آخر تحديث :الإثنين-09 سبتمبر 2024-03:01ص

ملفات وتحقيقات


الرئيس علي ناصر يكشف لأول مرة أسرار قصته مع الرئيس فيديل كاسترو

الأربعاء - 31 يوليه 2024 - 04:25 م بتوقيت عدن

الرئيس علي ناصر يكشف لأول مرة أسرار قصته مع الرئيس فيديل كاسترو

إعداد / د. الخضر عبدالله:

بعد أن سرد الرئيس علي ناصر محمد في حديثه حول زيارته إلى دولة الهند.. في هذا العدد يشير لنا حول زيارته إلى كوبا .. ويقول في حديثه:"انطلقنا من «ليبيا» إلى جزيرة «سانتا ماريا» التابعة للحكومة البرتغالية. إنها محطتنا الأولى في طريقنا إلى «هافانا» للتزود بالوقود، قبل أن ننطلق مرة أخرى لنعبر أجواء المحيط الأطلسي، وأجواء مثلث «برمودا» أو مثلث الرعب كما يسمونه. أعلن كابتن طائرتنا قبل أن ننطلق في رحلتنا الطويلة عبر المحيط أن الطائرة أصابها عطل أثار القلق في النفوس، وطلب إلينا النزول إلى استراحة المطار ريثما يُصلَح الخلل الطارئ. لكن لم يكن للقلق مسوّغ ما دمنا على الأرض، لذلك حمدنا الله أن ما حدث لم يكن فوق المحيط، وبذلك تجنبنا كارثة!
تحت تلك الظواهر التي رافقت رحلتنا اقترح بعض أعضاء الوفد أن نقضي ليلتنا في هذه الجزيرة، التي يدير مطارها أحد الشيوعيين، وقد قدم نفسه بهذه الصفة لرفيق رحلتنا وعضو الوفد الأستاذ علي باذيب... لكنني استبعدت فكرة أن نبيت هنا، بينما القيادة، وعلى رأسها الرئيس فيديل كاسترو في انتظارنا في هافانا.
بعد أكثر من ساعة كاملة أُصلح الخلل، توجهنا إلى الطائرة، لنعبر بها المحيط مع عدم الطمأنينة لهذه الطائرة التي نصفق لها كلما هبطت في مطار عدن بسلام، لأن عجلاتها لا تهبط أحياناً باستخدام آليات الهبوط الآلي واليدوي معاً.
لم يكن هناك خيار آخر كأن نستبدل بهذه الطائرة طائرة أخرى، فهي الوحيدة التي تمتلكها شركة الطيران اليمنية (اليمدا)، ورغم قدمها والأعطال المستمرة فيها فنحن نشعر بالأمان لكفاءة طياريها اليمنيين ومهارتهم وشجاعتهم.

فوق مثلث الرعب

ويشرح الرئيس ناصر كلامه ويقول :" ربطنا الأحزمة، وانطلقت بالطائرة و كان الرئيس فيديل كاسترو هناك في المطار في انتظار وصولنا. بدا طويلاً، مهيباً ببزته العسكرية الزيتونية التي لم يخلعها منذ أيام النضال، منذ «سيرا ماسترا» والقتال ضد الديكتاتور باتيستا، وبلحيته الطويلة الكثة التي زحف عليها الشيب، والتي طالما داعبت خيال المناضلين المراهقين، فأطلقوا لحاهم تيمناً به دون أن يكون فيهم شيء من خصاله، فظلت لحاهم مجرد لحى قبل أن يضطروا إلى حلقها، مع انتهاء موسم نضالهم. أما هو فقد ظل ثائراً مناضلاً لا يغير معدنه، ولا يحلق لحيته، التي تضفي عليه مهابة تتصالح مع براءته الطفولية. وفيديل كاسترو زعيم ذو كاريزما فريدة في نوعها، وهو خطيب مفوه من الطراز الأول، وقد يعود تمسك شعبه به إلى الملاحقات ومحاولات الاغتيال التي لا حصر لها والتي تعرض ويتعرض لها من رجال المخابرات الأميركية.
اندفعنا في عناق حارّ. ثم صحبني لتفقد حرس الشرف ومصافحة بقية أعضاء القيادة الكوبية ورجال السلك الدبلوماسي، ثم توجهنا لتحية الجماهير التي خرجت لاستقبال ضيوفها القادمين من أقصى الجزيرة العربية، من جنوب اليمن. وبددت حرارة الاستقبال تعب الرحلة الطويلة عبر المحيط.
بعد انتهاء مراسم الاستقبال توجهنا إلى مقر الإقامة، وعقدنا والرئيس كاسترو اجتماعاً مغلقاً تناولنا فيه علاقات بلدينا وشعبينا الصديقين وآفاق تطورها، وخصصنا وقتاً ثميناً لبحث ملف التحديات التي تواجه الثورتين الكوبية واليمنية وأساليب مواجهتها. ومساندة الثورات التحررية في قارة أميركا اللاتينية وإفريقيا، وتحديداً في أنغولا، وموزامبيق، وإثيوبيا، وتدعيم قضايا الحرية والاستقلال لشعوب القارة الإفريقية. وكان كاسترو يرى أن هذا الدعم «الأممي» ضرورة ملحّة، رغم إمكانات كوبا وظروفها، ومن المؤكد أن نتائجه ستنعكس إيجاباً على كوبا وعلى نضال شعوب القارات الثلاث.


