آخر تحديث :الجمعة-29 مارس 2024-04:07م

ملفات وتحقيقات


(تقرير) يرصد أسباب وعوامل فشل الإجراءات الأمنية الخاصة بمنع القات في عدن

الإثنين - 30 مارس 2020 - 04:50 م بتوقيت عدن

(تقرير) يرصد أسباب وعوامل فشل الإجراءات الأمنية الخاصة بمنع القات في عدن

تقرير / بديع سلطان:

- القات في عدن.. تاريخ من المنع قبل الوحدة.

- كيف التقى القرار العشوائي قبل سنوات بظلاله على القرار الأخير؟

- لماذا تحولت قيادات أمنية إلى تجار قات؟

- انقسام المؤسسة الأمنية.. كيف تسبب في فشل القرار؟

- بحث المواطنين عن القات خارج عدن.. هل أدى إلى فشل القرار؟

- ما الذي يحتاجه مواطني عدن.. وما علاقته بالإجبار؟

ما الذي أعاد القات إلى عدن؟

 

عادت أسواق القات بالازدحام مرةً أخرى، خلال أقل من يومين على قرار منعها من قبل السلطات الأمنية في محافظة عدن.

قرار المنع جاء على خلفية تجنب اختلاط التجمعات الكبيرة والتي تتسبب بها أسواق القات، باعتبارها بؤر محتملة لانتشار فيروس وباء كورونا، حديث الساعة.

وبعيدًا عن المسببات والدوافع التي دعت لاستصدار قرار منع دخول وتوريد القات إلى عدن، في ظل احترازات وإجراءات وقائية، يبقى القات وبيعه في المدينة قضية بحد ذاته.

فللقات في عدن تاريخ حافل من المنع وعدم المنع، وقصة درامية من العقد والحل والذروات التي تستحق الوقوف أمامها، ليس فقط من اليوم، أو مع قدوم جائحة كورونا، بل منذ عقود طويلة.

وأبرز ما يميز قصة القات في عدن، التذبذب بين إتاحة بيعه وتداوله، وبين منعه وبقراراتٍ رئاسية على أعلى مستوى، وليس مجرد قرارات من سلطات أمنية محدودة الصلاحيات.

ويبدو أن حدود الصلاحيات هذه هي من تجعل قرارات المنع أو الإتاحة قاصرة، وسرعان ما تتراجع عنها السلطات التي أصدرتها، بعد أن يكون قد اكتشفت أنها غير فاعلة وليست سليمة.

فكثير من العوامل تشير إلى أن التراجع السريع عن مثل هذه القرارات المتعلقة بالقات، خاصةً خلال السنوات الأخيرة؛ تؤكد أنها قرارات غير مدروسة، وغير محسوبة العواقب.

تاريخ القات عدن

منع القات في عدن لم يكن وليد اليوم، أو لأسباب أمنية أو صحية كما حال الحال في إجراءات محاربة وباء كوفيد 19 "كورونا" المستجد.

بل ترجع إجراءات المنع لفترة ما بعد الاستقلال الوطني لجنوب اليمن، ففي منتصف سبعينيات القرن الماضي، أصدرت الدولة ممثلةً برئيسها حينذاك سالم ربيع علي (سالمين) قرارًا في يناير 1976 بمنع بيع وتناول أو حيازة القات طيلة أيام الأسبوع، باستثناء يومي الخميس والجمعة والإجازات الرسمية.

وتضمنت العقوبات ضد كل من يخالف هذا القانون بالسجن لمدة تصل إلى ثلاث سنوات، ولا تقل عن ستة أشهر، بالإضافة إلى الغرامات المالية.

حينها تم تنفيذ القرار بحذافيره، دون أي تردد أو تراجع، واستمرت هيبة القرار نحو خمسة عشر عاماً، وكان متجاوزوه يتعرضون للحبس والغرامة، إما بالبيع أو التعاطي أو حتى مجرد الحيازة خارج الأيام المحددة في القانون.

منح القرار صورة ذهنية معينة لمدينة عدن في عقول كل مرتاديها، بأنها مدينة عصرية وحضارية، باعتبار أن النظام السياسي والأيديولوجي "التقدمي" حينها كان يعتبر القات أحد الممارسات الرجعية.

لم يتم نقض هذا القرار أو القانون إلا عقب تحقيق الوحدة اليمنية في منتصف 1990، فانتشرت أسواق القات في كل مكان.

