آخر تحديث :الجمعة-29 مارس 2024-05:01م

ملفات وتحقيقات


كم ستحتاج هذه البلاد لتعويضهم؟

الجمعة - 09 أبريل 2021 - 03:09 م بتوقيت عدن

كم ستحتاج هذه البلاد لتعويضهم؟

كتب / محمد عبد الوهاب الشيباني


بعد ثلاثة أعوام من نشوب الحرب العبثية، طلب منّي أحد الأصدقاء كتابة مادة لدورية عربية يعمل فيها؛ مضمونها يتصل بتتبع ورصد حالة الفقد التي عاشها اليمن، خصماً من أرصدة حياة مبدعيه (أدباء وكُتاب وفنانين وأكاديميين)، لأنه خلال تلك السنوات، وفي السنوات التي مهّدت لها أيضاً، فقدَ اليمن كثيرا من مبدعيه: شعراء ونُقاد وفنانين وصحافيين، في حال لم تتشابه بغيرها على الأقل في ثلاثة عقود.

لم يميِّز الموت فيها بين ضحاياه، لكنه صبغ فعله بالمباغتة والكمد، وجعل من صنيعه المؤلم مستسهلا وعادياً في حياة الجميع؛ لأنه ساوى بين من احتمى ببطن الأرض، ومن يدب منكسراً على ظهرها.
أتذكر، في تلك الفترة، قمت بحصر قرابة خمسين اسماً من الذين أعرفهم تماماً، وقضوا في سنوات الحرب أو عشيتها، وتلك الأسماء انحصرت فقط في المشتغلين بمجالات: الأدب، والفنون، والإعلام، وكان لها حضورها الوازن في الحياة الثقافية خلال عقود، وعمدت أثناء الكتابة تسجيل سير قصيرة عنهم أو انطباعات عابرة عن انصرافاتهم الإبداعية، بحكم معرفتي الشخصية بمعظمهم أو بتجاربهم الكتابية.

وعندما نشرت المادة لاحقاً في صفحتي في "فيس بوك"، أضاف إليها المتفاعلون أسماء عديدة من الأصدقاء والزملاء المبدعين والمثقفين، الذين لم أنتبهْ لمغادرتهم إلى ضفة وجودية أخرى في زحمة الحرب وجنونها.
أعدت تحرير المادة من جديد بإضافة الأسماء التي لم أنتبهْ لها، ووقتها تبادر إلى ذهني الاشتغال على موضوع طويل خطر لي تسميته بـ"أنطولوجيا الموت"، كفعل لإدانة الحرب ورعاتها ومسيّريها، لمساهمتهم بدور فظيع في التسريع بموت تلك الأسماء، بسب الإهمال والتناسي، وانعدام الرعاية الصحية الطبيعية لاستشفائهم، ولعبت عملية انقطاع المرتبات دوراً مُعجِّلاً في هذه الفواجع، لأن بعض الذين رحلوا لم يستطيعوا توفير قيمة علاجات وأدوية، كانت في الأصل تمكنهم من التعايش مع أمراضهم المُزمنة.

أتذكر من تلك الأسماء، التي قاربت سيرها بعد رحيلها الأستاذ أحمد قاسم دماج، الرئيس المعتق لاتحاد الأدباء والكُتاب اليمنيين، والشخصية الثقافية والسياسية المرموقة، وأحد رموز اليمن الجديد، الذي كان شاهداً على تحولاته الاجتماعية والسياسية والثقافية، منذ منتصف الأربعينات.

أيضاً هشام علي بن علي، الذي حضر منذ ثلاثة عقود ونصف كواحد من المثقفين المختلفين في اليمن، لم تمتصه الوظيفة الرسمية – كوكيل مؤبّد لوزارة الثقافة – بل كان قادرا على تحويل هذا الموقع إلى مرموز للمثقف غير المستكين، الذي باستطاعته إحداث الفارق والمفارق بواسطة الكتابة المتجددة في موضوعات النقد الأدبي، والانثروبولوجيا والثاقافويات والتاريخ، الذي توفي مطلع ديسمبر 2017.

الشاعر السبعيني المجدد وأحد رموز الثقافة اليمنية المعاصرة (عبد الرحمن فخري) توفي بعيدا من مسقط رأسه مدينة عدن، رحل هو الآخر في صمت أيضا في مدينة نيويورك، في 21 أغسطس 2016م. وفخري أحد روّاد شعر الحداثة ونقدها في اليمن، وأحد آباء التمرّد، وظلت مجموعته الأولى «نقوش على حجر العصر 1978» أيقونة الصوت السبعيني.
وكتابه النقدي «الكلمة والكلمة الأخرى – إضاءة نقدية على الأدب اليمني المعاصر 1983» عنوان للمشاكسة النقدية بمقارباته الضاجة لأكثر الموضوعات إشكالية.