الأب الروحي خوسيه مارتي

ويقول الرئيس ناصر :" في السابع عشر من شباط/فبراير وضعتُ إكليلاً من الزهور أمام تمثال «خوسيه مارتي»، الأب الروحي للثورة الكوبية، وزعيم الثورة التحررية ضد الاستعمار الإسباني في نهاية القرن التاسع عشر الذي رفع شعار «الوطن أو الموت» . إنه رمز ينتصب كمارد في قلب إحدى ساحات هافانا ليلهم الشعب الكوبي في سيره المضني على دروب الثورة والحرية التي يجوبها هذا القائد العظيم «خوسيه مارتي»، وقد قلدني وسامه الرئيس فيديل كاسترو، في استقبال كبير أقيم على شرفي بعد انتهاء جولة المباحثات بين وفدي البلدين.
ويتابع الرئيس ناصر حديثه ويقول:" في معرض «جرانما» الذي زرناه عقب وضع إكليل الزهر على النصب التذكاري لخوسيه مارتي، كان التاريخ حاضراً. إنه يروي تاريخ الثورة والنضال المسلح الذي بدأه كاسترو ورفاقه بانتقالهم على ظهر القارب «جرانما» من المكسيك إلى شواطئ الجزيرة الكوبية في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1956م. إن المعرض يحمل اسم ذلك القارب الذي لم يكن سوى ألواح خشب تطفو على المياه الزرقاء، ولم تكن حياته سوى إبحار من بحر إلى بحر، ومن جزيرة إلى جزيرة، ومن بلد إلى بلد. لكنه منذ هذه اللحظة التي حمل فيها كاسترو ورفاق مسيرته سيسجل في سجلات التاريخ ليستقر فيها إلى الأبد الذي انطلقت منه إشارة بدء ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى 1917م.
وقد ذكرني هذا القارب بزيارتنا لينينغراد في تشرين الأول/أكتوبر عام 1971م والطراد أفرورا .
مساء اليوم نفسه بدأت المحادثات الرسمية بين وفدينا في قصر الثورة بالعاصمة هافانا، واستمرت صباح يوم 18. تطرقت إلى المؤامرات التي تحاك ضد اليمن الديمقراطية، والتطورات في منطقة الخليج العربي والبحر الأحمر ومنطقة القرن الإفريقي، والوجود العسكري الأميركي في المنطقة، ومن جانبه فإن الرئيس كاسترو تحدث عن المؤامرات التي تحاك ضد بلاده.