وفي واقع الأمر، فإن تجربة المنع التي تعتبر "تاريخية" في عدن، انعكست على كثير من النواحي الفكرية والثقافية في المدينة، وأتاحت للشباب والفتيات والمواطنين عامة فرصة لإثراء عقولهم وشغل أوقات فراغهم فيما ينفع وينمي ثقافاتهم وأفكارهم.

فظهرت الأندية الشبابية الثقافية والفكرية، واتحادات الشبيبة الحزبية، وغيرها من المؤسسات التي أسست مداميك قوية لمستقبل شباب عدن.

ومقارنة كل ذلك الواقع حين تم منع القات، بواقع اليوم، وتهافت شباب عدن حالياً على مضغه وحيازته وتناوله حتى الساعات الأولى من فجر كل يوم، دون أي فائدة، يضع مستقبلهم على المحك.

لماذا فشل منع القات حالياً؟

العودة السريعة عن قرار منع القات في عدن، قبل أيام، حتى ولو كان في غير أسواقه التقليدية التي تعارف عليها مواطنو المدينة؛ إلا أنه أكد فشله لعدة أسباب.

أهم الأسباب أن القرار لم يقم على أساسٍ مدروس وواعٍ، ولم يقدم البدائل التي يمكن أن تحد من الطلب المتزايد عليه، خاصةً بعد منعه، وإغلاق أسواقه.

فالطبيعة اليمنية التي جُبلت على القات منذ آلاف السنين، لا يمكن لها أن تتقبل منعه بهذه السهولة، في ظل غياب سلطات أمنية مطلقة، بعيدة عن شكل وصيفة وهيبة الدولة الغائبة أصلاً.

فالسلطات الأمنية التي أقرت منع القات، حتى وإن كان السبب على خلفية الحفاظ على المواطنين من انتشار وباء وجائحة "كورونا" إلا أنه افتقد الكثير من صفات الإلزامية التي تفرض القرار وتحافظ على ديمومته.

الإلزام الذي كان غائباً عن قرار منع القات الأخير في عدن، تعرض لاختراقٍ مباشر من قبل أولى الجهات التي كان متوقعاً منها حمايته وتنفيذه، فالكثير من المواطنين وشهود العيان رصدوا أطقماً عسكرية وأخرى أمنية تقوم ببيع القات في شوارع المدينة خلال فترة المنع وإغلاق الأسواق.

وكانت الأزقة والأحياء الداخلية للمدينة مكاناً بديلاً لأسواق القات المغلقة بعد أن تم تهريبه من محافظات "طوق عدن" إلى داخلها، في اختراقٍ واضح للقرار.

وهو ما دفع السلطات الأمنية في لحج وعدن للتراجع عن قرار المنع، وإن كان الإعلان عن التراجع حمل سببًا غير مباشر بعد إرجاعه إلى التسبب بازدحام المركبات على النقاط الأمنية خارج عدن، خاصةً نقطة مثلث العند!.

بالإضافة إلى أسباب أخرى، تمثلت في غياب وانعدام التنسيق مع الجهات الصحية والسلطات المعنية عن مكافحة جائحة "كورونا"، وهو ما لم تعتني به الأجهزة الأمنية التي أصدرت القرار.

ويبدو أن الرغبة في الظهور بمظهر الحريص على حياة المواطنين، هو ما دفع تلك الأجهزة إلى مثل هذه القرارات التي سرعان ما تم التراجع عنها، وهو ما جعل مراقبين إلى اعتبار أن قرار الحظر "الليلي" الساري حالياً يدخل هو الآخر في هذا الإطار، من القرارات اللا مدروسة.

ليست أول تجربة!

هذا القرار الأخير الخاص بمنع القات وبيعه في عدن، لم يكن سابقة من نوعه لسلطات عدن عقب حرب 2015، ولكنه يكرر قراراً مماثلاً اتخذته الأجهزة الأمنية ذاتها قبل سنوات.

كان ذلك في منتصف 2016 تقريباً، عقب تأسيس قوات الحزام الأمني في محافظات الجنوب، كان هذا القرار حينها أبرز قرار اتخذته تلك الأجهزة.

لكن.. سرعان ما تراجعت السلطات عنه، بعد أن استمر المنع لمدة لم تزود عن أسبوع واحد فقط، وكانت دوافعه تختلف عن دوافع القرار المتخذ قبل أيام.

كان الحزام الأمني فور تأسيسه يتطلع لاستعادة "أيام زمان"، والرجوع بتاريخ عدن إلى الزمن الجميل حين كان حظر القات سارياً ومنفذًا على الأرض.