وبعيدا من مدينة عدن أيضا، رحل الفنان الرائد فرسان خليفة، هناك في أبو ظبي في نوفمبر 2016م. وخليفة أحد رموز الأغنية العدنية واليمنية بشكل عام. غنّى لكبار الشعراء، وشعراء الأغنية المعروفين، عشرات القصائد التي تغنّت بالأرض والإنسان والجمال والثورة.
وغير هؤلاء رحل في الفترة ذاتها، الفنان الكبير أبوبكر سالم بلفقيه في الرياض، بعد أن وضع بصمة لا تُمحى في تاريخ الفن في الجزيرة والخليج، إذ استطاع نقل الغناء الحضرمي واليمني عموماً إلى مساحات تأثير متقدّمة وفاعلة في خارطة الغناء في المجاورات والإقليم.

الإعلامية العدنية الرائدة (فوزية باسودان) ماتت وحيدة في أحد مشافي الإسكندرية مطلع يوليو 2017م. والراحلة هي شقيقة الفنانة رجاء باسودان الصوت الغنائي القوي الذي فاض في سماء اليمن، وقت كان مشطورا. وكانت فوزية من أبرز نجمات تلفزيون عدن في الستينيات والسبعينيات.
في ديسمبر 2017، انطفأ في صنعاء قلب عبدالرحمن عبدالخالق، الأكاديمي في جامعة عدن، ورئيس اتحاد الأدباء السابق في المدينة، القاصّ المعروف، وأحد المعدودين في اليمن في الكتابة للطفل.

وفي آخر أيام فبراير 2018م، توقف قلب الفنان التشكيلي الرائد فؤاد الفتيح، عن سبعين عاما في مدينة عدن، بعد أن فرّ إليها من جحيم صنعاء، التي شكّلت بتفاصيلها كمعمار وملابس ووجوه الجزء الأكبر من ذاكرته التشكيلية في أربعة عقود، حيث افتتح فيها أول صالة عرض تشكيلية في اليمن، وأدار بالقرب من سوقها القديم المركز الوطني للفنون، الذي تحوّل إلى محترف لتعليم الرسم والمهن التقليدية الخاصة بالمدينة القديمة.
وتمثل تجربة الفتيح التشكيلية الضلع الثالث لمثلث الريادة التشكيلية في اليمن، بعد ضلعي عبدالجبار نعمان وهاشم علي عبدالله.

في منتصف سبتمبر 2017م، مات في 'حوطة لحج' الأديب والتربوي علي حسن جعفر السقاف (القاضي)، رئيس اتحاد الأدباء والكُتاب اليمنيين بالمحافظة. مات من دون بيان عزاء. بشخصيته التوافقية وحضوره الاجتماعي، وعلى مدى عقدين عمل على الحفاظ على تماسك الاتحاد من التشظِّي والانقسام، في وقت تتعالى فيه الأصوات الانعزالية التي تتغذّى على الكراهية، التي لم تكن حاضرة في خطاب الأدباء، كما تعززها الآن لوثة الحرب والانقسام.

في أحد مشافي القاهرة توفي الدكتور خالد الصوفي، الإعلامي المعروف، وأستاذ العلاقات العامة في كلية الإعلام بجامعة صنعاء، مطلع يناير 2016م، بعد معاناة مؤلمة من الإصابة التي تعرّض لها في ثورة 2011م، نتيجة اعتداء جنود عليه بالضرب المبرح.
في منتصف فبراير 2018، رحل الصحافي المجتهد بشير السيد، عن 39 عاما. مات بالتهاب رئوي حاد، لم يستطع أحد أكبر مستشفيات صنعاء إنقاذ حياته. والسيد عمل سكرتيرا لتحرير "صحيفة النداء"، الأهلية التي جسّدت خلال سنوات صدورها، قبل توقفها القسري لظروف الحرب، الصوت العقلاني في الصحافة اليمنية بعيدا من الإثارة والابتذال.
مات في عدن الشاعر والناقد والمثقف المعروف فريد بركات، أحد وجوه الثقافة الجديدة الرائدة في اليمن، ووكيل وزارة الثقافة السابق، واحد المعدودين في تأليف كلمات الأغاني العدنية الرفيعة.

المثقف المرموق (حامد جامع) مات في أواخر يوليو 2019 في المدينة، التي أحبها، فأقامت تحت جلده الأسمر، وكان يقول وبضحكته المميّزة إنه صومالي، لكن خلاصة المدينة 'الكوزومبوليتية'، التي اختلطت فيها الأعراق والأديان (الصومالي والهندي والعربي) و (المسلم واليهودي والمسيحي والبوذي والبهائي والوثني).
ومات قبل ذلك بأشهر، وتحديداً في مايو 2019 في الهند، وهو في رحلة علاج، المثقف اليمني والسياسي اليساري وأحد خبراء البيئة المعدودين في اليمن (خالد إبراهيم حريري).
رحل قبل ذلك، وتحديداً في سبتمبر 2017، الأكاديمي والناقد، رئيس تحرير "الحكمة"، والأمين الثقافي لاتحاد الأدباء الدكتور عبد المطلب أحمد جبر في عدن، والباحث والناقد عبد الكافي الرحبي في أكتوبر 2015 في صنعاء، والصحافي فارس حمود غانم في جنوب أفريقيا في يوليو 2015، والفنان عبد اللطيف يعقوب في مطلع 2017، والشاعر علي هلال القحم في ابريل 2018، وغيرهم، وغيرهم.