انتهى الزيارة

ومضى الرئيس ناصر يقول:" انتهت الزيارة في جانبها الرسمي، وبدأ جانبها الشعبي الوجداني والإنساني.. وسنترافق أنا وكاسترو وبقية أعضاء الوفد المرافق لي في رحلة بحرية إلى جزيرة «تينوس» التي تعني بالإسبانية «أشجار الصنوبر» وتسمى أيضاً جزيرة الشباب والجزيرة الأممية، وس نقضي أوقاتاً جميلة، وسأتعرف الجوانب الشخصية والإنسانية لهذا الإنسان الرائع الذي اسمه كاسترو.
كان اليوم في أوله. قاد فيديل السيارة بنفسه. إنه يتحرك بعفوية، يحب كل الناس ويحبه شعبه بشغف بالغ، قال أحد أعضاء الوفد وهو مبهور بما رآه من بساطة كاسترو وتلقائيته. يقف ببساطة بين الناس وهو الزعيم المستهدف من قبل المخابرات الأميركية التي حاولت اغتياله لأكثر من مرة وشعبه يناديه باسمه المجرد فيديل من غير أية ألقاب، إنه يتصرف بتلقائية، ويعبر عن نفسه بوضوح ومن دون مجاملات. أذكر أن هذا الرجل الذي طاف اسمه الدنيا لا شيء هناك يحمل اسمه على الإطلاق، لا شارع ولا ساحة ولا مصنع ولا مطار ولا تمثال ولا صورة على طابع البريد ولا نقشت صورته على العملات، وهو الذي احتلت صوره وأخباره شاشات التلفزة العالمية ومجلات وصحف العالم، ومع ذلك ظل ذلك الإنسان الثائر البسيط، يتصرف ويتحرك ويعيش في قلوب أبناء شعبه.
تعرفته لأول مرة في عدن عند زيارته الرسمية لها في آذار/مارس عام 1977م (عندما جاء لحل المشكلة التي كانت بين إثيوبيا والصومال)، إنه رجل عملي، يعرف ما يريد بدقة، ولا تسكنه الأحلام. كان الجانب المهم في شخصيته الذي اكتشفته فيه، ولعه بحب الحياة والناس والتعلم من الواقع، إلى جانب انفتاحه على الثقافة العالمية وامتلاكه رؤية متكاملة مشبعة بحرارة الإنسان.
قال لي ذات مرة: لا أحد له الفضل في تعليمي الاشتراكية، لا الروس ولا الصين، ولكنني تعلمتها من الشعب. أنا ابن إقطاعي كبير، وأعرف ما هو الظلم، وأبي كان يملك إقطاعية كبيرة تبلغ مساحتها (36) ألف هكتار وقد أمّمتها وأصبحت من مزارع الدولة.

ويردف قائلا:" ترافقنا أنا وكاسترو وبقية أعضاء الوفد المرافق لي في رحلة بحرية إلى جزيرة «تينوس» التي تعني بالإسبانية «أشجار الصنوبر» وتسمى أيضاً جزيرة الشباب والجزيرة الأممية، وس نقضي أوقاتاً جميلة، وسأتعرف الجوانب الشخصية والإنسانية لهذا الإنسان الرائع الذي اسمه كاسترو.
كان اليوم في أوله. قاد فيديل السيارة بنفسه. إنه يتحرك بعفوية، يحب كل الناس ويحبه شعبه بشغف بالغ، قال أحد أعضاء الوفد وهو مبهور بما رآه من بساطة كاسترو وتلقائيته. يقف ببساطة بين الناس وهو الزعيم المستهدف من قبل المخابرات الأميركية التي حاولت اغتياله لأكثر من مرة وشعبه يناديه باسمه المجرد فيديل من غير أية ألقاب، إنه يتصرف بتلقائية، ويعبر عن نفسه بوضوح ومن دون مجاملات. أذكر أن هذا الرجل الذي طاف اسمه الدنيا لا شيء هناك يحمل اسمه على الإطلاق، لا شارع ولا ساحة ولا مصنع ولا مطار ولا تمثال ولا صورة على طابع البريد ولا نقشت صورته على العملات، وهو الذي احتلت صوره وأخباره شاشات التلفزة العالمية ومجلات وصحف العالم، ومع ذلك ظل ذلك الإنسان الثائر البسيط، يتصرف ويتحرك ويعيش في قلوب أبناء شعبه.
تعرفته لأول مرة في عدن عند زيارته الرسمية لها في آذار/مارس عام 1977م (عندما جاء لحل المشكلة التي كانت بين إثيوبيا والصومال)، إنه رجل عملي، يعرف ما يريد بدقة، ولا تسكنه الأحلام. كان الجانب المهم في شخصيته الذي اكتشفته فيه، ولعه بحب الحياة والناس والتعلم من الواقع، إلى جانب انفتاحه على الثقافة العالمية وامتلاكه رؤية متكاملة مشبعة بحرارة الإنسان.
قال لي ذات مرة: لا أحد له الفضل في تعليمي الاشتراكية، لا الروس ولا الصين، ولكنني تعلمتها من الشعب. أنا ابن إقطاعي كبير، وأعرف ما هو الظلم، وأبي كان يملك إقطاعية كبيرة تبلغ مساحتها (36) ألف هكتار وقد أمّمتها وأصبحت من مزارع الدولة.

