آخر تحديث :الأحد-08 سبتمبر 2024-02:42ص

ملفات وتحقيقات


الرئيس علي ناصر يكشف سبب المشكلة التي عكّرت صفو العلاقات اليمنية الهندية

الثلاثاء - 23 يوليه 2024 - 07:29 م بتوقيت عدن

الرئيس علي ناصر يكشف سبب  المشكلة  التي عكّرت صفو العلاقات اليمنية الهندية

إعداد / د. الخضر عبدالله




الزيارة الرسمية الودية

يواصل الرئيس اليمني الاسبق علي ناصر محمد في حديثه لـ(عدن الغد) حول العلاقة بين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية مع الهند ويقول :"لقد أحببت الهند، هذه القارة العظيمة مرتين: مرة لجمال المكان، ومرة لروح الزمان. ربما لأن الهند لا تبرز فيما هو زمني ولا فيما هو مرئي، بل في التاريخ الذي يقيم فيها كأنه حاضر أبداً. وكل ساعة تمرّ هناك كأنها تجاور الأزل. بأية قوة استطاعت الهند أن تفعل ذلك لولا قوة الروح؟ تلك القوة التي ألهمت المهاتما غاندي العظيم المقاومة السلمية (اللاعنف) للاستعمار البريطاني حتى أخرجته من شبه القارة الهندية، وتلك الروح التي ألهمت من قبل بوذا فلسفته الروحية التي أصبحت بعد ذلك ديناً تدين به الملايين في سائر أنحاء العالم. وتلك الروح التي ألهمت طاغور أشعاره العظيمة التي ترجمت إلى كل اللغات الحية، وهي الروح التي ألهمت نهرو طريق عدم الانحياز مع زميليه تيتو وعبد الناصر في بحثهم الدائب عن فهم لمعادلة العلاقة بين الشرق والغرب، وتلك الروح التي ألهمت زعامات الهند الطموح القوي إلى التغيير والتجديد. ومن هنا ظلت الهند تعيش في صميم أحداث العالم. ويمكن الاستشهاد بعشرات، بل مئات من الأمثلة عن عمق حضارة الهند والصلات التاريخية بين شبه القارة الهندية واليمن، والدور الذي مارسته الهند في حركة عدم الانحياز وفي السياسة الدولية، لكن المجال لن يسعفني لذكر كل الأشياء، حتى عن العلاقات اليمنية الهندية، فإنني سأضطر إلى التوقف عند بعض الأشياء والأمور انطلاقاً من زياراتي الرسمية والودية.

علاقات التعاون بين البلدين

ويضيف الرئيس ناصر حديثه وقال:" أذكر أن زيارتي الأولى للهند في أيار/مايو 1978 م كانت قصيرة جداً ولم تستغرق سوى يوم واحد. قدمت إليها من مدينة «هوشي منه» التي كانت تسمى سايغون حتى وقت قريب من انتصار الثورة الفيتنامية وهزيمة القوات الأميركية في تلك البلاد. وقد اتفقنا حسبما ذكرت مع المسؤولين الهنود على تطوير علاقات التعاون بين البلدين الصديقين. في هذه الزيارة التقيت لأول مرة بالسيدة أنديرا غاندي، زعيمة حزب الشعب، التي كانت في صف المعارضة، وشكت الحزب الشيوعي الهندي لأنه لم ينسّق معها في مواجهة النظام، وطلبت مني أن أتحدث معهم بحكم علاقات اليمن الديمقراطية مع الاتحاد السوفياتي ومع أحزاب اليسار في العالم، وبناءً على رغبتها، فقد التقيت قيادة الحزب الشيوعي في الهند، وتحدثت معهم في هذا الموضوع.
سعدت باللقاء والتحدث إلى السيدة أنديرا غاندي التي رضعت حليب السياسة والكياسة والإصرار من أبيها جواهر لال نهرو ومن حضارة الهند العظيمة.

