آخر تحديث :الأحد-08 سبتمبر 2024-02:42ص

ملفات وتحقيقات


أبرز ما قاله الرئيس علي ناصر عن العلاقات بين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والكوريتين الشمالية والجنوبية (50)

الأحد - 23 يونيو 2024 - 07:38 م بتوقيت عدن

أبرز ما  قاله الرئيس علي ناصر  عن العلاقات بين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والكوريتين الشمالية والجنوبية (50)

إعداد/ د. الخضر عبدالله:



يتجدد اللقاء مع الرئيس علي ناصر محمد ضمن سلسلة لقاءات سابقة حول السياسة الخارجية الجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية الذي فتح صدره لنا وكشف عن أمورا كانت عامضة، منها نشرناها في (عدن الغد) وبعضها التزمنا سياسة الصحيفة بعدم نشرها .. لقاءنا لهذا العدد خصصه الرئيس ناصر للحديث عن العلاقات بين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وكوريا .. وقال مستدركا :" في تشرين الأول/أكتوبر 1984م هبطت طائرتنا في مطار «بيونغ يانغ». كان ينتظرنا حشد من الكوريين، حيث اصطف نحو نصف مليون مواطن على طول الطريق من المطار إلى قصر الضيافة. استقبلوا موكبنا بالغناء والرقص، ولوّحوا بالأعلام الملونة، مشكلين سلسلة من الأهرامات البشرية حيث يتسلق بعضهم ظهور بعض بحركات رياضية من تلك التي يقدمونها عادة في الملاعب، ولكن هنا تجري على الهواء مباشرة وعلى امتداد الشوارع التي كنا نمرّ بها، وكانت هذه المواكب الزاحفة تضطرنا إلى الوقوف في أكثر من مكان.

قحطان الشعبي في كوريا

يواصل الرئيس ناصر حديثه و يقول:" كانت مدينة بيونغ يانغ ثاني عاصمة أجنبية بعد موسكو يزورها الرئيس قحطان الشعبي، أول رئيس لليمن الجنوبية. واستُقبل فيها استقبالاً رسمياً وشعبياً كالفاتحين، إذ كان أول رئيس عربي يزور كوريا الشمالية، وغنّى له الكوريون تلك الأغنية التي راجت بعد الاستقلال «بالأحضان يا قحطان» والتي لحنها وغناها الفنان اليمني الكبير أحمد قاسم. التقى الرئيس قحطان الزعيم الكوري كيم إيل سونغ زعيم الأربعين مليون كوري، أو «شمس الشموس»، كما يحب الكوريون أن يطلقوا على زعيمهم.


نبوءة كيم!

ويضيف الرئيس ناصر قائلا:" كان في انتظاري الزعيم الكوري الشمالي «كيم إيل سونغ» ونصف مليون كوري احتشدوا لاستقبالي. شعرت بحرارة الاستقبال هنا في هذا البلد البعيد. في زيارتي هذه قلدني الزعيم كيم إيل سونغ أعلى وسام في كوريا الديمقراطية تكريماً للعلاقة والصداقة بين القيادتين والشعبين الصديقين في اليمن الديمقراطية وكوريا الديمقراطية. وأجريت معه أيضاً، محادثات بدا فيها متأثراً جداً وقلقاً حيال مستقبل البلدان الأوروبية الاشتراكية، حيث كان قد قام بجولة واسعة فيها بالقطار في العام الذي سبق، وبدا حزيناً وهو يصف لي حالتها، وأبدى شكوكه في نجاح تجربتها واستمرارها بسبب فقدان الناس الحماسة للاشتراكية، وبسبب تخلف القيادات عن إصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية، والروتين والبيروقراطية التي تعرقل عملية التطور الاشتراكي وتعطل مصالح الجماهير. وقال إنه يشعر بأن هذه الدول ستنتهي عمّا قريب، وإنه قد رأى بوادر انهيارها، وإنه لم يحسّ بقوة النظام الاشتراكي وحماسة القيادة والناس إلا في ألمانيا الشرقية ولدى الزعيم الألماني إريك هونيكر.... لم يمضِ وقت طويل حتى تحققت نبوءته وانهار الاتحاد السوفياتي وبقية البلاد الاشتراكية الأوروبية التي كانت ملحقة به تحت جنازير الدبابات السوفياتية بعد الحرب العالمية الثانية.