كاسترو يشبهني!

وواصل الرئيس ناصر حديثه وقال:" كان فيديل مخلصاً في حبه للشعب الذي أحبه واقترب منه. إنه نموذج للثوري الذي يُحتذى. كيف يتحول ابن الإقطاعي إلى قائد للثورة؟ إن القضية ليست قضية ماذا يملك الإنسان، ولكن ماذا يحمل من رؤية وأفكار ونظرة إلى الكون. الناس في كوبا مقتنعون بقيادته، رغم كثير من النواقص الضرورية في حياتهم اليومية بسبب الحصار. فهم يسوّغون ذلك، وحتى خطاياه ما عادت خطاياه، فالشعوب في مرحلة من مراحل التاريخ تبحث عن بطل تلتف حوله وتتحدى به الأعداء في الداخل والخارج.
عرفت أن شقيقه الأكبر «رامون» يدير المزرعة التي كانت ملكاً لوالده، انجل وللعائلة إلى جانب مزارع أبقار، وهي تقدر بأربعة آلاف فدان، وكان يعيش فيها 500 أسرة قبل التأميم.
وكان الشقيق الأكبر لكاسترو هذا قد زار عدن في عام 1983م والتقيته. وقد زرت مزرعته وقلت له مازحاً عندما رأيت شدة الشبه بينهما: إنك تشبه فيديل، فضحك وقال: بل هو الذي يشبهني، لأنني الأكبر! ثم ضحكنا نحن الاثنين، وقد جاء إلى عدن يحمل معه بذوراً وأغراساً لبعض الأعشاب التي تنمو وتقدم علفاً للأبقار التي تأكلها وتدرّ حليباً مضاعفاً لما تنتجه قبل ذلك، وقد أصرّ على أن يبقى في عدن حتى تظهر الأعشاب وتكبر الأغراس وتأكل الأبقار منها، لأنه يرى في ذلك انتصاراً لتجربته البحثية، ولكن طقس عدن الحار قد منعه من مواصلة مهمته خوفاً على حياته من الحرارة والرطوبة التي تشهدها عدن في ذروة الصيف الحار.

قصة العلاقات بين كوبا واليمن

ويشرح الرئيس ناصر حول العلاقات بين كوبا واليمن الديمقراطية ويقول:" إن قصة العلاقات بين كوبا واليمن الديمقراطية قصة طويلة، قصة بدأت عندما زار وفد ضم سيف الضالعي وجعفر علي عوض في أثناء الكفاح المسلح هافانا، وحينما توجت الثورة بالظفر والاستقلال اعترفت كوبا بالدولة الجديدة، لكن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين لم تتحرك إلا بعد أن التقيت في القاهرة سفيرهم هناك، وكنت حينذاك وزيراً للدفاع. وفيما بعد عُيّن هذا الرجل سفيراً لبلاده في عدن، ومنذ ذلك الوقت والعلاقات تتطور بين البلدين. قدم الكوبيون مساعدات نزيهة إلى اليمن الديمقراطية لإنشاء الميليشيا الشعبية، وتأسيس منظمة لجان الدفاع الشعبي، وإنشاء كلية الطب، ومنشآت تربية الدواجن. كذلك حاولوا في يوم ما مساعدتنا على استخراج النفط، لكن برغم مساعدتهم المخلصة، لم يكونوا قادرين على ذلك، إذ لم تكن المحاولة مبنية على دراسة علمية، أو فهم لجيولوجيا الأرض وطبيعتها، بل استندوا إلى دراسات قديمة. وكان هذا خسارة لهم وضياع وقت لنا! وأتذكر حديثاً لرئيس الوزراء السوفياتي كوسيغين عن هذا الموضوع، معلقاً ساخراً: «إذا كانوا قادرين على استخراج النفط في بلادكم فلماذا لا يستخرجونه في بلادهم؟». كما رويت ذلك في لقاء سابق مع (عدن الغد).