مشكلة... مع المهاتما غاندي

وفي حديثه يضيف الرئيس ناصر قائلا:" لم نكن نعتقد يوماً أن المهاتما غاندي، الأب الروحي العظيم للمقاومة الهندية ضد الإنكليز سيتسبب لنا بعد موته مقتولاً بعد عدة سنوات، مشكلة تعكّر صفو العلاقات اليمنية الهندية. ليس في الموضوع أي إثارة من جانبنا، ففي مدينة عدن قاعة جميلة تحمل اسم الزعيم الهندي العظيم «المهاتما غاندي»، وكانت ملكاً للجالية الهندية العريقة في عدن، وتقيم عليها احتفالاتها ومناسباتها الدينية والشعبية قبل تأميمها عام 1973م عندما صدر قانون تأميم الإسكان، وحُوِّلت القاعة من قاعة للجالية الهندية إلى قاعة للفنون الجميلة ومركز ثقافي ومقرّ لفرقة الفنون الشعبية.
كانت الجالية الهندية التي أممت قاعتها التي تحمل اسم زعيمها الروحي ما تنفك تطالب بإعادة القاعة إليها، ووصلت صرختها إلى الحكومة الهندية، فبدأت هذه اتصالات ومطالبات رسمية وصلت إلى مستوى رئيس الوزراء، ووزير الدفاع كريشنا مينون الذي ارتبط اسمه بعصر العمالقة نهرو وعبد الناصر وتيتو وشون لاي. لم يكن رئيس مجلس الرئاسة حينذاك سالم ربيع علي مقتنعاً بإعادة القاعة إلى أصحابها الأصليين، واستمرت الاتصالات والمراسلات بين الحكومتين فترة طويلة.
كان الرئيس ربيع يرى القاعة ملكاً للشعب اليمني بموجب قرارات التأميم، وضد إعادتها إلى الجالية الهندية، وبعد زيارتي للهند عدت وحسمت تلك المشكلة، وأعدت القاعة إلى الجالية الهندية في عدن. ووجهت الجالية إلينا رسالة شكر واعتبرت هذه البادرة بمنزلة تقدير لمشاعر الجالية الهندية واعترافاً بحقوقها المدنية والقومية والإنسانية.

الفرس والنار المقدسة!

ويشرح الرئيس ناصر في حديثه ويقول:" لم تكن قاعة المهاتما غاندي وحدها التي سببت إشكالات في علاقات البلدين الصديقين، بل إن المشكلة الأكثر إثارة كانت في قضية نقل «نار الفرس المقدسة» من موقعها في معبد الفرس في «الطويلة» في مدينة كريتر في عدن حيث وضعت هناك قبل أكثر من مئة عام إلى الهند، موطنها الأصلي.
وهم يعبدون النار والشمس كما كانوا يفعلون في عصر زرادشت، مثلما هي الحال في بومباي وبقية أنحاء الهند. لم يتركوا ديانه أجدادهم ويرون في العناصر الأربعة، ولا سيما النار، مصدر الكائن الأزلي. كذلك فإنهم لا يدفنون موتاهم بل يتركونهم لفعل الهواء والطيور الجارحة، إذ توضَع جثث الموتى والطيور وسط برج شيد بالقرب من تحصينات عدن، وهناك لا تكف الغربان عن التحليق، أما العظام فتجمع وترمى في حفرة جماعية تقع تحت البرج. ويوجد أيضاً في عدن معبد خاص بالفارسيين، ولم يُعرف إذا كانت النار التي يحافظون عليها جيداً بداخله قد أحضرت من النار نفسها التي أوقدها زرادشت قبل أربعة آلاف عام.
فالفرس الموجودون في عدن ينحدرون من جالية صغيرة فرّت من فارس هرباً من قمع المسلمين المتعصبين هناك، ويقال إن أكثر من مليوني فارسي يعيشون في بومباي وضواحيها، ومعظمهم أصحاب ثروات طائلة وتجارة مزدهرة.

عندما طالبت الجالية الهندية في عدن، ومن بعد الحكومة الهندية، بنقل تلك النار، رفض رئيس مجلس الرئاسة حينذاك أيضاً ذلك. وكما في السابق، اعتبر «سالمين» تلك النار المقدسة جزءاً من تاريخ الشعب اليمني وتراثه، وأنه بذلك لا يقبل أية ضغوط تمارسها الهند على اليمن الديمقراطية، معتبراً ذلك تدخلاً في شؤون البلاد الداخلية.

