آخر تحديث :الجمعة-19 أبريل 2024-08:44ص

ملفات وتحقيقات


عدن وكرا للجواسيس 1-جورج وايمان بُرري

الأحد - 16 فبراير 2020 - 02:15 م بتوقيت عدن

عدن وكرا للجواسيس 1-جورج وايمان بُرري

كتب / أ.د. مسعود عمشوش:

ولد جورج وايمان بري (Georges Wiman Bury) في الثالث من يناير سنة 1874، بالقرب من مدينة أثيرستون (Atherstone) في مقاطعة وارويكشاير البريطانية (Warwickshire). ويذكر إريك ماكرو أن أباه هنري شارل بُري كان مزارعا في جزيرة جويانا البريطانية، وكان لديه أخ أكبر منه وأختان، وأخ أصغر منه سنا أخذه معه في بعض رحلاته في المغرب والصومال وعدن.
وفي سنة 1883، في سن التاسعة، التحق وايمان بإحدى مدارس أثيرستون وتركها سنة 1890، وهو في سن السادسة عشرة. وفي سنة 1894 تقدّم لامتحانات القبول في السلك العسكري، أمام لجنة عسكرية مكلفة باختيار ضباط الجيش، وتم ضمه لأحد أفواج الكتيبة الملكية الثالثة في وارويكشاير، لكنه طـُرِد منها بعد أربعة أشهر فقط لأسباب عائلية. وسافر إلى المغرب بحجة الرغبة في دراسة اللغة العربية. وهناك، في سنة 1895، انضم وايمان بُري إلى إحدى قبائل المتمردين في جنوب المغرب. ويستبعد إريك ماكرو ما أكده دافيد هوجارث، مؤلف كتاب (اختراق جزيرة العرب)، إنه كان يقاتل بصفة مرتزق.
وفي سنة 1895 وصل بُري إلى سواحل الصومال، الأرجح لجمع عينات من الطيور، ومنها انتقل سنة 1896 إلى عدن. وبمباركة حاكم عدن اتجه صوب لحج وقضى تسعة أشهر عند عائلة منصور آل البان، وهناك أتقن اللهجة المحلية. وفي شهر فبراير سنة 1897 أقنعه المستعرب السويدي كارلو دي لاندبرج بمرافقته إلى جزيرة سقطرى، وعند عودتهما إلى عدن عيّنه وكيلا خاصا له، وكلفه مع عددٍ من الوكلاء المحليين (الهتاري وفضل ومرزق) بالسفر إلى المناطق المحيطة بعدن لشراء التحف الأثرية وتهريبها، وجمع المعلومات الاستخباراتية.
وفي إبريل من سنة 1897، وبتكليف من لاندرج سافر وايمان بري من عدن إلى دثينة ونصاب ولحج لعقد صفقات مع السكان والحكام المحليين، وكان قد لبس ثيابا محلية، واتخذ اسم مستعارا لا يناديه زملاؤه المحليون إلا به: عبد الله منصور. وتشير مراسلات لاندبرج مع وكلائه العرب، التي قام بدراستها محمد عبد القادر بافقيه في كتابه (المستشرقون وآثار اليمن)، إلى أن علاقة عبد الله منصور بزملائه المحليين كانت سيئة للغاية. ففي الرسالة الثامنة عشرة طلب الهتاري من الكونت دي لاندبرج أن يعفيه هو وفضل ومرزق من التعامل مع عبد الله منصور، مؤكدا أن "جميع البدو يكرهونه". ص496 وفي تعليقه على الرسالة ينتقد بافقيه أيضا طباع وايمان بُري قائلا: "لا يمكن أن يكون الهتاري متجنيا على عبد الله منصور الذي يظهر من كتابه (The Land of Uz) متعاليا عند الحديث عن العرب الذين عرفهم، بل أن إنهاء مهمته في عدن في وقت مبكر قد يكون راجعا إلى حدة طباعه". ص495