خليج الخنازير

ويضيف الرئيس ناصر ويقول :" بعد فترة من التجوال بسيارة «فيديل» التي كان يقودها بنفسه، وصلنا إلى «خليج الخنازير»تحدث فيديل بصدق وحرارة عن معركة خليج الخنازير التي هزم فيها الكوبيون القوى المناهضة والمدعومة من الولايات المتحدة الأميركية. يبتسم، تجتاحه الفرحة، زوبعة تعزف نصراً مكتظ النغمات.
ومضى الرئيس ناصر يقول تحدث كارلوس روفائيل الذي كان يرافقنا في هذه الجولة البحرية عن معركة خليج الخنازير في 17 نيسان/أبريل 1961م التي أشرفت عليها وكالة المخابرات المركزية الأميركية رداً على هزيمة الديكتاتور باتيستا وتحطيم سيطرة الاحتكارات والإقطاع، وتعقّد الوضع أكثر بعد إعلان الاتحاد السوفياتي دعمه الكامل لكوبا، لذا قررت الولايات المتحدة الأميركية اللجوء إلى العمل العسكري بعد أن خابت الضغوط السياسية والاقتصادية والإعلامية. كلّف الجنرال أيزنهاور المخابرات الأميركية تشكيل وحدات عصابات من المنفيين الكوبيين الخونة والعملاء للوكالة، وتولى تنفيذ قرار الرئيس آلان دالاس الذي كان حينذاك وكيلاً للوكالة، وعين معاونه ريتشارد دبيسل مسؤولاً عن العملية، وطلب أن تجري قبل انتخابات الرئاسة في تشرين الثاني/نوفمبر 1960م، ولكنها أجّلت إلى ما بعد الانتخابات التي فاز فيها الرئيس جون كينيدي الذي قرر بدوره الغزو السريع، ووضع الرأي العام العالمي والأميركي أمام الأمر الواقع. نُقلت القوات من القاعدة الأميركية «غوانتيمالا»، بالطائرات جواً، إلى نيكاراغوا لتكون في مواجهة خليج الخنازير، وجرى الاتفاق على تشكيل حكومة موقتة اعتقاداً منهم بنجاح الغزو وإسقاط النظام الثوري في كوبا. وفي مساء 16/17 نيسان/أبريل بدأت حركة قوات الغزو نحو الشاطئ الكوبي. وقبل ذلك نُقلت الحكومة المؤقتة إلى ميامي «في فلوريدا» ووُضع تحت تصرفهما مطار قريب من مقر إقامتهم، وأقلعت طائرات حربية وقصفت مطارات «سانتياغو» وسان أنطونيو دي لوس بانوس و«سبيير لبيرتاد» واستشهد 7 وجرح خمسون، ولم ينجح القصف في تدمير الطائرات الكوبية. وأعلنت الحكومة الأميركية ووكالتها أن الغزو قد بدأ بحراً في صباح 17/4/1961م. شنت الحكومة الكوبية هجوماً مضاداً بالمدرعات، فألحقت الهزيمة بقوات الغزو، وانتهت معركة الخنازير في 19/4/1961م بأسر أكثر من 1200 مقاتل، في مقدمتهم قائدهم مانويل أيتم، والمدربون والخبراء العسكريون المرافقون للغزو، وأعلن الرفيق فيديل إخفاق الغزو، وقدم عرضاً إلى الحكومة الأميركية يقضي باستبدال كل أسير بجرار زراعي!
ضحك كارلوس روفائيل شيخ الشيوعيين الكوبيين قبل الثورة وقال: لقد نجحنا في مدّ كوبا بعشرات الجرارات للفلاحين الفقراء، وبهزم الإمبريالية الأميركية وعملائها، ازدادت الثورة رسوخاً وقوة، وتعززت مكانة فيديل قائداً ثورياً بارزاً في العالم، وسقطت مراهناتهم على قوى الثورة المضادة في الداخل، وأصيبت وكالة المخابرات الأميركية بنكبة وخسارة كبيرتين أديا إلى إعادة تنظيم شامل في مجلس الأمن القومي ووكالة المخابرات الأميركية وقيادتها. وتابع كارلوس روفائيل حديثه عن الأزمات الدولية التي تعرضت لها الدولة الفتية ونظامها الاشتراكي. وجّه فيديل كاسترو دعوة إلى ميكويان لزيارة كوبا. وبالفعل، لبّى ميكويان الدعوة وتحدث معنا ومع القيادات والناس. أثمرت هذه الزيارة إقامة علاقات دبلوماسية بين كوبا والاتحاد السوفياتي. وما إن علمت الولايات المتحدة بذلك، حتى باشرت بقطع المصدر الأول للطاقة في كوبا، وهو النفط، وذلك في إطار الضغوط الاقتصادية. فما كان منا إلا الإسراع إلى الحليف الجديد وطلب مساعدته، وفعلاً قدم الاتحاد السوفياتي النفط على ناقلاته وعلى ناقلات إيطالية، وبعد ذلك فرضنا قيوداً على الإقطاع وأُمِّمت الأراضي، وسرنا على النهج الاشتراكي، ما أزعج النظام الرأسمالي والإمبريالية الأميركية.

