آخر تحديث :الأربعاء-30 أكتوبر 2024-08:01م
ملفات وتحقيقات

ليلة ممطرة كادت تغرق تلفزيون عدن!

الأحد - 28 يوليه 2024 - 12:16 م بتوقيت عدن
ليلة ممطرة كادت تغرق تلفزيون عدن!
(عدن الغد)خاص:
كتب: أحمد محمود السلَامي:

في ليلة الأحد 7 فبراير 1993م اسودّت سماء عدن وتلبدت بالغيوم الكثيفة الحبلى بالمطر .. ولم تقم هيئة الأرصاد الجوية أو مركز التنبؤات الجوية في مطار عدن بإصدار تحذيرات للمواطنين والسلطات المحلية لاتخاذ الحيطة والحذر من وقوع الكارثة وفق إمكانياتها المتاحة .. ليلتها أنا كنت المدير المناوب في محطة تلفزيون القناة الثانية ، كان من قبل يقولوا ضابط نوبة الارسال وكانت المهمة مقتصرة على بعض الموظفين في ادارة البرامج والتنسيق والمكتبة ، بعد عام 90م تضخم الهيكل الإداري للتلفزيون وأصبح قطاع ، وضم عدد كبير من الإدارات والإدارات العامة . وازداد العبء على ضابط النوبة فقررت قيادة القناة أن يتولى هذه المهمة مدراء الإدارات بالتناوب وفق جدول شهري خاص ، كان على المدير المناوب أن يكتب ملاحظاته في سجل التقارير تتم مناقشتها في الاجتماع الصباحي اليومي للمدراء ، الذي كان يناقش سير إرسال الأمس واهم نقاط عمل اليوم بالإضافة إلى أي قضايا طارئة .

في تلك الليلة منذ التاسعة مساءا بدأ هطول الأمطار بشكل خفيف واستمر دون انقطاع مع تزايد غزارته .. غادر بعض الموظفين المبنى ، باستثناء المناوبين وأنا أولهم ، حيث كان يتحتم علينا البقاء إلى نهاية الإرسال الذي كالمعتاد يختتم الساعة 11 مساء بالبرنامج الاخباري اليومي " العالم اليوم " ثم القرآن الكريم والسلام الوطني .

انتهى الارسال وتم الختام وهرع المناوبون إلى داخل الباص الكوستر للمغادرة وكانت المطر تهطل بغزارة والمياه بدأت تتجمع والسيول تتدفق بقوة من الجبال على شوارع المدينة وتجرف معها الحجارة والطين والاتربة ، بدانا نشعر بالقلق والرعب خاصة بعد انقطاع التيار الكهربائي ، عدنا أنا وبعض الزملاء إلى داخل الاستديوهات حيث الاضاءة شغالة في الممر وبعض الغرف الهندسة الموصولة بالمولد الكهربائي الياباني الضخم الخاص بالإذاعة والتلفزيون . بعد أقل من ربع ساعة بينما كنا أنا وبعض الزملاء نفكر كيف سنوصل منازلنا بسيارتنا في هذا الوضع ، عاد معظم الزملاء الذين غادروا بالباص ـــ القليل منهم ذهب إلى أقاربهم في التواهي ــ لعدم تمكن الباص من المرور من أمام فندق روك هوتيل (26 سبتمبر) بسبب الاحجار التي جرفتها السيول وشكلت حاجز كبير حال دون مرور السيارات فعادوا بعدما نصحهم رجال الشرطة بعدم سلك طريق نفق جولد مور لخطورته .

- استقر رأينا كلنا على البقاء حتى الصباح ولا ندري ماذا سيحصل بعد.

كان عددنا لا يتجاوز العشرة الأشخاص ، أذكر منهم بدر شفيق ، أحمد صالح العواضي ، جميل كمراني ، درهم سلام ، المذيع محسن محمد ، ومحمد بير من الاذاعة ، واربعة من أفراد حراسة المبنى اذكر منهم قائد الحرس هو ردفاني لقبه " اللحجي " وهو شجاع كان عون لنا ، يتفقد المبنى يبلغنا بالوضع أول بأول .

بعد منتصف الليل استمر هطول المطر بنفس الغزارة المرعبة وارتفع منسوب المياه حول المبنى ، الدرج الخارجية للمبنى وأحواض الزهور المحاذية لها غمرتها المياه وكادت تتسرب إلى ارضية الاستديوهات والممرات التي تمر تحتها الكابلات والتمديدات والتوصيات الهندسية الخاصة بالمحطة ككل .

حاولنا الاتصال بعمليات إدارة الأمن ، عمليات المحافظة ، عمليات البحث ، الدفاع المدني ، للأسف لا احد يرد . اتصلنا بالأخ فضل مطلق رئيس القناة المتواجد في مهمة عمل بصنعاء و بلغناه بالوضع الكارثي الذي نحن فيه ، وطلبنا منه الاتصال بالمسؤولين في عدن لنجدتنا وإنقاذ المحطة ، وبعد عدة محاولات اتصال قام بها رئيس القناة ابلغنا بانه لا احد يرد عليه من عدن وقال لي : يا أحمد ، المحطة امانة في اعناقكم حافظوا عليها هذا مصدر رزقكم وأكل عيشكم لازم تحافظوا عليه ـ المحطة ستغلق إلى الأبد لو تضررت .