خمس سنوات و المشكلة قائمة

ويتابع الرئيس ناصر حديثه ويقول:" استمرت المراسلات بين حكومتينا أكثر من خمس سنوات دون أن تحلّ المشكلة.
كنت أقف موقفاً آخر، وأرى أن تلك النار لا تستحق كل تلك الاتصالات الطويلة بيننا وبين حكومة الهند الصديقة، ولا يجوز أن تكون مثار خلافات مع شعب صديق لنا، ودولة نرتبط معها بعلاقات صداقة طيبة، إذ كانت الهند من أوائل الدول التي اعترفت باستقلالنا. بل أكثر من هذا، فإن لأفراد الجالية الهندية الكثير من المآثر الطيبة، حيث أسهموا في الازدهار التجاري والتنوع الثقافي الذي شهدته عدن خلال الحقبة الاستعمارية، وخاض كثير منهم النضال مع بقية أفراد الشعب اليمني في سبيل الحرية ونيل الاستقلال. ويحضرني الآن على سبيل المثال لا الحصر اسم الشهيد «خالد هندي» الذي استشهد خلال الكفاح المسلح وهو يقاتل الإنكليز.
وبعد ذلك حُلَّت المشكلة، واضعاً في الاعتبار احترام المشاعر الروحية والثقافية للآخرين، مثلما نطالبهم باحترام مشاعرنا الروحية والثقافية، وأعيدت النار المقدسة إلى موطنها الأصلي، لأن أخوتنا وآباءنا من المهاجرين قد عانوا في رحلة اغترابهم الطويلة إلى جميع أمصار الدنيا... وأعني بها قضية احترام معتقدهم الديني ومشاعرهم الروحية والثقافية في البلاد التي هاجروا إليها. فهل يحق لنا أن نحرم أهل معتقدٍ «نارهم المقدسة»؟! وهل من العدل أن ندعي أن تلك «النار المقدسة» جزء من تاريخ شعبنا اليمني وتراثه، الذي كان صاحب رسالات توحيدية، ولم يثبت أنه كان من عبدة النار؟!
إن وجود «النار المقدسة» في سفح جبل الطويلة لا يمنحنا الحق في ادعاء ملكيتها، في الوقت الذي نعرف تماماً أنها شيء مقدس يعود إلى طائفة معروفة في الهند اختارت في يوم ما أن توقد نارها فوق جبل من جبالنا في عدن نظراً إلى ما توخته فيها من سماحة دينية وتنوع روحي وثقافي. وأصحاب هذه الديانة أو النار نفسها هم الذين أرادوا أن يعيدوا النار إلى موطنها الأصلي الذي نقلت منه ذات يوم قبل ما يزيد على مئة سنة... فلماذا نعترض على ذلك؟!
المهم أن القرار الخاص بنقل النار المقدسة اتخذ في نهاية عام 1978م، وأرسلت تلك النار المقدسة بطائرة خاصة، محاطة بحراسة مشددة، وطبقاً للطقوس الدينية المتبعة، إلى الهند موطنها الأصلي، لتستقر هناك تكريساً لراحة نفس أصحاب تلك الديانة... التي كانت ستظل قلقة!
لم تعد النار المقدسة محل خلاف الآن... وبإرسالها إلى الهند تحسنت العلاقات بين البلدين الصديقين.