الأسلحة الصاروخية النووية

واضاف الرئيس ناصر قائلا:" وبعد عدة اجتماعات في الكرملين وصل خروتشوف إلى اقتناع بأن الأسلحة الصاروخية النووية هي الحل الأفضل لمواجهة التحدي الأميركي، وخصوصاً أن الولايات المتحدة وضعت الاتحاد السوفياتي في نطاق قاذفاتها الصاروخية. قرر خروتشوف أن يفرض على الولايات المتحدة أن تفكر ملياً قبل أن تتخذ أي قرار بالغزو أو غيره. وبدأ الاتحاد السوفياتي بنقل الصورايخ من أراضيه إلى كوبا على مرأى من عيون البوارج والسفن والغواصات الأميركية. وقد حصل خروتشوف على موافقة الحكومة الكوبية على إقامة منصات الصواريخ النووية والمتوسطة المدى، ودعمها بطائرات (أليوشن - 28). وقام الأميركان باستطلاعاتهم فعرفوا أن كمية الصواريخ كافية لتدمير نيويورك وشيكاغو وسواهما من المدن الأميركية، فسادتها حالة من الفزع والرعب، ما اضطر الرئيس كينيدي إلى إصدار بيان حذر فيه من اتخاذ الولايات المتحدة إجراءات ضد كوبا، وبذلك بدأ الأميركيون بإرسال بحريتهم لتطويق الجزيرة.
وتابع الرئيس ناصر حديثه وقال ان كارلوس لم نخشَ هذا التهديد والحصار، لأن كوبا كانت محصنة بشعبها وقيادتها وزعيمها فيديل. في تلك الأثناء وصل إلى الكرملين روبرت كنيدي الذي نقل إلى خروتشوف أن الرئيس جون كينيدي في وضع حرج لا يعرف كيف يخرج منه، فالعسكريون يضغطون عليه لاستخدام القوة لحل المشكلة الكوبية إن استمر هذا الوضع مدة أطول، ويدفعون إلى حرب نووية لمواجهة الخطر السوفياتي، وضحك راؤول وقال: إنهم يهددون، ولكنهم لن يفعلوا ذلك لأن ذلك سيؤدي إلى حرب عالمية ثالثة والدول والشعوب في العالم ترفض ذلك. لم يكن خروتشوف يجهل الموقف، فالرئيس الشاب يمكن أن يفقد السيطرة على العسكريين، لذا بعث برسالة تطالب بسحب الصواريخ، وقد أجاب خروتشوف أن نصب الصواريخ هو للدفاع عن كوبا. وعلى أثر هذا الرد أدلى الرئيس كينيدي بتصريح أعطى فيه ضمانات، أن القوات الأميركية لن تغزو كوبا أو سواها. وأعطى بذلك وعداً قاطعاً بعدم القيام بهذا العمل العسكري. وبهذا الوعد أعلن الاتحاد السوفياتي سحب قواته الصاروخية. بعدها بدأت حملة على سياسة الزعيم خروتشوف المتخاذلة، حيث وصف بالجبن، وهو الذي دقّ بحذائه على طاولة الأمم المتحدة، لكنه حقق هدفه الاستراتيجي وفق النظرية التي كان يتبناها، وهي أن التراجعات التكتيكية في السياسة السوفياتية مقبولة إذا ما بقيت في إطار الهجوم الاستراتيجي. لكن هذه العملية أغضبت فيديل كاسترو، ما جعل خروتشوف يرسل ميكويان لإجراء مباحثات معه، حيث عادت العلاقات الكوبية السوفياتية إلى حالتها الطبيعية، وقد عبّر عن ذلك كاسترو بقوله: «إن أهم مسألة في أزمة الكاريبي أنها ضمنت وجود كوبا اشتراكية».

