آخر تحديث :الجمعة-19 أبريل 2024-12:46م

أدب وثقافة


صوتٌ آخر (قصة قصيرة)

الإثنين - 23 نوفمبر 2020 - 07:53 م بتوقيت عدن

صوتٌ آخر (قصة قصيرة)

عدن (عدن الغد) خاص:

بقلم: رانيا عبدالله

التاسعة صباحا، بعد ليلة نفثت كل مالديها من برودة على المدينة المسكينة، الطرقات تحتفي بأشعة الشمس، والمارة يسعون لاحتضانها أثناء سيرهم نحو مشاغلهم. في أحد الشوارع يقف حضرة النائب مرتديا معطفه الكتاني الأنيق، وشاله الصوفيُّ الدافىء يلتف حول رقبته، وحذاؤه الإيطالي الصنع يعكس ضوء النهار...كفاه في جيبي المعطف...يراقب حركة الشارع باهتمام.
وبينما دبيب الحركة يصنع نبض النهار، يقف المواطن (أيوب) على بُعد ثلاثة أمتار من حضرة النائب متسمراً بلا حراك، يلحظه حضرة النائب ويشير إليه بالاقتراب.
يقترب (أيوب) ببطء و نظره إلى الأسفل، ويبدو من بين ملامحه تعبٌ وذهولٌ واضطراب...
_تعال يابني، اقترب ولا تخف.
يقترب (أيوب) ومازال الذهول يسكن عينيه
تمر دقيقة صمت تربك النائب ولا يهتز لمرورها (أيوب)!
يكسر حضرة النائب الصمت: يبدو أنك عرفتني...نعم أنا النائب (معروف صدقي).
لابد أنك تتساءل لماذا أقف هنا وسط الشارع...حسناً سأجيبك: أنا هنا لأنه مساء اليوم_ بعد الغداء_لدينا جلسة لمجلس الشعب، إنها جلسة هامة سنضع فيها النقاط على الحروف، ولأننا نوابٌ للشعب فعلينا أن ننقل صوته بصورة صادقة.
أخرج حضرة النائب من جيبه علبة دخان من النوع الفاخر وانتزع منها سيجارة وضعها في فمه، ثم أخرج قداحة ذهبية طُبع عليها اسمه وأشعل السيجارة، شدَّ أنفاسه بضع شدات ونثر دخانها حول وجهه ثم كمشتها أصابعه ليكمل حديثه:
_أن ننقل صوت الشعب يعني أن نذهب إليه، أن نحتك به وندخل مباشرة في خضم معاناته، شعبنا يتضور جوعاً وتتجمد أوصاله صقيعاً، يغرق في ظلمات بعضها فوق بعض! الأوبئة منتشرة، والكهرباء شبه منعدمة والماء جف من الصنابير وصار مروره فيها حلماً، والمؤسسة التعليمية منهارة، والفقر آااااهٍ من الفقر لقد دق أوصاله وخنق أحلامه وعرض إنسانيته للبيع في سوق الجوع الكافر، أنا هنا لأنقل مطالبكم، لأسمعها بأذني وأنقلها بصوتي.
يأخذ حضرة النائب نظرة ملية من (أيوب) ذي الجسد الهزيل، تتجول عيناه بين الأصابع المطلة من فتحة في مقدمة حذاء القدم اليمنى والبنطال المليء بالرقع المنتشرة هنا وهناك، يصعد للقميص الذي لم يعد له لونٌ محدد من كثرة البقع فتمنع شفافيته من إظهار ماخلفها، يرفع بصره بحثا عن جيب القميص بلا جدوى. تستمر رحلة بصره إلى أعلى ليجد أيوبا مازال منكسا رأسه ولم يرفع بصره!
_ ارفع رأسك أيها المواطن لاشيء يجعلك تطأطئ رأسك هكذا، الفقر ليس عيباً، الفقراء هم فلسفة الحياة ومعنى الإنسان، هم وحدهم من يتمسكون بالفطرة السوية هم المعلمون الحقيقيون لدروس الحياة والمنبع للإبداع والابتكار، إنهم وقود اشتعال الثورات وأيقونة نضال البحث عن المجد الحقيقي بنصرتهم، تحدث وارفع رأسك وصوتك فأنا هنا لأنقله.
-- ماهو مطلبك كمواطن:
_ أن تتحركوا ياسيدي!
_معك حق، نحتاج للتحرك ولو خطوة للأمام لإنقاذ الناس من الهلاك، بالمناسبة أنا في الأصل خبيرٌ اقتصادي وكان بالإمكان أن آخذ فرصتي في الخارج، وعرضت علي كذلك العديد من المناصب لكنني رفضت بشدة، أنا من هذا الشعب الكادح، رسالتي في الحياة أن أنقل صوته وأن أرفع عنه المعاناة...
_إرفعها قليلا فقط ياسيدي...
_لا تقلق سأرفع صوتي الليلة مناديا بحلحلة المشكلة الاقتصادية قبل كل شيء وسأنادي بالتحرك السريع ولو بضع خطوات للأمام لرفع المعاناة...
_خطوة واحدة تكفي...
_نعم نعم، لا يجب أن تأخذنا الشطحات الخطابية ونسرح بهذا الشعب في أحلام اليقظة، الوضع لا يسمح إلا بخطوة واحدة إلى الأمام، أشكرك كثيراً أيها المواطن الصالح لأنك أرشدت صوتك بماذا عليه أن يصدح الليلة، التحرك السريع ولو بخطوة واحدة إلى الأمام، بوركت يا بني، وقبل أن أرحل آخذا مطلبك معي أوصيك مرة أخرى بأن ترفع رأسك...مع السلامة.
أدار حضرة النائب ظهره وسار خطوة إلى الأمام، قفز المواطن (أيوب) إلى موضع القدم ليلتقط ورقة نقدية كان حذاء النائب يحتجزها تحته!
صدح صوت النائب في مجلس الشعب تلك الليلة: هذا الشعب الكادح يستحق منا خطوة واحدة إلى الأمام، أنا أنقل لكم مطلبه بكل صدق، وكم هو شعب عظيم هذا الذي لايكلفكم بما لا تستطيعونه ويطلب فقط خطوة واحدة للأمام...القاعة تضج بالتصفيق بعد كلمة النائب، والمواطن (أيوب) وزوجته وأطفاله يغطون في نومٍ عميق حرمهم منه صوت المعدة لعدة ليالٍ سبقت انعقاد الجلسة.