أصبحت مهمتنا عظيمة وصعبة ، إذًا ما العمل ؟ لو دخلت المياه ستتوقف المحطة عن العمل بالفعل ، المولد يمكن ان ينفجر او يسبب تماس كهربائي مميت . لابد من تدارك الوضع سريعاً ، قال قائد الحرس إن : " البوابة الحديدية الكبيرة لمدخل مستودعات عذبان تراكمت عليها الكراتين الفارغة والأخشاب وهو الذي يصد مياه السيول القادمة من التواهي وترجع إلى ساحة المبنى لازم تُفتح عن طريق كسر سلسلة القفل " وصمت قليلاً ثم واصل : " هيا يا سلامي قرر انته قائدنا ونحن بعدك .. تحياتي " كانت كلمة تحياتي شائعة الاستعمال بين العسكر في تلك الفترة ومعناة ( نقطة إنتهى ) .

حزمنا امرنا وقررنا المخاطرة بأرواحنا وفتح البوابة الكبيرة ، أخذنا من ورشة الصيانة مطرقة كبيرة و صبرة حديد ، اتفقنا على ان يكون الفريق أربعة أشخاص فقط ، انا وجميل كمراني واللحجي و فرد قوي من الحراسة ، خرجنا من المبنى والمياه بدأت تتسرب الى المدخل حيث لائحة الاعلانات ، أصابنا الذهول من كمية المياه في الساحة التي بلغ ارتفاعها أكثر من متر ، سيارة المهندس العواضي (كرونا ريكنديشن) لم نرى منها إلا الفريمات والسقف ، وكذا نفس الوضع سيارة المذيع محسن محمد (نيسان 83) ، سيارتي الكورولا البيضاء كنتُ دائماً اوقفها فوق الرصيف المرتفع ولهذا كانت بمنأى عن السيول وارتفاع منسوب المياه ، الحمد لله .

واصلنا السير داخل الماء الذي غمر نصف أجسامنا كنا نحاول ان نمشي بسرعة وكأننا نلعب كرة الماء ، وصلنا ، حاولنا ازالة الكراتين والأخشاب وفروع الاشجار العالقة في فردتي البوابة ولم نتمكن من قوة ضغط السيل ، توزعنا اثنين على اليمين واثنين على اليسار ممسكين بقضبان البوابة حتى لا ننزلق و تجرفنا المياه بعد فتحها ، ضربنا القفل عدة ضربات قوية حتى انكسر واندفعت فردتي البوابة يميناً ويساراً ونحن متشبثون بها مرات علينا لحظات رهيبة كان السقوط يعني الموت الاكيد ، بقينا معلقين الى ان خفت شدة اندفاع السيل عدنا إلى داخل المبنى لنبشر الزملاء بأن المياه بدأت في الانحسار . نبهنا الزميل محمد بير (من قسم كهرباء الاذاعة) إن المولد يمكن أن يتوقف في اي لحظة بسبب نفاذ الديزل ولابد من تعبئته ، تحركنا أنا وهو وكان معه مصباح يدوي ومشينا داخل المياه المتجمعة في الساحة الشرقية للمبنى وكان المولد الجبار يرعد رعيد صامداً على منصته الخرسانية داخل غرفته وراء المبنى وبجانبه برميل شبه ممتلئ بالديزل عليه مضخة يدوية للتعبئة ، كان محمد بير يراقب مؤشر الخزان وانا احرَك المضخة حتى امتلاء .

في طريق عودتنا ايقنا انه لابد من تصريف المياه إلى البحر من تلك المساحة .. هناك باب حديدي بمحاذاة المقصف و سور الامن السياسي - او كما كنا نسميهم زمان (الجيران) - يوصل الى رصيف صغير مطل على البحر وقد استحدث ذلك الباب للاستفادة من تلك المساحة كموقع طبيعي للتصوير ، واذكر إن المخرج الكبير ، المبدع محسن يسلم مخرج الروائع وبمساعدة المخرجة القديرة فوزية حيدر قام بتصوير سهرة غنائية شعبية هناك قدمها المذيع المتألق جميل مهدي ، وكانت رائعة حيث البحر وأضواء المراكب والليل في الميناء ــ بعد أقل من ثلاث سنوات من واقعة المطر تم في نفس الموقع تركيب طبق (دش) كبير لاستقبال بث القمر الصناعي الأمريكي الدولي ــ رجعنا إلى الداخل بعدما تفقدنا المولد ، وطرحنا الأمر على الزملاء وتحرك درهم سلام وجميل كمراني وواحد اخر وقاموا بكسر الباب وفتحه ، وساهم ذلك في انحسار المياه الراكدة حول المبنى وأصبحت مياه عابرة لا يتجاوز ارتفاعها 10 سم .