إلى مدينة بومباي

ويقول الرئيس ناصر:" بعدها توجهت في زيارة رسمية قابلت أثناءها الرئيس الهندي «نيلام سانجيغاريدي»، ورئيسة الوزراء السيدة أنديرا غاندي، وقمت بزيارة بعض المناطق التاريخية والأثرية في الهند.
بدأت زيارتي إلى مدينة بومباي عصر يوم 17 أيار/مايو 1981م حيث استقبلني حاكم ولاية ماشترا وعدد من المسؤولين الهنود وممثلون عن الجالية اليمنية في بومباي وحيدر آباد. كان الجو حاراً وقاتماً، وقد نزلنا في أحد فنادق بومباي، ومع الأسف، فإننا لم ننم، بسبب الرطوبة والروائح الغريبة رغم أننا قد تعودنا بعض هذه الروائح في عدن، ويبدو أن لهذه الروائح علاقة ببعض الأعشاب والأطعمة والبهارات التي تؤثر في رائحة أجسام المواطنين هناك، وهذا ما ذكره الصحفي أنيس منصور عند حديثه عن زيارته لبومباي في كتابه 200 يوم حول العالم. وفي صبيحة اليوم التالي وصلت إلى دلهي العاصمة حيث جرى الاستقبال الرسمي والشعبي الكبير، وكان على رأس المستقبلين رئيس الجمهورية ورئيسة الوزراء. وبعد مراسم الاستقبال المعتادة، وفي لقائنا ومباحثاتنا حددت أهداف الزيارة للهند حول قضايا التعاون اللاحق وحول القضايا المتصلة بالسلم والاستقرار في المحيط الهندي، وفي عموم هذه المنطقة، والوسائل الكفيلة بمواصلة جهود بلدينا على الصعيد الثنائي، وفي نطاق حركة عدم الانحياز من أجل حق الشعوب في السيادة والتقدم الاجتماعي، وفي سبيل تحقيق الانفراج الدولي وصون السلم. وأكدت أننا في اليمن الديمقراطية نقدِّر عالياً المكانة الدولية للهند ودورها في صون السلم ونهجها السياسي المهم لاستقرار شبه القارة الهندية، ومواقفها المؤيدة لنضال شعبنا في سبيل صون السيادة الوطنية وتحقيق تطوره المستقل، ووقوفها إلى جانب نضال الشعوب العربية، وفي طليعتها نضال الشعب الفلسطيني من أجل العودة وتقرير المصير وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة.