أمنية لم تتحقق

ويسترسل في حديثه ويقول:" من المرجَّح أنه كان يسرح بخياله نحو تحقيق هذا الهدف العظيم، وهو ينصت إلى حديثي باهتمام، وتتفجر في ذهنه أسئلة عديدة. وعندما انتهيت من شرحي عاد من عالمه البعيد ذاك ونظر إليّ وقال: «إنني سعيد جداً مما سمعته منك عن الجهود التي تبذلونها لتوحيد بلدكم، وقد حققتم أشياء عظيمة أتمنى أن نصل ولو إلى خمسة في المئة منها في كوريا، ولا أخفي عليك أن غاية حياتي أن يطول بي العمر حتى أرى الوحدة الكورية تتحقق».
وقد وافته المنية بعد ذلك بسنوات دون أن يتحقق له ذلك الحلم، بينما تحققت الوحدة في اليمن والوحدة في ألمانيا.
وبعد اربع وثلاثين عاما من حديث الجد كيم ايل سونغ يحقق حفيده كيم جونغ سونغ أمنية جده في التقارب بين الكوريتين على طريق تطبيع العلاقات في انتظار تحقيق الهدف الكبير الذي كان يحلم به الزعيم الكبير كيم ايل سونغ.


السر الآسيوي

يشرح الرئيس ناصر حديثه وقال:" أظن أن القصة التالية تعطي صورة صغيرة عن سر اللغز الآسيوي. قال لي كيم إيل سونغ ونحن في قصر المباحثات، وهو صَرْحٌ شامخ من الرخام الباهر، يجمع بين الثراء والفخامة والأبهة على نحو لافت للنظر: « على هذا المقعد نفسه كان يجلس فرانسوا ميتران، كان يومذاك رئيساً للحزب الاشتراكي الفرنسي ولمّا يصبح بعد رئيساً للجمهورية الفرنسية، وقد نظر إلى هذه الثريا الكبيرة المعلقة فوقنا ولم يخف إعجابه بروعة صنعها وسألني: من أين استوردتم هذه الثريا الجميلة؟ وقد أجبته: نحن صنعناها. ثم تطلّع حواليه وسألني مرة أخرى: وهذا القصر الجميل الضخم؟ ما الشركة التي نفذته؟ فأجبته بهدوء: لقد بنته الشبيبة الكورية خلال سنة واحدة فقط. وهنا نظر إليّ ميتران وقال: إن الشعب الذي يفعل ذلك حقاً، شعب عظيم ويستحق كل الدعم. وإذا وصلت إلى رئاسة الجمهورية الفرنسية فسأقدّم إليكم كل الدعم الممكن». ثم ضحك «كيم إيل سونغ» معلقاً: لقد نسي السيد ميتران وعوده بعد أن أصبح رئيساً لفرنسا ولم يسأل عنا. لقد اختفى واختفت وعوده. لكنني لا أخفي عليك أننا لم نحمل وعوده يومذاك على محمل الجد، فيتعين على المرء أن يعتمد على نفسه، وهذا ما نحن مصممون عليه في كوريا الديمقراطية، الاعتماد على الذات». وأخذ يشرح لي فكرة «زوتشيه» التي يتبنونها والإنجازات التي حققها شعبه بالاعتماد عليها كنوع من تأكيد الاعتماد على النفس بعيداً عن الصراع السوفياتي الصيني، وهي تعني المزيد من الاشتراكية والقومية الخاصة والاستقلال سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وهي فلسفة الاعتماد على النفس وفنّ تحقيق المستحيل، وبعد ثلاث وثلاثين سنة من زيارتنا لها عام 1984م أصبحت كوريا الشمالية قوة نووية تتحدى أكبر الدول في العالم بعد القنبلة الهيدروجينية التي جربتها في آب/أغسطس عام 2017.