(2)

وخلال السنوات الثلاث الماضية، ما بعد نشر المادة، حصد الموت ضعف ذلك العدد، واكتفيت فقط بمبادلة التعازي مع من أعرف من أسرهم وأحبتهم، وشعرت أن المُضي بمشروع الكتابة عن الموت كمن يعمل كحفار قبور. ومن جديد لعبت الحالة العامة الصعبة وانعدام الرعاية الصحيّة وتفشي فيروس 'كورونا' سبباً مباشرا في هذه الفواجع، خلال السنوات الماضية، التي توِّجت خلال الأسبوعين الماضيين بموت خمس شخصيات كبيرة علمية، وأدبية، وفنية، وابتدأت مع الموت المفاجئ لعالم الآثار والأكاديمي المرموق عبده عثمان غالب، أحد أهم أعمدة علم الآثار في اليمن والجزيرة العربية؛ ومن القلائل الذين تركوا بصمات واضحة في مجال علم الآثار اليمني.

وكان له العديد من الاكتشافات الأثرية، خاصة في علم أنظمة الري اليمنية. وكان أول من كشف عن المراحل الأولى للرّي والزراعة في اليمن القديم.
ثم تبعه الفنان التشكيلي عبد الولي المجاهد، وهو شقيق الفنان الراحل عبدالله المجاهد (أبو سهيل)، فنان الكاريكاتور المعروف، الذي توفي في السنة الثالثة للحرب تحت وطأة الإهمال.
ولحق عبد الولي بعد ذلك بيومين الطبيب والمخترع خالد نشوان، صاحب "جهاز توسيع الشرايين المتصلبة دون إجراء عملية أو تدخل جراحي"، يُعرَف باسم «نشوان باراسوند»، ويعمل على معالجة أمراض الشرايين من خلال إصدار الموجات التصواتية (فوق الصوتية). حصل خالد نشوان على براءة اختراع للجهاز، ويحمل جهازه حماية الملكية الفكرية الدولية، وقد حاز اختراعه أكثر من ثلاثين جائزة دولية، وكان لذلك مخترع العام 2006 في هنغاريا.

وبعده بيوم واحد فقط اختطف الموت القاص المجدد، والقائد النقابي في اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، ميفع عبدالرحمن، صاحب المجموعتين القصصيتين (بكارة العروس) و (الاستحمام بماء ورد الفرح)، قبل أن يتوّجها بنبأ موت أهم علماء الآثار واللغة اليمنية القديمة الدكتور يوسف محمد عبدالله الشيباني، الذي بدأ حياته العلمية طالباً في مدرسة "بازرعة" الخيرية في عدن أوائل الخمسينات، ثم في كلية عدن، فالجامعة الأمريكية ببيروت، قبل سفره في منحة دراسات عليا في إحدى الجامعات الألمانية.
وحين عاد إلى اليمن تقلّد الكثير من المناصب العلمية في جامعة صنعاء، والمناصب الإدارية في وزارة الثقافة.
وهذه الأسماء تُضاف إلى أسماء عديدة رائدة رحلت خلال الأشهر القليلة الماضية، منها: استاذ الاجتماع محمد أبوبكر الحداد ، وأستاذ علم الاجتماع السياسي عبده علي عثمان بعد سنوات طويلة من المعاناة، والدكتور عدنان الشرجبي أستاذ علم النفس، الذي تعرّض لحملة تنكيل وتعذيب في معتقل الحوثيين في صنعاء، ليموت بعد خروجه منها مباشرة، والدكتور سيد مصطفى سالم أستاذ التاريخ المعاصر، والدكتور محمد العمراني أستاذ الأنثروبولوجيا.
(3)
كل هذه الشخصيات التي غيَّبها الموت شكلت - كتجارب- ملمح حقبة طويلة من تاريخ اليمن المعاصر، وصارت في حضورها العلمي والإبداعي علامات مضيئة في طريقه، ولا يمكن أن تُعوّض بسهولة، لأن التجريف الفظيع الذي تمارسه أطراف الحرب وأدواتها يهدف وبشكل واضح ولا لبس فيه محو كل مشاريع الاستنارة التي تراكمت في اليمن خلال ستة عقود؛ أما البديل الذي يعدونه لهذا المشروع اليمني هو مشاريع إظلام حقيقية، يعمل على تكريسها في حياة اليمنيين عصبيون مناطقيون وسلاليون متخلفون وجهويون موتورون، تحت شعارات تخاطب الغرائز المنفلتة، التي تعمل بعيداً عن العقل، وعن المشروع الوطني الكبير القائم على التعدد والتنوع.