الحكومة الاستعمارية في عدن

ويواصل الرئيس ناصر حديثه ويقول:" ففي صباح يوم الثاني من شهر أيلول/سبتمبر 1931 رست في ميناء التواهي سفينة بريطانية اسمها «راجبوتانا» نسبة إلى ولاية هندية. ولم يكن ذلك في ذاته حدثاً مهماً، فقد كانت عدن أهم محطة بحرية بين الشرق والغرب، لكن أهمية السفينة كمنت في نقلها أحد أهم رجال العالم على متنها، وهو يقف عليها يتفرج على جبال التواهي في انتظار وصول مندوب الحكومة الاستعمارية في عدن، التي كانت تُحكم من مقر الحاكم البريطاني في مدينة بومباي حتى عام 1937.
كان الزعيم الهندي النحيل لا يرتدي سوى قطعة قماش بيضاء حاكها بيديه على عجلة يحركها كلما سنحت له فرصة، وهو يناضل لتحرير أكبر وأغنى مستعمرة في العالم دون اللجوء إلى العنف بكل أنواعه، وهو في طريقه لحضور مؤتمر المائدة المستديرة في لندن للمطالبة بالاستقلال بالتي هي أحسن.
وقبل وصول مندوب الحاكم كان المحامي محمد علي لقمان رحمه الله قد ركب زورقاً بخارياً (لنش) من محطة الأبكاري متجهاً إلى السفينة، مغتنماً فرصة غياب المندوب أو جنوده، وسلّم على المهاتما باسم نادي الإصلاح العربي الذي كان الأول من نوعه في عدن، وموقعه في «الميدان»بكريتر، ورحب به في المستعمرة التي كانت تتابع جهاده العنيد ضد أكبر إمبراطورية في العالم.
ولما سمحت الحكومة ممثلة بقائد الشرطة الأبيض للمهاتما بالنزول إلى البر، توجه الزعيم وبرفقته محمد علي لقمان أولاً ثم جمع غفير من العرب والهنود نحو المبنى الذي كان يضم شركة قهوجي دنشا في التواهي، قبالة الحديقة التي ضمت تمثال الملكة فكتوريا، ثم توجه الركب إلى الشيخ عثمان حيث أقام الأهالي احتفالاً تكريمياً له في بستان الفارسي.
وأُقيمت له خيمة كبيرة وأهدى إليه الأهالي ما يعادل ألفاً وستمئة دولار لينفقها على حركته أو على أفقر المنتمين إليها، ما أغاظ الإنكليز كثيراً، لكنهم لم يتخذوا إجراءات عقابية في ذلك الوقت، ربما خشية إثارة الزعيم شبه العاري.
ألقى المحامي محمد علي لقمان كلمة ترحيبية نيابة عن نادي الإصلاح العربي وترجمها إلى الإنكليزية ليفهمها الزعيم والحضور من غير العرب، وطلب الجمهور من غاندي أن يلقي كلمة بتلك المناسبة التاريخية، والموقع كله محاط بالجنود والمباحث من البيض والمواطنين.
تحدث غاندي شاكراً الأهالي الذين تحدوا سلطة الاستعمار وهتفوا بحياته، واستشهد بالقرآن الكريم مشيداً به مادحاً رسول الله والخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال إن الله قد حرم الخمر وأكد رسول الله ذلك. وناشد الهنود المقيمين التآخي والتعاون مع الأهالي العرب. وبينما شكر الجالية الفارسية على تقديم بستانها للترحيب به، عبّر عن استيائه من قيام أفرادها ببيع الخمور في عدن التي حرّمها دينهم، وناشدهم الإقلاع عن ذلك، لما في ذلك من أضرار تلحق بالأهالي. والواقع أن تجارة الخمور بالكامل تقريباً كانت بيد الفرس، وفي مقدمتهم قهوجي، الذي كانت حانته ومتجره متاخمين لدار «فتاة الجزيرة» (شارع محمد علي لقمان حالياً)، وإلى جانب مكتبة الإرسالية الدانماركية حانة بالنجي دنشا، وعلى بعد أمتار متجر خمور باسم «اشياتك» أمام مدرسة اليهود السابقة، ومثلها عشرات في كل أنحاء عدن. حتى أن الشارع الرئيس في الشيخ عثمان لم يسلم منها، ومثلها المعلا والتواهي وحتى الشيخ عثمان ودار سعد.
ويضيف الرئيس ناصر قائلا:" وخلال مرافقة المحامي محمد علي لقمان الذي لم يكن قد تخرج بعد بشهادة الحقوق من بومباي للمهاتما، سأله إن كان يحبذ مطالبة الأهالي بالخلاص من الإمبريالية، فأجابه بقوله: «عدن قلعة، وعليك بالسير رويداً وبحذر، لأن الإمبريالية لا تزال جبارة، لكنها لن تدوم طويلاً».وفعلاً نالت الهند استقلالها عام 1947، وتبعتها كل دول شبه القارة ثم آسيا وإفريقيا وعدن عام 1967م.

المناداة بمنطقة سلام

ويقول الرئيس ناصر :"في مساء اليوم نفسه (18 أيار/مايو) حضرت حفلة العشاء التي أقامها الرئيس الهندي على شرفي والوفد المرافق لي... في الكلمة التي ألقيتها أشدتُ بمظاهر النهوض الشامل الذي تحققه الهند في مجال الاقتصاد والصناعة والعلم والثقافة وغير ذلك. وأوضحت المبادرة التي تقدمنا بها، قائلاً: «وتعبيراً عن حرصنا على الأمن والسلام في هذه المنطقة، فقد بادرنا إلى الدعوة إلى عقد لقاء على مستوى القمة لبلدان الخليج العربي والجزيرة العربية والقرن الإفريقي والأطراف المعنية الأخرى للبحث في تصفية المنطقة من القواعد وأشكال الوجود العسكري الإمبريالي». وأعلنت «أننا نؤكد لأصدقائنا الهنود مجدداً أن اليمن الديمقراطية تقف إلى جانب الهند في دعوتها الرامية إلى تحويل منطقة المحيط الهندي إلى منطقة أمن وسلام وتعاون بين بلدانه الواقعة على سواحله وبره». وقد أيدت الهند المبادرة، ووُقِّع في هذا الصدد عدد من البروتوكولات المنظمة للتعاون في مجالات مختلفة تقضي بتطوير التعاون المشترك بين البلدين الصديقين، وتقديم المساعدة إلى اليمن الديمقراطية لتطوير الإنتاج الزراعي، وإعداد الأطر المتخصصة، وإجراء الأبحاث العلمية التكنيكية، بالإضافة إلى إرسال الخبراء الطبيين وإلى إرسال فريق من المهندسين لوضع خطة لتطوير مدينة عدن حتى 2011م. كذلك جرى التوقيع في أثناء الزيارة على برنامج للتبادل الثقافي بين البلدين للسنتين 1981-1982م، وينصّ على التعاون في مجال التعليم الثانوي والعالي والإذاعة والتلفزيون وتبادل وفود العلماء.