وهي أحلام وتطلعات مشروعة، كان أصحابها يمتلكون أمل إعادة كل شيء جميل أفردت به مدينة عدن وتميزت به، لكنهم انصدموا بالواقع وواجهوا شغفاً، بل إدماناً من نوع آخر عند مواطني وشباب المدينة.

فتغلغل القات في السلوك العدني كان عميقاً، طيلة ربع قرن من زمن الوحدة، وهي فترة طويلة بما يكفي لتُمسي أهالي عدن وشبابها فرتة المنع في زمن ما قبل الوحدة، والتي لم تستمر سوى عقدٍ ونص فقط.

ولهذا لم تنجح السلطات في إيقاف موجة التعلق بهذه الوريقات الخضراء، وحظي قرار منعه من دخول المدينة باستيفاء وتذكر حتى في أوساط جنود الأحزمة الأمنية والعسكر.

ولا ننسى هنا أن من عوامل فشل قرار كهذا، هو أن أغلب منتسبي الأمن بعد الحرب هم من الشباب المتعاطي لهذه النبتة.

ويبدو أن الفشل في الاستمرار بتطبيق القرار قبل سنوات ألقى بظلاله على القرار الذي تم اتخاذه قبل أيام، حيث ثمة الكثير من التشابه بين القرارين.

أهم القواسم المشتركة بين القرارين كان عدم وضع اعتبار لضرورة التدرج والتسلسل في اتخاذ قرارات كهذه، متعلقة بالثقافة والسلوكيات أكثر من علاقتها بالأمر الصحية أو الأمنية.

ومن هنا يتضح لنا حجم العشوائية في اتخاذ مثل هذه القرارات التي يجب أن تنظر لأوضاع وأحوال المواطنين ومدى تقبلهم، ووضع حلول وبدائل تحل محل إجراءات المنع هذه.

ولعل هذه العشوائية ليست وحدها هي السبب الرئيسي في فشل مثل هذه القرارات المرتجلة، ولكن هناك العديد من العوامل دفعت للتراجع عن القرار.

الإساءة للعمل الأمني

لا يمكن أن يشكك أحد في النوايا الحسنة، والأهداف السامية التي تقف خلف قرار منع القات من الدخول إلى عدن، ومنع بيعه في أسواقها المزدحمة.

فهناك من يفكر بجدية بصحة وحياة المواطنين، ويعمل على تجنيبهم مخاطر الوقوع في فخ "كورونا"، خاصةً في ظل قلة الوعي الشعبي وعدم انتهاج المواطنين سلوكاً صحياً احترازياً.

وهذا ما يجعل كثير من المراقبين يعتقدون أن هناك من يحاول الإساءة للأعمال والقرارات الصحيحة من خلال تشويهها بقصد أو بغير قصد، من خلال قيام بعض من المنتسبين للسلك الأمني بتهريب القات عبر طرق ملتوية وإدخاله إلى عدن.

وهو ما أثبته غير متواجد من ناشطي المدينة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حتى تم توصيف أولئك المنتسبين بأنهم "تجار قات" وليسوا رجال أمن، عقب رصد عدد منهم وعلى أطقمٍ أمنية يتجاورن ببيع النبتة الخضراء، في ظل قرار المنع!.

وهو أحد الأسباب التي ساهمت في التراجع عن القرار بعد اكتشاف قيام بعض منتسبي الأمن، الأمر الذي جعل من استئناف بيع القات حلاً للحد من الإساءة للأجهزة الأمنية.

 

انقسام السلطات الأمنية

وما يؤكد السبب السابق الذي أدى إلى التراجع عن قرار منع القات، هو التعدد والتنوع الذي تعيشه السلطات والأجهزة الأمنية في عدن، حتى وصل إلى حد الانقسام.

وهي الحالة التي اتسم بها الوضع الأمني في عدن، منذ تحريرها في 2015، واستمرت إلى اليوم، وانعكست على مختلف الأوضاع في المدينة، ومنعت تحقيق الاستقرار المنشود.

ويبدو أن هذا السبب ذاته هو ما انعكس على قرار منع القات في عدن؛ نتيجة الانقسام في المؤسسة الأمنية، وغياب سلطة واحدة وقيادة موحدة، وانسحاب كل هذا التخبط على تنفيذ قرارات أي مكون أو فصيل أمني.