عبقرية أبن العزيز


ويتابع الرئيس ناصر ويقول :" أثناء زيارتي ابهرت بما رأيت لأنني كنت قادماً من طبيعة مختلفة، بيئة صحراوية جرداء قلما ينبت فيها الشجر، وجبال جرداء لا يكسوها الاخضرار، لندرة الأمطار، وانعدام الأنهار..
كان الزعيم كيم إيل سونغ يعاني أمراضاً كثيرة، لكنها مُخفاة عن الناس، حتى تلك القطعة اللحمية الكبيرة التي كان يحملها فوق ظهره كان الشعب يعتقد أنها ميزة لا تحدث عند الناس العاديين، بل هي ميزة يختص بها العظماء فقط، وحينما مات اعتقد الكوريون أن يوم القيامة قريب، وعرف العالم الابن، فإذا بصورته تشبه صورة أبيه تماماً ويكادان يكونان في عمر متقارب.
يحكي لك المرشد عن عبقرية الابن العزيز وهذا لقبه كيف سأله أستاذه مرة عن 1+1 فأجاب العزيز أنها تساوي 1، فاندهش المدرس، لكنه لا يستطيع أن يكذّب ابن الزعيم العزيز، وفي الوقت نفسه لا يستطيع أن يغيّر في حساب المنطق الرياضي، فطلب منه أن ينور المدرسة ويعلم المعلم ويرشد الطلبة فقال 1+1=1 يعني كوريا الشمالية + كوريا الجنوبية تساوي كوريو أي بمعنى كوريا الواحدة، فانهمرت عينا المدرس بالدموع وفرح فرحاً عظيماً ذلك اليوم وابتهج لنبوغ الابن العزيز وعبقريته، الذي ربما جنبه الإعدام فيما لو اعترض أو حاول التصحيح له، فانحنت رؤوس الطلبة المؤدلجين خشوعاً وإكباراً للعبقرية الصغيرة التي أنجبتها كوريا الشمالية .

كوريا الجنوبية

ويكمل الرئيس علي ناصر محمد روايته عن زياؤته إلى كوريا حيث قال في حديثه :" الزيارة لكوريا لا تكتمل من غير زيارة جزئها أو شطرها الآخر، وأقصد كوريا الجنوبية. وقد كان عليّ أن أنتظر سنوات طويلة لكي أستطيع رؤيتها، وتحقيق هذا الحلم الذي لم أستطع تحقيقه عندما كنت في السلطة. فقد كان التفكير في زيارة كوريا الجنوبية يومذاك يُعَدّ موقفاً سياسياً وأيديولوجياً معادياً للأصدقاء في كوريا الشمالية ولزعيمها كيم إيل سونغ الذي كان يعدّ نفسه زعيماً لأربعين مليون كوري، هم كل سكان الشمال والجنوب، حيث لم يكن يعترف بتقسيم شبه الجزيرة الكورية، التي تفصل بينها اليوم منطقة صغيرة لا يتجاوز عرضها أكثر من أربعة كيلومترات، تفصل الأشقاء الألداء. منزوعة السلاح حقاً، لكن السلاح المحتشد على أطرافها يفوق حجم أي كمية من الأسلحة على أي حدود، تبدأ بالبنادق التي تصوب بدقة الليزر، ولا تنتهي إلا بالصواريخ والقنابل النووية، ولا يفوق حجم السلاح إلا حجم الكراهية والاحتقان الذي استنفد جهد نصف قرن حياة الكوريتين. لقد تغير الأمر قليلاً. لم يتراجع السلاح، ولكن تغيرت نبرة الحوار، ولم يعد الحديث عن مذابح الماضي، ولكن عن ذلك الضوء الذي يمكن أن يشرق في نهاية النفق .

