آخر تحديث :الأربعاء-24 أبريل 2024-04:01م

ملفات وتحقيقات


معتقدات وتقاليد يمنية قديمة: جمع السيد "الأهدل" و طقوس "المجاذيب"

السبت - 06 يونيو 2020 - 08:02 م بتوقيت عدن

معتقدات وتقاليد يمنية قديمة: جمع السيد "الأهدل" و طقوس "المجاذيب"

( عدن الغد )

كتب : طاهر عبدالحق

بينما كنت اقترب من قرية "الهجمة" في رحلة الدرب الطويل. كنت متشوقا لأرى مقام السيد الولي، مكان الجمع الاحتفالي، الذي كان يقام من امامنا في زمن الطفولة والصبا.

وبدت من أمامي سلسلة طويلة من الذكريات. أهمها جمع السيد الأهدل وطقوس المجاذيب، وهم يسددون العديد من الطعنات بالخناجر والفؤوس إلى أجسادهم في مهرجان الدم والغثيان.

كان مشهد المجاذيب في ذلك الزمن لغرض إخافة الأطفال وترويعهم، وتثبيت الإعتقاد بالقوة الخارقة للصوفي، الذي مات ودُفن هنا منذ عشرات السنين.
ثم ينمو الجهل ويتراكم، ويصبح للولي أتباع من الجهلة والأغبياء، الذين يتحول معظمهم إلى مجاذيب.

انه شيئ لا يصدق وأنت تتفرج إلى المجذوب من أمامك، وهو يرفع رأسه إلى السماء ويهوي بالفأس إلى ناصيته أو إلى كتفه، ويحدث صوتا وصراخا متتابعا: "الا يا باهوت". "ألا يا ابن علوان، يا من مجاذيبك مئة قبيلة".

بينما مجذوب آخر يستمر يقرع الطبيلة، وهي طبلة صغيرة ذات تجويف معدني مبطن بالجلد، لها أذنان يتدلى منهما رباطان جلديان في طرف كلا منهما كرة محشوة بجسم صلب، وما ان يحرك المجذوب الطبيلة بيده عدة إهتزازات محورية حتى ترتطم الكرتان محدثتين اصواتا مصاحبة لأصوات المجاذيب وارتطام الفؤوس.

ومع ضربات الفؤوس، يقطر الدم ويسيح من رأس المجذوب وناصيته ومن كتفه، وكنا نحن الأطفال ننهار أمام المشهد الدامي، الذي نراه مباشرة أمام أعيننا.

كان الناس يتجمعون حول المجاذيب، يتحلقون ويصنعون دائرة، أو يصطف المجاذيب أمام مقام الولي. يعطي المجذوب ظهره لجدار المبنى، ويتنوع عرض المجاذيب وتتنوع المشاهد.
احد المجاذيب يضع حجرة كبيرة فوق جبينه ويتحرك ويدور ولا تسقط، وتظل ثابته في الجبين أمام دهشة الحضور.

مجذوب آخر يحشر الفأس في رأسه، أو يضع الخنجر في مكان ما تحت جفن العين، ونراه ونطفح من الألم وكأنه قد وخز عينه.

أما من يسدد الطعنات فوق معدته وبطنه، نراه متوحشا وكأنه يسدد إلى ناصية قلوبنا، وينجح في إخافة المتفرجين ويصنع الرعب والفزع.

ويحدث أن ينهار احد المتفرجين ليسقط على الأرض، وكأن نوبة من الصرع قد فاجأته. وفي تلك اللحظة يسري الخبر بين الحضور: بأن الرجل الذي سقط على الأرض، سوف يكون من مجاذيب ابن علوان.

ومن شائعة القول، أن المجاذيب هم مجموعة من النصابين يطعنون إلى "خصالة ابن علوان"، ولايطفحون ولا يشعرون بالألم. و"الخصالة" شجرة عملاقة معمرة، هي شجرة الجميز الضخمة، التي توجد في معظم وديان بلاد الحجرية، وقد تختلف المسميات من منطقة الى أخرى.

ولكن اين " أحمد ابن علوان"؟ واين "خصالة ابن علوان"؟

كنا نميل لتصديق هذه المقولة؛ المجاذيب يطعنون لعرض "ابن علوان"، وهو سيد الأولياء، وله قوة خارقة يسيطر على المجاذيب وشياطين الجن ويقيدهم، حتى من يتقرّبون من مقام السيد الأهدل، يذكرون شرطا "لإبن علوان"؛ فعندما يحضِرون ما عليهم من نذور للسيد الأهدل، يأتون بما عليهم من نذور لابن علوان كذلك.

كما كان المجاذيب يطوفون القرى والأسواق، ويمارسون طقوسهم الدامية، ويكون أهل القرى أكثر إستعدادا لمنح المجذوب ما تم شرطه لابن علون.

وكان القيِّم، وهو من يقوم بخدمة المقام والقبر، يستقبل الزوار الذين يحضرون طوال أيام السنة، يتشفعون ويقومون بالدعاء، يطلبون البركة في الرزق والإستشفاء من الأمراض، من السيد الأهدل النائم في قبره الى الابد.