تاج محل العظيم

وقال مسترسلا :" في ختام الزيارة للهند زرت الأثر التاريخي المدهش «تاج محل» الواقع في منطقة (أجرا) على ضفاف بحيرة «يمونا». إنه يستحق أن يكون إحدى عجائب الدنيا الجديدة. بناه الإمبراطور المغولي شاه جيهان ما بين 1630م وعام 1652م تخليداً لذكرى زوجته ممتاز محل. ويبدو البناء أسطورة معمارية من الرخام الأبيض المنعكس على صفحة المياه لا يمكن أن يجدها أو يراها المرء إلا في الهند، هذا البلد المدهش بحضارته وثقافته. وقد حدثنا المرشد السياحي أنه قد دام بناء هذه الأعجوبة نحو 20 عاماً بمجهود 20 ألف شخص. جاءت مواد بنائه وحجارته الكريمة، يحملها ألف فيل من كل أنحاء قارة آسيا، بما فيها شُعبُ مرجان البحر الأحمر، والعقيق اليماني الأحمر الذي يُطرّز رخام راجستان الأبيض الناصع.
هذا البنيان العملاق دقيقُ الجمال لا نهائي الروعة، يتغيّر لونه مع تغيّر سقوط أشعة الشمس عليه: ورديٌّ في الفجر، أبيض في الظهيرة، بنفسجيٌّ في الغروب، ونيليٌّ مزرورق في ضوء القمر. وأمام باب ضريح ممتاز محل تُشاهَد عقود الآيات القرآنية والنقوش الإسلامية التي تحيط به، وواجهة القصر بمآذنه الأربع المتناظرة.
وفي داخل الضريح تنام ممتاز محل الزوجة الثالثة والأخيرة لشاه جاهان. الوحيدة التي عشقها بجنون، وإلى جانبها في دور ثانويّ ضريح شاه جاهان نفسه بعد أن سجنه ابنه السلطان محيي الدين أورانجزب في أكمةٍ تواجهُ ضريح تاج محل، بحيث لا يرى من نافذة سجنه، وحتّى نهاية عمره، إلا ضريح زوجته!

قمة عدم الانحياز السابعة

ويواصل حديثه ويقول :" في عام 1983م زرت الهند مجدداً لحضور مؤتمر دول عدم الانحياز، وكان أول لقاء لرؤساء الحركة عقد في مدينة «باندونغ» في إندونيسيا في عام 1958م على يد قادتها التاريخيين: جواهر لال نهرو، وجمال عبد الناصر، وجوزيف بروز تيتو، وأحمد سوكارنو. وعقد المؤتمر التأسيسي للحركة في مدينة «بلغراد» عام 1961م، وكان الهدف من إنشائها في ذلك الوقت إيجاد حركة لبلدان العالم الثالث تقوم على التوازن بين الشرق والغرب. ولم يكن قادة الحركة يتصورون بلدانهم في وضع ليس لهم فيه دور في وجود اللاعبين الكبيرين على الساحة: الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية. وقد اكتشفت الحركة أنها تحتاج إلى توافق في الآراء والعمل وإلى تعاون قوي فيما بينها حتى لا ينفرد القطبان الكبيران وحدهما بتقرير مصير العالم، فتضيع مصالح بلدان العالم الثالث. وقد اكتشفت الحركة أن الدور الذي أرادت أن تقوم به صعب جداً، لأنه يخلّ بالتوازن الدولي القائم… ولم يكن مثل هذا الدور دائماً مرغوباً فيه أو مطلوباً أو حتى مسموحاً به، أو ممكناً من قبلها، نظراً إلى ما تجمعه بلدان الحركة من تناقضات.
وعلى العموم، فإن حركة عدم الانحياز قد شكلت في حينها قوة ثالثة بين القوتين العظيمتين، بما يمكن القول بأن القطبين شعرا بأنهما ليسا وحدهما في الميدان.