زيارة سيو ل من السيد مون

ويضيف الرئيس ناصر بقوله:" أما كيف جاءت الدعوة لزيارة سيول، فقد تلقيت دعوة من (السيد مون) لحضور مؤتمر السلام في نهاية آذار/مارس 1994م، الذي يحضره كثير من زعماء العالم السابقين من الرؤساء ورؤساء الحكومات والشخصيات العربية والدولية من الذين تركوا السلطة في بلدانهم، أو أقصوا عنها لسبب من الأسباب. لبيتُ الدعوة وقلت إنها فرصة لرؤية الشطر الآخر من كوريا بعد أن أتيحت لي الفرصة قبلاً لزيارة كوريا الشمالية، كذلك فإنها فرصة لالتقاء العديد من زعماء العالم الذين لم يعودوا في السلطة.
نحن نحلق الآن على ارتفاع 37000 قدم في طائرة «كاثي باسفيك» العملاقة من نوع البوينغ 747 في الطريق من البحرين إلى محطتنا الأولى «هونغ كونغ» التي كنا نقترب منها الآن. على الشاشة كانت مدينة هانوي عاصمة فيتنام تظهر على بعد 300 كيلومتر من البحر، كذلك ظهرت أيضاً على الخريطة نفسها، تايلاند ولاوس، اللتان كنا نمرّ بالقرب منهما أو فوقهما. كانت طائرتنا تقترب من مطار هونغ كونغ عروس الشرق الأقصى أو لؤلؤته وآخر جواهر التاج البريطاني التي كان سكانها يستعدون للالتحاق بالوطن الأم الصين بعد أن ظلت محتلة منذ عام 1841م.

هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها هونغ كونغ، لكن اسمها كان يتردد دوماً، وقد قرأت وسمعت عنها وعن معجزتها الاقتصادية كثيراً، وكانت منتجاتها تملأ أسواق عدن التي كانت سوقاً لتصريف منتجات المستعمرات البريطانية فيما وراء البحار في ظل حكومة صاحبة الجلالة، وكانت عدن يومذاك إحدى جواهر التاج البريطاني وجوهرة الجزيرة العربية، وكان اسمها يملأ الآفاق ميناءً حراً وسوقاً حرة وأسعاراً أقل من الأسعار في هونغ كونغ.

مطار هونغ كونغ

وفي حديثه لـ(عدن الغد) يقول الرئيس ناصر قائلا:" هبطت الطائرة في لسان طويل ممتد وسط البحر بعد أن اخترقت السحاب والجبال والأبراج العالية ووقفت وسط المباني حيث أصبح من الصعب علينا التمييز إن كنا هبطنا حقاً في المطار أو هبطنا خطأً في أحد شوارع هونغ كونغ ذات المباني والأبراج العالية، ويُعَدّ مطار كاي تاك (مطار هونغ كونغ) أكثر مطارات العالم رعباً فى مرحلة الإقلاع والهبوط بسبب الرياح القوية والجبال المحيطة والأحوال الجوية المضطربة ويطلقون عليه (المطار الأم الأكثر رعباً فى العالم)، وصنف عام 1998م كأخطر مدرج هبوط على وجه الأرض، ويُعَدّ القاعدة الرئيسة لشركة كاثي باسيفيك والعديد من شركات الطيران الإقليمية، وعلى خلفية هذه الغابة من ناطحات السحاب تنتشر أحواض ملأى بالتراب حيث تزرع مجموعة واسعة من المنتجات، منها الخيار والطماطم على سطوح هذه الأبراج بسبب ضيق المساحة حيث تشكل السطوح المكان الوحيد لزرع الخضار، شأنها شأن العديد من المدن الكبرى التي اتبعت هذا الأسلوب. هذه هونغ كونغ مدينة هادئة وجميلة كانت تنتظر مصيرها قبل أن تؤول ملكيتها إلى الصين في عام 1997م التي وجدت المخرج لذلك بإطلاق شعارها الذي لقي رضا وترحيب سكان المستعمرة البريطانية السابقة وترحيبهم، وهو «وطن واحد ونظامان». أدّت الحكمة الصينية دورها في الحفاظ على النمو الاقتصادي الرأسمالي للمدينة، وهو أمر يصبّ في مصلحة الصين، وفي الوقت نفسه استعادت سيادتها على الجزيرة التي اقتطعت من الوطن الأم ولم تشترط لتحقيق ذلك دمجها في الإنتاج الاشتراكي أو النظام الشيوعي، بل إن الصين نفسها اجترحت معجزتها الاقتصادية التي جعلت منها أكبر اقتصاد في العالم نمواً.
بعد أربع ساعات من الانتظار انتقلنا إلى طائرة أخرى أقلتنا إلى سيول عاصمة كوريا الجنوبية الرأسمالية، التي دخلت في منافسة وسباق مع بيونغ يانغ الشيوعية لإثبات من منهما تستطيع تحقيق الأفضلية للمواطنين الكوريين.