ومن المعلوم أن كارلو دي لاندبرج أصبح بين سنة 1897 وسنة 1899 مشرفا على البعثة الأكاديمية النمساوية لدراسة آثار ولهجات الجنوب العربي، وضم وكيله وايمان بري إلى فريق البعثة. وبفضل ذلك استطاع بُري أن يصل إلى نصاب، في يونيو 1897. وزار كذلك أحور ومنها اتجه شمالا صوب بيحان ويشبم، وحاول الوصول إلى مأرب. وفي ديسمبر سنة 1898 كلفه الحاكم العسكري في عدن بالذهاب إلى عزّان وحبان عبر ميناء بلحاف ووادي ميفعة ونقب الهجر ليحل الخلاف الذي برز بين كارل دي لاندبرج وزميله دافيد مولر وإعادتهما إلى عدن. وقد وظف بُري هذه الرحلة ليضع بعض الخرائط الجيدة للمنطقة. وفي سنة 1899 انتهت علاقة بُري بلاندبرج وبالبعثة النمساوية. وفي تقديمه لهذه البعثة وصف إريك ماكرو وايمان بُري قائلا إنه "مستكشف الجزء الغربي من الجنوب العربي الأكثر مراوغة The much maligned explorer of the south western Arabia".
وتجدر الإشارة هنا إلى أن حكام عدن ومسؤوليها العسكريين في تلك الفترة كانوا يفرضون على الرحالة والمستكشفين، الذين يطلبون السماح لهم بالتوغل إلى المناطق الداخلية من الجنوب العربي، اصطحاب (المترجم) الخاص بالإدارة البريطانية، وقد استنكر هذا الشرط كل من وثيودور بنت وليو هيرش. واستخدمت السلطات البريطانية في عدن وايمان بري للقيام بهذه المهمة لإتقانه للهجات المحلية، في البداية بشكل غير رسمي. لكن من فبراير سنة 1900، وفي خضم مساعي بريطانيا وتركيا لترسيم الحدود بين اليمن وعدن، باتت علاقة وايمان بري بالحاكم البريطاني السياسي في عدن رسمية ومكشوفة؛ وذلك حينما كلفه الضابط أومور كريغ (O'Moore Creagh) بالسفر إلى المسيمير والدارجة، شمال غرب عدن، لجمع المعلومات عن القبائل هناك. (انظر إريك ماكرو اليمن والغرب، ترجمة حسين بن عبد الله العمري، ص89). وفي نوفمبر سنة 1901 كلفه الضابط كريغ بمرافقة بعثة عالم الطبيعة أوجيلفي-جرانت (من المتحف البريطاني) لاستكشاف وادي تبن والمناطق المحيطة به.
وفي الفترة من يناير 1902 إلى فبراير 1903، ضُمَّ وايمان بُري، الذي لم يكن قد عُيّن بعد رسميا ضابطا في قاعدة عدن، إلى فريق لجنة الحدود البريطانية التركية، من الجانب البريطاني طبعا. وفي إبريل سنة 1903 تم تعيينه رسميا ضابطا سياسيا مساعدا في حكومة عدن. وبهذه الصفة وحتى يوليو 1904، قام بُري بثمان مهمات في الضالع ونواحيها التي كانت حينها تشهد بعض المناوشات بين البريطانيين والأتراك. ويذكر إريك ماكرو أن بُري كُلّف، في شهر مايو 1903، بمهمة استخباراتية ناجحة في جِبلة. لكنه بالمقابل فشل في القيام بالمهمة الاستخباراتية التي كلف بها مع جزء من بعض أعضاء لجنة الحدود في الجوف في شهر يناير 1904.