كاسترو وأنديرا غاندي

ويضيف الرئيس ناصر قائلا:" عقدت القمة مؤتمرها السابع في «دلهي» عاصمة الهند، بلد «نهرو» أحد القادة الأربعة التاريخيين المؤسسين لحركة عدم الانحياز، حيث انتقلت الرئاسة من كوبا إلى الهند برئاسة أنديرا غاندي.
ومضى يقول:" ألقيت خطاباً في المؤتمر، شرحت فيه تجربة بلادي وإنجازات ثورتها، وعرضت فيها مواقفنا السياسية من القضايا والصراعات الراهنة كافة حينذاك. وأذكر أن القاعة ضجّت بالتصفيق الحار بعد إنهاء كلمتي. وقام الوفد العراقي برئاسة طه محيي الدين معروف، نائب الرئيس العراقي، وطارق حنا عزيز نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية من مكانهما وتقدما إلى المنصة لتحيتي وشكري على الكلمة التي ألقيتها. وكذلك فعل الوفد الإيراني برئاسة حسين موسوي، إذ تقدم هو الآخر إلى المنصة وصافحني بحرارة، معبراً عن شكره على الخطاب وعلى موقفنا. وكانت هذه المعادلة صعبة، لأن البلدين، العراق وإيران، كانا مشتبكين في حرب طويلة، ولأن الوفود المشاركة في المؤتمر كانت كلها أو معظمها بين مؤيد للعراق أو مؤيد لإيران، لكن أن يكون الطرفان المتعاديان والمتحاربان راضيين عن سياستنا ومواقفنا، فإن معنى هذا نجاح سياستنا الخارجية المتوازنة من الصراع الإقليمي والدولي وما يجري في المنطقة والعالم.

زايل سينغ في عدن

ومضى الرئيس ناصر يقول في حديثه :" في تشرين الأول/أكتوبر 1984م كان دور الرئيس الهندي «زايل سينغ» ليقوم بزيارة اليمن الديمقراطية، رداً على الزيارة التي قمت بها للهند في عام 1981م، وقد وصل إلى عدن واستقبلته وأجريت معه محادثات رسمية. أكدت أن زيارته ستسهم في تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين، وأن الشعبين اليمني والهندي يرتبطان بعلاقات تاريخية طيبة وأن شعبنا يكنّ للشعب الهندي كل مشاعر الصداقة والود، وقدرت موقف الهند إلى جانب قضية الشعب الفلسطيني.
من جانبه أكد ذلك أيضاً، وجرى التوقيع صباحاً على محضر اتفاق، تدرّب الحكومة الهندية بموجبه سنوياً خمسين مجموعةً يمنيةً في مختلف المجالات، وتُرسل ما لا يقلّ عن عشرين خبيراً هندياً في المجالات التي يحددها الجانب اليمني. ويقوم الجانب الهندي بتوفير فريق متكامل في مجال تخطيط المدن، وفريق طبي لمعالجة الأمراض المستعصية. وأبدى الأصدقاء الهنود استعدادهم لإعداد دراسات في الجدوى الاقتصادية لعدد من مشاريع خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية الخمسية الثالثة القادمة.

الوداع الأخير...