الحرب الكورية

وواصل الرئيس ناصر حديثه وقال :" من المعروف أنه في صيف 1950م اندلعت الحرب الكورية ، وخيّم شبح الحرب العالمية الثالثة على العالم من جديد. فقد تجاوزت قوات كوريا الشمالية خط عرض 38 الفاصل بين الكوريتين بمقتضى قرارات مؤتمر بوتسرام 1945م بعد استسلام اليابان وتقسيم كوريا إلى دولتين: جنوبية عاصمتها «سيول» برئاسة ينجمان ري وتحت حماية الولايات المتحدة، وشمالية عاصمتها بيونغ يانغ وتخضع للنفوذ السوفياتي. وعقب الهجوم اجتمع مجلس الأمن – في غياب المندوب السوفياتي – وقرر تشكيل قوات دولية تحت علم الأمم المتحدة، وتحركت القوات الأميركية المتمركزة في المحيط الهادئ بقيادة الجنرال «ماك آرثر» لنجدة كوريا الجنوبية. وكانت القوات الأميركية موجودة هناك في تاريخ زيارتنا عام 1994م ولا تزال هناك حتى اليوم.

فندق لوت

وتابع الرئيس علي ناصر حديثه وقال :" نزلنا في فندق لوت، في الدور 28 في جناح جميل يطل على مدينة سيول ذات ناطحات السحاب والمباني العالية التي يخال إليك أنها تطاول أو تعانق الجبال المطلة على المدينة. ولم أصدق عندما قيل لي إن هناك مدينة كاملة تحت هذا الفندق، إلا بعد أن هبطت إليها وشاهدتها بنفسي بشوارعها ومحالها التجارية التي تكتظ بالسياح والمستثمرين، ويبدو أن هذه المدينة في الأسفل لها علاقة بالموقع الاستراتيجي لسيول والتطور الهائل الذي شهدته المدينة... إذ لا تبتعد سيول سوى ثلاثين كيلومتراً عن الجبهة، وتقع على مرمى المدفعية الكورية الشمالية المتمركزة وراء خط العرض 38 الذي يفصل بين الكوريتين. عندما صعدت لم أجد سبيلاً إلى النوم بسبب اختلاف التوقيت، فساعتي كانت تشير إلى الثانية عشرة ليلاً بتوقيت دمشق التي قدمت منها، أي منتصف الليل، ولكن الوقت في سيول كان في اللحظة نفسها السادسة و45 دقيقة صباحاً. طلبت من منظمي المؤتمر إشعارنا بموعد بدء أعماله الذي كان يحضره أيضاً الرئيس السوفياتي الأسبق ميخائيل غورباتشوف، صديق السيد مون، الملياردير ورجل الأعمال المعروف الذي وعد الزعيم السوفياتي ذات يوم بتقديم 12 مليار دولار مقابل تدمير الشيوعية والقيام بالإصلاحات في الاتحاد السوفياتي، ولكنه نكث بوعده. وغورباتشوف لا يضيع فرصة حضور مؤتمر كهذا، فهو منذ أعوام أي منذ أن أُقصي من السلطة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وهو يتنقل بين عواصم العالم لإلقاء المحاضرات وجمع المساعدات لصندوقه كما يدعي يرافقه صديقه كارين بروتنتس، وهما الآن يحضران هذا المؤتمر الذي تحدث فيه السيد مون في الجلسة الافتتاحية مفلسفاً الصراع منذ مهد البشرية، أي منذ خلق آدم وحواء، وقابيل وهابيل، والأنبياء والرسل الذين جاؤوا لإصلاح حال البشر بعد أن عجز آدم عن إصلاح حال أبنائه. وتحدث في كلمته عن الخير والشر والحرب والسلام. المهم أن الرجل ليس فيلسوفاً، ولا كان مصلحاً سياسياً أو اجتماعياً، ولكنه يملك المليارات التي يحاول بواسطتها أن يبني مجداً، وهو لذلك ينظم في كل عام حفلات جماعية للزواج عبر الكمبيوتر الذي يختار الزوج والزوجة المناسبين الواحد للآخر، ويتكفل السيد مون بتكاليف هذا الزواج جميعاً في حفلة كبيرة سنوية. وكان صديقنا المترجم تاج الدين (وهو من أصول سودانية) أحد هؤلاء المحظوظين الذين زوجهم الملياردير أو (الوالد) كما كان يسميه، وكان من نصيبه زوجة أسترالية اختارها له (الكمبيوتر) من وحي الملفات والمعلومات والمواصفات التي غذي بها الجهاز الذي حلّ في عصر العلم والمعلوماتية بدل الخاطبة التقليدية التي كنا نعرفها أيام زمان!