حتى أن بعض المحللين يذهب إلى الحديث عن أن الفصائل الأمنية في عدن، تحاول منافسة بعضها البعض؛ حتى وإن بدت وأنها تنضوي تحت إطار شامل وجامع، إلا أن الحقيقة على الواقع مختلفة تماماً.

وربما أن هذا الانقسام هو ما يفسر قيام بعض منتسبي الأمن بإدخال القات عنوةً إلى عدن، وبيعه على قارعة طرق المدينة وأزقتها وحاراتها، ضاربين عرض الحائط بقرار الحظر.

وحتى من يحاول اعتبار أن التعدد والتنوع أمر صحي، إلا أنه ينتقد غياب وجود تنسيق أمني بين كل الفصائل الأمني التي تكاثرت وتعددت رغم واحدة أهدافها وعائلتها.

وهذه الحالة من الانقسام تنذر بكارثة لا يمكن التنبؤ بعواقبها على أمن واستقرار مدينة عدن؛ ما يستدعي نبذ الانقسام، والتوحد لمواجهة نفس الأخطار المحدقة بالجميع، مهما كانت انتماءاتهم.

فقد تكون المعضلة اليوم تتمحور حول القات فقط، غير أن ما لا يعلمه أحد أنه يمكن أن تتركز المشكلة أكثر في قضايا ومواضيع أكثر حساسية وتأثيراً.

 

التزام المواطنين

في المقابل، ثمة من يبرئ ساحة رجال الأمني ومنتسبيه من مسئولية التراجع عن قرار حظر بيع القات، ويرمي باللائمة على أحد أبرز الأطراف الفاعلين في معضلة القات اليمني.

ويُقصد هنا بالمواطنين وعامة المجتمع، ممن لم يتمالكوا أنفسهم وهم يرون أسواق القات مغلقة أو خاوية على عروشها، فاندفعوا يبحثون عن منبع آخر ينهلون منه الوريقات الخضراء.

فكان اندفاع الناس صوب أسواق القات في محافظتي لحج وأبين المتجاورتين، غير آبهين بمخاطر التجمعات الضخمة، بحثاً عن "تخزينة" يومهم؛ هو من أوقف قرار حظر القات في عدن.

وهو ما يعتبره مراقبون أحد أهم وأبرز العوامل التي فرضت على السلطات الأمنية التراجع عن قرار حظر القات، والسماح بدخوله إلى عدن، مع إمكانية للإشراف على أماكن بيعه، ومنع تكاثر مرتادي الأسواق.

حتى أن كثير من المراقبين أشاروا إلى افتقار المواطنين للحس الاحترازي والوقائي، وهو ما دفعهم نحو الحصول على القات بأي طريقة تذكر، حتى ولو كانت تهدد حياتهم وصحتهم.

 

إجبار

غير أن ثمة من يقف على الضفة المقابلة، ليؤكد أن المواطنين بحاجة إلى إلزام أمني، يجبرهم على انتهاج سلوك معين، ويحافظ على صحتهم، إذا لم يمتثلوا لأية توجيهات.

وما حدث في إيطاليا والولايات المتحدة ليس ببعيد عنا، حيث نزلت المدرعات وآليات الجيش إلى الشوارع لتفرض على المواطنين سلوكاً معيناً يدرأ عنهم الأوبئة.

وربما هذا ما يحتاجه المواطن في عدن وجميع محافظات البلاد، إجبار سلطوي يقوده نحو مربعات الأمان، ويحصن صحته وحياته ويحافظ عليهما.

 

منع حقيقي على بصيرة

ما يحتاجه شباب عدن ومواطنيها هو منع القات وكافة السلوكيات السلبية بطريقة ممنهجة ومدروسة، حتى تحقق أهدافها وغاياتها، وتنعكس على حياة وفكر المواطنين وثقافتهم.

كانت تجربة السبعينيات وما قبل الوحدة اليمنية نبراساً ومثالاً مثالياً لم يغادر أذهان الناس ممن عاصروه إلى اليوم.

فلماذا لا يكون هناك منع حقيقي للقات، يتم تطبيقه على بصيرة وهدى، تتوفر فيه البدائل والمعالجات السلبية، نستوعب فيه طاقات الشباب ومواهبهم وميولهم، وتوظف وتستغل بطريقة مناسبة وسليمة.

مع عدم إغفال الجانب الإلزامي والإجباري لأي قرار، فالإلزامية ضرورية ولا بد منها لنجاح أي قرار أو قانون.