شعرنا بالفرح والسعادة والنصر لما قمنا به ، واتصلنا برئيس القناة نبشره بأن الخطر زال الحمد لله ، لم تتضرر المحطة مطلقاً وشرحنا له بحماس اننا قمنا بكذا وكذا ، فتفاعل مع الامر ووعد بصرف مكافأة لكل الزملاء المتواجدين ومضاعفة لفريق المخاطرة ، وقد ضمّنت التقرير الذي كتبته اسماء المتواجدين ــ لكن للأسف لم تصرف لهم المكافأة بسبب ان عدد كبير من الموظفين تم ضمهم الى الكشف لأسباب متعددة وزادت الاسماء الى الضعف ــ .

بعد المكالمة وخبر المكافأة بدنا نشعر بالجوع ونتذكر اصناف الاكل ، اللي يقول مخبازة من عند الكوري ، واللي يتذكر الروتي والفاصوليا والشاي الحليب من مقهى ومطعم الدبعي المشهور ، تحمس أحد الزملاء وقام بالطلوع إلى إدارة الأخبار واحضر لنا ابريق شاي كهربائي ( كتلي ) وشاي وسكر ، وتولى بدر شفيق (رحمة الله) إعداد الشاي وشغل لنا شريط اغاني للمطرب المصري صالح عبدالحي الذي يحبه كثيراً خاصة اغنية " ليه يا بنفسج بتبهج وانت زهر حزين" وهي من أغاني التخت الشرقي الأصيل ، كلمات بيرم التونسي وألحان رياض السنباطي .. ارتشفنا الشاي الأحمر الرائع واجسامنا وملابسنا مبللة بالمياه ، مرت الساعات قبل الفجر وبدنا نشعر بالإرهاق والتعب ، خيم علينا صمت الانتظار وازدادت الحاجة إلى النوم أكثر ، بعض الشباب طلعوا إلى قسم التصوير للنوم ، انا كنت داخل خارج افكر بعائلتي ، زوجتي واطفالي وامي وابي يا ترى كيف عمل بهم المطر خاصة وان بيوتنا قديمة فيها مناور(شماسات) و درجات مفتوحة الى السقف والشوارع حدث ولا حرج ، الحفر المنتشرة مسالك لتصريف مياه الامطار ــ ظللت أعد الدقائق الى ان توقف المطر تماماً وبدأت أنوار الصباح تسطح من وراء الغيوم ، خرجت إلى الشارع العام شفت اثار الكارثة ، كل شيء ملخبط ومحزن .. الناس في الشوارع يحاولون ابعاد الأحجار وفروع الأشجار والمخلفات عن طريق السيارات . مر الوقت وأتى باص كبير مرتفع لونه برتقالي مثل باصات المدارس الأمريكية التي نشوفها في الافلام السينمائية ، قال السائق : قلّوعة خور مكسر الشيخ عثمان ، قلنا : جاء الفرج ، كنا مجموعة طلعنا وتحرك الباص مرينا بصعوبة من أمام فندق الروك وكذلك المنحنى الذي أمام سور مؤسسة الاصطياد في حجيف ..

طريق جولة الكهرباء القلّوعة جرفها السيل وتحولت إلى ترعة تجري فيها المياه ، اعمدت النور التي بجانبها كلها في الأرض هي والأسلاك وسيارات مقلوبة جرفتها و دحرجتها السيول ، الناس منهمكين في إخراج المياه من منازلهم واحواشهم ومحلاتهم ، وهذا الحال كان في كل مناطق عدن خاصة كريتر التي تضررت اكثر وانهارت فيها بعض البيوت والعمارات .. الجهد الشعبي كان واضح وتعاون الناس لا يوصف في ظل تخبط وغياب الجهات الرسمية . وصلنا الشيخ عثمان وكانت الشوارع يرثى لها والناس مشغولين بغرف المياه وتصريفها بعيدا عن منازلهم والأطفال يلعبون بفرح وسرور داخل مياه الامطار . اول ما دخلت شارعنا الكل يسألني فين سيارتك ، يا جماعة اولاً قولوا الحمد لله على السلامة ، كان الناس لا يسألوا ليش تأخرت لأن الجواب معروف (بسبب المطر وصعوبة الطرقات) ولان الشعور بالأمان هو السائد .. الان اختلف الامر ! اي واحد يتأخر يتصلوا عليه اهله مرة ومرتين وثلاث وتلفونه مغلق ، يبدأ القلق والتوتر ، اكيد جرى له شيء مش كويس ، يمكن مسكوه يمكن حادث يمكن رصاص راجع ويمكن كذا و كذا . المهم يوصل البيت وقد امه وابوه فوقهم الدريبات بسبب ارتفاع الضغط و السكر وحموضة المعدة ، الشعور بالقلق والخوف هو السائد الآن ، أتفه الأمور تسبب لك التوتر والشعور بعدم الأمان ، لأننا نعيش مجتمع تكاد تختفي منه الأخلاق والقيم .

تغيرت وتبدلت الامور في ثلاثين سنة بشكل مؤلم وسريع ولا ندري متى ستستقر الاوضاع ونعيش بامان وسلام مثل بقية الامم .