افتتاح جلسة أعمال المؤتمر

يواصل الرئيس ناصر ويقول:" هذا المؤتمر حضره كثير من زعماء العالم السابقين من الرؤساء ورؤساء الحكومات والشخصيات العربية والدولية من الذين تركوا السلطة في بلدانهم، أو أقصوا عنها لسبب من الأسباب. لبيتُ الدعوة وقلت إنها فرصة لرؤية الشطر الآخر من كوريا بعد أن أتيحت لي الفرصة قبلاً لزيارة كوريا الشمالية، كذلك فإنها فرصة لالتقاء العديد من زعماء العالم الذين لم يعودوا في السلطة.
ويشرح الرئيس ناصر ويقول :" إلى جانب السيد مون تحدث في الجلسة الافتتاحية كل من:
الفريق عبد الرحمن سوار الذهب، الرئيس الأسبق للسودان، أمين الجميل، الرئيس الأسبق – لبنان، عزيز صدقي ، رئيس وزراء سابق – مصر، د. عبد العزيز حجازي، رئيس وزراء سابق – مصر، د. طاهر المصري، رئيس مجلس النواب الأردني، الدكتورة حنان عشراوي – فلسطين، ميخائيل غورباتشوف – الرئيس الأسبق للاتحاد السوفياتي، الزعيم كاو ندا – رئيس زامبيا، إدوارد هيث – رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، وأكثر من خمسين شخصية من مختلف القارات، معظمهم كانوا رؤساء دول وحكومات وبرلمانات سابقين!!
بعد انتهاء أعمال المؤتمر ذهبتُ مع مرافقي في رحلتي هذه، عبد الله البار، عضو قيادة المؤتمر الشعبي العام ومعاوني حسن عليوه، في زيارات لبعض معالم سيول، حيث أمكننا الاطلاع على جوانب من التطور الهائل الذي تشهده كوريا الجنوبية التي تُعَدّ إحدى القواعد المتقدمة للولايات المتحدة الأميركية قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، في ظل الحرب الباردة بين المعسكرين، وهي التي لا تزال تحتفظ بقواعدها وقواتها هنا حتى بعد زواله لتكون قريبة من كوريا الشمالية والصين.