ويتابع الرئيس ناصر حديثه :" بعد يومين فقط من مغادرة الرئيس الهندي عدن، تلقيت النبأ الذي أعلنته الحكومة الهندية يوم 31/10/1984م في بيان رسمي أذاعته الإذاعة والتلفزيون بوفاة رئيسة الوزراء الهندية السيدة أنديرا غاندي عندما اغتالها أحد حراسها الشخصيين. ومن جانبنا أعلنا في اليمن الديمقراطية الحداد الرسمي مدة ثلاثة أيام تعبيراً عن مشاركة الشعب اليمني شعب الهند الصديق في مصابه الفادح. وفي الهند أعلن أن «راجيف غاندي»، وهو طيار مدني سابق ونجل رئيسة الوزراء الراحلة، قد أدى اليمين القانونية رئيساً للوزراء. كان عليّ مرة أخرى أن أذهب إلى الهند لأودع السيدة الجليلة الوداع الأخير.
كنت حزيناً وأنا أسير خلف جثمانها محمولاً على عربة مدفع، متشحاً بألوان علم الهند، ومكسوّاً بالورد والزهر. تقدم موكب الجنازة المهيبة أعداد كبيرة من القادة والمسؤولين في الحكومة الهندية، وزعماء العالم وقادته الذين جاؤوا من كل قارات الدنيا لوداع السيدة غاندي، تتقدمهم وحدات رمزية من قوات الجيش الثلاث على أصوات الطبول الخافتة في مسيرة الموت، فيما اصطف الملايين من أبناء الشعب الهندي على جانبي الطريق، يطفو على وجوههم الحزن، وهم ينظرون إلى زعيمتهم المحبوبة نظرة الوداع الأخير، وهي مسجَّاة بجلال الموت داخل نعشها في راحة أبدية... وصل الموكب الجنائزي المهيب إلى حدائق (ثان ايفان) على ضفاف نهر «جامانا»، وتقدم نجلها راجيف غاندي (رئيس الوزراء الجديد) مع بقية أفراد الأسرة، وحمل نعش أمه ووضعه فوق المنصة المخصصة لإحراق جثمانها. طاف حول الجثمان سبع مرات، ثم أشعل فيها، النار حسب الطقوس الهندوسية...
اللهب يشتعل، وجثة أنديرا تحترق، وكان أقرب الناس إليها، ابنها راجيف وبقية أفراد أسرتها، هم الذين يصبّون عليها الزيت المقدس ويطعمون النار مزيداً من الحطب وأشجار الموز حتى تستعر أكثر وأكثر، فتنعكس حرارة على المكان بألوانها بين الأخضر الشفاف والأحمر الملتهب فيبعثان لوناً بنفسجياً..
كان ذلك مشهد احتراق جثمان ابنة الشعب الهندي العظيم، وكنت أتساءل: بأية قوة استطاع راجيف غاندي نجلها أن يفعل ذلك؟ واختصرت الجواب بأنه يفعل ذلك بقوة الروح الهندية العظيمة... عاشت عظيمة، وماتت عظيمة، وكانت واحدة من الزعماء والشخصيات العظماء الذين عرفتهم والذين يؤثرون فينا وفي التاريخ قليلون في هذا الكون.
بدأت ألسنة اللهب تختفي تدريجاً، مخلفة وراءها رماد هذه المرأة العظيمة، وسيُذَرّ الرماد على النهر العظيم الخالد (الجانغ، وعندئذ تبدأ الرياح والأمواج سباقها كي توزع الرماد المقدس على أرض الهند العظيمة.
بعد ثماني سنوات، وفي تاريخ 21 أيار/مايو 1991م لقي راجيف غاندي مصير والدته نفسه، حيث قتل بباقة ورد ملفوفة قدمتها إليه فتاة من «التاميل» في أثناء قيادته حملته الانتخابية. وكان أخوه والنجل الأصغر لأنديرا، قد اغتيل قبل عدة سنوات في حادث طائرة، وكأنه كتب على هذه العائلة العريقة والعظيمة التي حكمت الهند خلال نصف القرن الأخير أن تكون في مواجهة الموت على نحو غير معهود.
(للحديث بقية)