كاسترو واعقاب السجائر

ويضيف الرئيس ناصر بقوله:" كان الرفيق فيديل يتابع حديثنا وهو يدخن السيجار الكوبي «الكوهيبا»، وأحياناً يمضغه ويمتصّ أعقاب السجائر، وينتثر الرماد على ذقنه أحياناً، وينظر إلينا وتعلو وجهه ابتسامة عريضة وفجأة ناولني سيجاراً وطلب مني أن أدخن، وقال مازحاً: هذا النوع من السيجار الممتاز يصنع على أفخاذ النساء الكوبيات العاملات والمناضلات. وضحك الجميع. نظر فيديل نحوي وقال: هكذا كنا وما زلنا صامدين في الكاريبي، رغم الحصار الطويل، الذي سيستمر ما دمنا لا نسير في فلك السياسة الأميركية. أصبح الرفيق فيديل بطلاً قومياً بعد هذه المعركة وبعد أزمة الصواريخ، ونتيجة دعمه لحركات التحرر في أنغولا وإثيوبيا وموزامبيق وثوار ظفار واليمن الديمقراطية.

فيديل الصياد

ويقول الرئيس ناصر في حديثه :" بعد ذلك أقلّنا يخت في نزهة بحرية، حيث كانت السماء صافية. كان اليوم جميلاً من أوله. جلسنا على ظهر اليخت نستمتع بالطبيعة الساحرة الآخذة للألباب. جزر جميلة متناثرة هنا وهناك. بعد أن قطعنا نحو ساعة، إذا بطائرة استطلاع أميركية تحلق فوقنا، منطلقة من القاعدة الأميركية في «كوبا» وهي القاعدة التي بقيت مع الأميركان! وأصبحت فيما بعد سجناً لأعضاء القاعدة وطالبان.
ركض أحد المرافقين نحو كاسترو، وطلب منا أن ننتقل إلى «الكابينة» وهو يشير إلى الطائرة الأميركية المحلقة، لكن «فيديل» ضحك ورفض الامتثال لرجاء مرافقيه، وقال وهو لا يزال يوجه الحديث إليّ: علينا أن نحترم رأيهم، هذا منظر قد تعودناه منذ عشرات السنين!
عادت الطائرة الأميركية إلى قاعدتها التي انطلقت منها، بينما واصل يختنا إبحاره في عباب البحر. تذكرت مثل هذا الموقف عام 1972 عندما كنا نبحر من خليج عدن في طريقنا إلى جزيرة سقطرى على مدمرة سوفياتية، وحلّقت طائرات فرنسية فوقنا فأعلنت البارجة الاستنفار والتحذير للطائرات التي عادت إلى قواعدها في جيبوتي.
عند الساعة الخامسة اقترح «فيديل» أن نصطاد السمك، ولبس بذلة الغوص وتسلح بحراب الصيد. لأول مرة أرى المقاتل العنيد من دون بزته العسكرية الزيتونية، ودفع نحوي ببذلة مماثلة، وطلب مني أن أشاركه في الغوص والصيد، لكنني اعتذرت لأنني لا أجيد الغوص. قلت له: سأكتفي بالسباحة، وهي رياضتي المفضلة في «خليج عدن».
نزل إلى البحر، وما لبث أن غاص وغمرته المياه، وبعد كل غطسة كان يطفو إلى الأعلى حاملاً ما اصطاده من «اللوبستر» أو الشروخ كما نسميه في اليمن. وكان مرافقوه من حوله يهللون ويصفقون فرحين، حتى بلغ ما اصطاده مع مرافقيه نحو ستين سمكة لوبستر وسلحفاة واحدة، بينما كنت أسبح في المياه الزرقاء.