المعجزة الآسيوية

ويضيف الرئيس ناصر قائلا:" كانت الزيارة لكوريا الجنوبية مفيدة لي، فقد اطلعت على المعجزة الآسيوية التي تسهم سيول بنصيبها فيها، وأتاحت لي الفرصة أيضاً الاطلاع على الوجه الآخر لكوريا وعلى تجربة الشعب الكوري العظيم الذي ينشد الوحدة، التي بدأت المباحثات بين الكوريتين بشأنها بعد ذلك، حيث زار كيم داي جونغ الرئيس الكوري الجنوبي بيونغ يانغ واجتمع إلى الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ إيل ووقّعا العديد من الاتفاقات المهمة، أهمها جمع شمل العائلات الكورية، وهي أول زيارة يقوم بها زعيم كوري جنوبي للشطر الآخر من كوريا بعد موت زعيمها كيم إيل سونغ الذي ورث ابنه عنه السلطة عام 1994م في أول ظاهرة في نوعها في دولة شيوعية. وبهذا اللقاء بين الرئيسين الكوريين كادت آخر خطوط الحرب الباردة تبدأ بالسقوط، وكاد الجدار الحديدي الذي كان يقسم كوريا منذ قرابة نصف قرن يزول، لكن الأمل بذلك الانفتاح لم يستمر طويلاً، إذ سرعان ما برز شبح المواجهات بين الكوريتين.
في نهاية الزيارة سألت نفسي: ما الذي جاء بنا إلى هذا الغول الرأسمالي الذي جمع هذا العدد من الزعماء السابقين في العالم حال بعضهم كان يُرثى له مثل غورباتشوف الذي وصل إلى حفلة فنية، فذهب للسلام على السيد مون وزوجته اللذين كانا يجلسان في مقدمة الحضور، ولكن هذا الأخير لم يكلف نفسه حتى عناء النهوض، فسلَّم عليه وهو جالس في مكانه، وتكرر هذا الموقف بعد إلقاء غورباتشوف كلمته، حيث ذهب للسلام على السيد مون وهو جالس في مكانه. لعنت في سري هذا «النوع من الزعماء» الذي يقبل كل هذا الإذلال على نفسه وهو الذي كان يحكم ذات يوم الدولة العظمى الثانية في العالم، وبيده مفاتيح الزر النووي، ولعنت الظروف التي أتت بنا إلى هذا الرجل. قررت ألّا أشارك في مؤتمر من مؤتمراته السنوية بعد ذلك، وفعلاً أخذت أعتذر عن عدم الحضور عاماً بعد عام.


لقاء مع كاوندا في سيول

وفي حديثه لــ( عدن الغد) يقول الرئيس علي ناصر :" وفي 28 آذار/مارس التقيت الزعيم الإفريقي كاوندا الذي حكم زامبيا زمناً طويلاً، وكان يُعَدّ أحد حكماء أفريقيا، ولكنه اليوم يعيش خارج السلطة في انتظار العودة إليها. ويعتقد أن البريطانيين هم الذين أزاحوه... خلال اللقاء حدثني كاوندا عن الدور الذي أدّاه السيد (هنش كلف) المندوب السامي في زامبيا، في إبعاده عن السلطة، وقال إنه دخل زامبيا وأخذ يعمل كالفأر لنخر سلطته وإزاحته، وإن زوجة السيد هنش اشتغلت هي الأخرى في أوساط المرأة الزامبية، وإن الاثنين تمكنا من إزاحته وإبعاده من السلطة. وكان هذا الأخير، يعمل ضابطاً سياسياً في محمية عدن الغربية، ويتنقل بين عدن وزنجبار ولودر ومودية، وكانت تحت تصرفه طائرة صغيرة يستخدمها في تنقلاته في محميات عدن الغربية.
دار حديث بيني وبين كاوندا حول الأوضاع في زامبيا والقارة الإفريقية واليمن والوطن العربي وعن الصديق الرئيس منغستو هيلا مريام إذ تعرّفت إلى كاوندا في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا أثناء انعقاد المؤتمر الأول لحزب العمال الإثيوبي، وأتذكر أن الرئيس منغستو كان يتحدث باحترام كبير عن كاوندا باعتباره أحد حكماء القارة الأفريقية. كان كاوندا خلال الهتافات التي تتردد في المؤتمر يلوح بمنديله الأبيض، كما هي عادته، ما ذكرني بالسيدة أم كلثوم التي اشتهرت بمنديلها الذي تمسك به خلال حفلاتها الغنائية.
قابلت في اليوم نفسه الدكتور عزيز صدقي والدكتور عبد العزيز حجازي، والاثنان كانا رئيسي وزراء سابقين لمصر ودار حديثنا حول مصر واليمن وضرورة الاستقرار في أوضاعهما.