وفي نهاية سنة 1904، اتهمت سلطات عدن وايمان بوري بقبول رشوة من أحد الشيوخ المحليين، وطردته من الخدمة. لكنه ظل في عدن طوال عام 1905. وفي فبراير 1906، تلقى نوعا من التبرئة في رسالة من جي هيتون، القائم بأعمال السكرتير الأول لحكومة بومباي، قال له فيها إنه "لا يمكن اعتبارك مذنباً بتلقي رشوة، إلا أن الحكومة لا تشعر أنها تستطيع في الوقت الحالي أن تقدم لك المزيد من فرص العمل في محمية عدن". وقوبلت كل محاولات بري بالعودة للخدمة في عدن بالرفض. ولم يسمح له بالقيام بأي رحلة أخرى في المناطق الداخلية لعدن إلا حينما حصل على منحة قدرها 300 جنية استرليني من الجمعية الجغرافية المليكة للقيام برحلة استكشافية في الجنوب العربي. وقد وصل إلى عدن في أبريل 1910، بهدف الوصول إلى الربع الخالي واختراق "الصحراء الكبرى الحمراء". ووصل من بربرة إلى شقرة، وعبر العرقوب وصل إلى وادي مرخة، وفيه نهبت قافلته واضطر للعودة للساحل. ومنع منعا باتا من العودة إلى عدن بعد أن علمت سلطاتها أنه يتهيأ إلى نشر سردٍ لرحلاته في الجنوب العربي في كتابه الضخم (بلاد أوز The land of Uz) الذي صدر سنة 1911، وقد قدمه له صديقه الضابط بيلهام ميتلاند، الذي كان قد عيّن بوري للعمل في لجنة الحدود عندما كان المقيم السياسي في عدن في عام 1902. وقد أكد ميتلاند في التقديم أن وايمان بري وثيودور بنت هما الرائدان الفعليان لاستكشاف الجنوب العربي. ويتضمن الكتاب "وصفًا لقبائل محميات عدن والتي لم يزرها حتى الآن أوروبيون آخرون". هذا وقد شرع الطالب محسن الكبيش، أحد أبناء محافظة شبوة المسجلين في برنامج ماجستير الترجمة بمركز عبد الله فاضل للدراسات الإنجليزية والترجمة جامعة عدن، في ترجمة الأجزاء الخاصة برحلات بُري إلى أرض العوالق السفلى.
وعندما اقتنع وايمان بُري أن مستعمرة عدن بن تفتح له أبوابها مجددا، قَبِل مشاركة هوج سكوت في استكشاف سواحل تهامة اليمنية ومرتفعاتها، وذلك بين نوفمبر1912 ومايو1913. وزار الحديدة ثم المخا، وبعد عودته إلى الحديدة عقد قرانه بالممرضة البريطانية آن مارشال التي تبنّت رعايته الصحية. وكان قد تعرف عليها سنة 1911 في مستشفى ويستمنستر التي كان يتعالج فيها من مرض السل.
وفي سنة 1914 وصل وايمان بري القاهرة وفيها حرر سردا لرحلته في اليمن ونشره سنة 1916 في كتاب لعنوان (Arabia Infelix or The Turks in Yemen). وفي القاهرة سنحت الفرصة لوايمان بُري ليتعرف على بعض زملاء المهنة، مثل لورانس وجرترود بيل وسانت جون فيلبي. وفي مطلع سنة 1915 قررت الحكومة البريطانية الاستفادة من مواهبه في العمل السري وإتقانه اللغة العربية وقامت بتوظيفه في هيئة الاستخبارات المدنية لجمع المعلومات عن السكان المصريين المحليين. وفي نهاية العام ألحقته بهيئة الاستخبارات في قناة السويس، وأصبح ضابطًا سياسيًا في دورية شمال البحر الأحمر، وحصل على رتبة ملازم في احتياطي متطوعي البحرية الملكية. وفي النصف الأول من سنة 1916 شارك بُري في العمليات البحرية في البحر الأحمر وكذلك في التمرد الناجح الذي قاده شريف مكة حسين بن علي ضد الأتراك. وتؤكد زوجته أنه قد أصيب بجرح في الحرب. وذهبا معا للعلاج والنقاهة في قبرص، ثم عادا إلى مصر واستقرا في حلوان. وشرع في تحرير كتابه الثالث (Pan Islam)، الذي يسرد فيه مشاركته في التصدي للبروباجندا التركية في الحجاز خلال الحرب العالمية الأولى. وفي الرسالة التي أرسلها مرفقةً بمخطوطة الكتاب إلى الناشر ماكميلان في لندن سنة 1919، كتب: "أزمع أن أكتب في أحد الأيام، إن عشت، عن أمور السياسة في المناطق الداخلية لعدن Aden's Hinterland". لكنه لم يعش طويلا ليصفي حساباته مع من أبعدوه عن عدن؛ ففي مساء الثالث والعشرين من سبتمير 1920 توفي جورج وايمان بُري في المستشفى العسكري في حلوان. ودُفِن في المقبرة البروتستانية.
