس في هذه المدينة المدارية، وكذلك رائحة السيجارة التي ينفثها ذلك الرجل تبعثان على الإختناق والشعور بالضيق.
أسراب كثيفة من "الناموس" تعزف في أذنيَّ موسيقى مستفزة تثير حفيظتي، ودون أن أشعر؛ تهبط على أماكن متفرقة من مدرج جسدي، تغرز خراطيمها الطويلة فيه لشفط المزيد من الدم، أَحُكُّ وأحكُّ على إثر ذلك، أتغطى بثيابي لدرئها عني، أشعر بالقيظ والكرب، أنزعها بنفاذ صبر.
أنظر إلى ذلك الشيخ الذي يكون قد بدأ يتململ في مكانه، ويلقي بفراش مهترئ حيث كان يجلس، وإلى جواره؛ يلفظ عجيناً أخضراً ضاق به ذرعاً فَمُه، يتمضمض الرجل، ويتغرغر بالماء مرات ومرات، يبصقه إلى جواره أيضاً، يدسُّ يده بين القمامة بحثاً عن شيء ما، لم يسنح لي انقطاع التيار المفاجئ معرفة ماهيته، تتناهى إلى سمعي أصوات كشكشة متكررة، ثم يتلوها خرير متواصل ممزوج بزحار متقطع..
يخبرني حدسي أن الرجل يتبول في كيس نايلوني..
وما إن ينتهي من طقوسه تلك؛ حتى يستلقي بجسده إلى جوار البحر الأخضر الذي صنعه منذ قليل.
تمضي عدة دقائق، يبدأ الرجل خلالها بالشخير.
تهجع المدينة عن بكرة أبيها..وحدي والبعوض ما زلنا أرِقَيْن..يخترق جلدي بين الفينة والأخرى بشكل مؤلم..وأهشّه بدوري بغيظ ونفور..
ينقضي الليل أغلبه، يداعبني النعاس أخيراً، أتثائب، أشعر بالبرد يتسلل إلى جسدي على إثر موجة نسيم هبَّت فجأة، أتغطى بثيابي، يصمت الناموس، يسكن الليل تماماً، إلا من شخير النائمين، أو نحنحة المسجد المجاور وهو يهمُّ بالنداء لصلاة الفجر بصوت مبحوح، يتخلله صوت آخر أكثر خشونة وإزعاجاً يتصاعد من أسفل السطوح:
-استيقظوا يا عيال الكلب، يكفي نوم، هيا، إلى العمل..
يستيقظ الجميع بصعوبة بالغة، يغادرون المكان واحداً تلو الآخر، بما فيهم ذلك الخمسيني، وأغرق أنا في نوم عميق.