الخيول المغولية

ويتابع الرئيس ناصر حديثه بالقول :" من «بيونغ يانغ» واصلتُ رحلتي إلى جمهورية منغوليا الشعبية في النصف الأول من تشرين الأول/أكتوبر عام 1984. وعندما وصلت إلى عاصمتها «أولان باتور» بعد الظهر كانت الشمس مشرقة مائلة بعيدة عن كبد السماء، وكان الطقس شديد البرودة والرياح الباردة تعصف في المطار. في هذا الجوّ القارس كان عليّ استعراض حرس الشرف ومصافحة مستقبلي. سَرَتْ في جسدي قشعريرة باردة وتجمدت أطرافي، لكنني تحاملت على نفسي وتجلدت، لم يبد لي ذلك العرض مريحاً ولا ممتعاً في تلك الأجواء. وكان واضحاً أن المنغوليين معتادون أجواء بلادهم، لكني كنت ارتعش من البرد وأفضل أن تنتهي هذه المراسم سريعاً. لكن ما إن انتهت مراسم الاستقبال الرسمي في المطار حتى بدأت مراسم الاستقبال الشعبي في الشوارع والطرقات. وقد أصرّ مضيفي «تسيد نبال» زعيم منغوليا، على أن نستقل سيارة مكشوفة لتبدأ رحلة أخرى مع البرد والرياح، وكنت وأنا أحيي الجماهير المحتشدة على طول الطرق أحييهم بيد واحدة، واضعاً الأخرى في جيب معطفي حتى لا تتجمد من البرودة، وشعرت بأن أذنيّ قد تجمدتا وشفتيّ قد سال الدم منهما. كنت ارتجف من الداخل وأتظاهر خارجياً بالتماسك والجلد. وظللت على هذا الحال حتى وصلنا إلى دار الضيافة، وكان أول ما فعله المضيفون المنغوليون الطيبون أن أدخلوني والوفد المرافق في خيمة منصوبة في حديقة الدار، وهناك رحبوا بنا على الطريقة المغولية، ودخلت فتاة طويلة وجميلة كانت عيناها الصغيرتان الجميلتان تشعان بالفرح والترحيب، وانحنت وقدمت إلينا كأساً من لبن الخيل مثلما تقتضي تقاليد الضيافة عندهم، وهذه هي المرة الأولى التي أشرب لبن الخيل. وكما علمت بأنه يوجد في منغوليا ملايين من الأحصنة وملايين من الحيوانات كالأبقار والأغنام والإبل، وقد شاهدت قطعاناً من الظباء والوعول ترعى إلى جانب دار الضيافة التي نزلت فيها.
وقال الرئيس ناصر :" والمنغوليون رعاة ماشية أساساً، فهم يرتحلون وراءها ولا يكادون يعرفون الاستقرار، وتبلغ مساحة منغوليا نحو 1.565.000 كيلومتر مربع، ورغم كل هذا فالسكان لا يتجاوزون ثلاثة ملايين نسمة، وقد حدثني الرئيس المنغولي ونحن في الطريق من المطار إلى دار الضيافة أن النقص في عدد السكان سببه أن أغلب المنغوليين هاجروا إلى روسيا والصين والولايات المتحدة الأميركية نظراً إلى ضعف الاقتصاد المنغولي في العقود الماضية. ومنغوليا هي الدولة الوحيدة في العالم التي يزيد عدد الخيول فيها على عدد السكان بأضعاف حيث تنتشر الخيول في كل مكان في البلاد



(للحديث بقية)