ومن المؤكد أن وايمان بُري كان يشعر بكثير من المرارة نتيجة لطرده من الخدمة في عدن. ويرى أنه وقع ضحية المماحكات بين الضباط العسكريين والسياسيين فيها. ويعتقد أن كثيرا منهم كانوا يستلمون القطع الأثرية التي يقدمها لهم الكونت كارلو دي لاندبرج مقابل التسهيلات المختلفة التي يقدمونها له. (انظر دراسة إريك ماكرو بعنوان جورج وايمان بري رائد استكشاف الجنوب العربي George Wyman Bury South Arabian Pioneer p.93). ويمكن أن نشير هنا إلى أن فريا ستارك قد وجهت التهمة نفسها لبعض ضباط عدن البريطانيين.
وفي الحقيقة، تباينت كثيرا طريقة تعامل ضباط عدن تجاه بُري؛ فبينما وصفه بعضهم –مثل هارولد جاكوب والكسندر هاميلتون- بالزنديق (charlatan)، لم يتردد آخرون، من بينهم تشارلز أليكس وأونور كريغ وبيلهام ميتلاند، في مدحه وتقدير الجهود التي بذلها في سبيل تمكين الإمبراطورية من ترسيخ السلام في حدود عدن الشمالية. ومدحه الجاسوس/المستكشف سانت جون فيلبي (المعروف بالحاج عبد الله فيلبي)، في كتابه (بنات سبأ، 1937) قائلا: "إننا ندين لوايمان بُري بكل ما نعرفه عن محميات عدن الغربية).
وبالنسبة لما تركه لنا وايمان بُري في كتله الثلاثة التي لم تترجم بعد إلى اللغة العربية، نؤكد أن كثيرا مما كتبه فيها – مثل غيره من الجواسيس/الرحالة الغربيين الذين كتبوا عن مختلف مناطق الجزيرة العربية حتى منتصف القرن الماضي- يعد في المقام الأول نسخا مفلترة ومنمقة لتقارير استخباراتية سُلِّمت أولا للدوائر المعنية. مثلا كتاب فان دن بيرخ عن (حضرموت والمستوطنات العربية في الأرخبيل الهندي) قًدِّم أولا في نسخته الأصلية إلى الحكومة الهولندية التي كلفت الضابط بيرخ بإعداد تقرير مفصل عن العرب المستقرين في مستعمراتها في جنوب شرق آسيا وعن المناطق التي جاءوا منها بهدف معرفة خلفياتهم الفكرية والعقائدية ليسهل عليها تأطيرهم. والشيء نفسه ينطبق على ما نشره وايمان بُري في الكتب الثلاثة التي ألفها. ويمكننا العثور على صياغات مختلفة لبعض أجزاء من تلك الكتب في أعداد (المجلة الجغرافية الملكية)؛ فآرثور هينكس، سكرتير المجلة في مطلع القرن الماضي يؤكد أن التقرير الذي أرسله إليهم وايمان بُري عن رحلته في نصاب وبيحان سنة 1901 يحتوي على معلومات جديدة وبالغة الأهمية عن تلك المناطق. (أنظر إريك ماكرو The Red Sea And Wyman Bury, p176).