ويستلم القيوم، اي القيم، النذور التي يأتي بها الناس طوال شهور السنة؛
يصلون إلى حضرة الولي "السيد الأهدل" ومعهم رؤوس الغنم او حبوب الطعام والسمن والعسل والدجاج والبيض وما إلى ذلك من النذور؛ مثل الشمع الذي يتحول إلى سراج دائم داخل مقام الولي طوال الليل.

والقيوم هو من يعلن عن قيام "الجمع" في يوم محدد من شعبان، وهو يوم الزيارة الكبرى، يوم الحج والمسيرة نحو جمع السيد الأهدل.

و"الجمع"، مناسبة إحتفالية وتظاهرة صوفية، يلقي فيها الشعراء قصائدهم، التي تعظم مدح الرسول وتتناول سيرته، وتصف الأولياء بالرجال الصالحين الزاهدين في الحياة.

ينعقد "جمع السيد الأهدل"، على ضفاف الوادي، بين حقول الذرة في أطراف قرية الهجمة، الواقعة في نهاية السلسلة الجبلية الممتدة من شمال الهضاب العليا المرتفعة للبلاد.
وتتصل الهجمة بواحات وادي المفاليس، التي تمتد جنوبا نحو صحراء لحج ووادي الصميته وبلاد الصبيحي.

وكنا نشاهد قارعي الطبول وهم يتقدمون مواكب الدخول إلى الجمع والإحتفال.

كان سكان الجبال يهبطون إلى الوادي، وسكان الواحات يزحفون باتجاه قرية الهجمة. وكل موكب يطلق العيارات النارية والعاب المفرقعات. ويأخذون بصوت الزامل ويتقدمون يرقصون، ويقال لقد أقاموا الزاوية، وهو مهجل وبرع- نوع من الرقص الشعبي والإنشاد الديني.

وعندما يدخل الموكب إلى جوار مقام الولي، يلقي شاعر الموكب قصيدة توصف بأجمل القصائد، بينما يأتي شاعر موكب قرية أخرى، ينافسه في إلقاء الشعر.

كان موكب "الجزائري" مميزا، يستقبله جمع السوق بحفاوة. إذ تتوقف حركة البيع والشراء ويتجه المجتمعون هنا لمشاهدة الجزائري، الذي يرفع بيُمناه "الجردة"- وهي نوع السيوف. ويبدأ بالبرع؛ يرقص، يتقدم قليلا، ويتبعه الموكب، وصوت دقات الطبول تدوي في الوادي، ويطلق الجمهور الأعيرة النارية والمفرقعات بكثافة.


يقولون؛ الجزائري "يحُف"، أي يتحرك في محيط نصف دائرة وهو يرقص ويتقدم للامام. والجزائري، الذي يأتي من الجبال البعيدة، كنا نراه في مناسبات مماثلة. كان الجزائري، شخصية تاريخية، لا يحلق شعر رأسه، بل يتركه يطول، ثم يرسله جدائل حول وجهه. وحين يتقدم ويتحرك، يتراقص شعر رأسه ويهتز، ويصنع الدهشة في قلوب مشاهديه.

كان الجزائري طويل القامة ممتلئ الجسم، قوي ونشط الحركة، ذو بشرة حمراء، يلبس قميص طويل مقلم، ويطوي حول صدره حافظة جلدية. وعندما يدخل موكبه إلى الجمع، يتوارى ويختفي عن العيون، لعله يعود إلى بلاده البعيدة في جبال الحجرية، الواقعة إلى الغرب من جمرك المفاليس.

يوم جمع الولي، كنا ننتقل بين العديد من المشاهد المثيرة، وحضور "مقرع" من المشاهد الأكثر غرابة. بل كان من حوادث ذلك الزمن.

في يوم جمع "السيد الأهدل"، كان يحضر "مقرع"، وهو كبير المجاذيب، وكنا ننتظر دوره المسرحي العجيب، الذي يأسر قلوبنا نحن الأطفال.

يتجمع الجمهور لمشاهدته؛ كان ينبطح على الأرض ويزحف نحو فتحة صغيرة ضيقة، موجودة أسفل جدار مقام الولي.
يحاول حشر جسده في تلك الكوة الضيقة من الجدار الجنوبي، والتي نسميها الجهة العدنية.

والفتحة الضيقة لا تتناسب مع جسد "مقرع"، فهو عملاق ضخم الجثة، عريض المنكبين.

يفشل "مقرع" وهو يحاول دخول الكوة الضيقة في الجولة الأولى، وتتوالى المحاولات الفاشلة، وجمع الناس من حوله يشعرون بألمه ومأساته، ويقولون أن "السيد الأهدل" يعذبه ويطهره من الذنب فهو ساحر.

وفي نهاية المطاف ينزلق جسد مقرع ويقع الجميع في مشهد الانبهار والذهول يختفي داخل الكوة ماذا حدث هل تمت مشاهدته من الداخل ولا نعلم .......يتوارى مقرع ويختفي ولا نراه سوى في الجمع السنوي التالي ......