آخر تحديث :الجمعة-29 مارس 2024-12:35ص

فن


عصام خليدي يكتب : قراءة نقدية في أغنية (مش مصدق) ..

الأربعاء - 16 أكتوبر 2019 - 12:07 م بتوقيت عدن

عصام خليدي يكتب : قراءة نقدية في أغنية (مش مصدق) ..

عدن ((عدن الغد)) خاص:

بقلم الفنان العدني/عصام خليدي

رائعة لطفي - بن قاسم

تتجلى في أغنية “مش مصدق” للراحل الكبير الشاعر والأديب لطفي جعفر أمان مدى اهتمامه، وعنايته الفائقة بنصه الــبـــيانــي، والجمالي، فنجده يوزع نـصه الــغنـائي هذا بـين الـلهجة الـعـدنية وبين السـهل الممتنع من اللغة الفصحى، مما صار جزءاً من المتداول اليومي الذي يـتكـلمه عامة الناس، بحيث لا يحتاجون عندما تــــــورد في نص إبـــداعي إلى قاموس للاستدلال على معانيها، يــبـــدأ الشاعر نصه بالعبارة التالية الاســـتهلالـــية، الاســـتغـــرابـــية، المثيرة للدهشة، سواء للمخاطب المعني به النص، أو للمتــلـقي “ مش مصدق إنك إنت، إنت جنبي” فهــذه الـــعبـــارة الاســـتغـــــرابــــية التي تـــعبـــر عـــن الـــفـــرحــــة التي فــــاقــــت الـــــدهــــشة أعــــطت للــنـــص طــــاقــــة الــحـــركــــة والــرفـــعـــة، لــيـــــــدخــــل ويـــدخــــلـــنــــا مــــعــــه الــــى بـــقيـــة نـــــصه الــــشعـــــري الـــبـــديـــــــــع ...

فكيف تعامل الملحن مع هذا النص الذي تــألـــق فيه الشاعر الأديب / لــطفي أمان، وأكمل سحـر بــيـــانه، وجمال معانيه، وتــقــنيــاتـــه الفنية وترجمه موسيقياً الموسيقار/ أحمد بن أحمد قاسم .. ؟
تتجسد وتـبـرز بوضوح في أغنية “مش مصدق” العبـقـرية اللحنية للـموسيقار الـراحل الفنان الكبير/ أحمد قاسم في إحدى تجلياته المدهشات، المتكئة على اشتغالاته الواعية، وبناءاته المعمارية اللحنية، النغمية الموسيقية الـــفــارهـــة، المـــترفـــة، بثـــرائــــه وخيالاته الخـصبة، وصـوره وتعبــيراته الموسيقية العميقة، الدالة على جــزالـــة وفـــذاذة موهبته الخارقة المتفردة والمستندة على المنهاج العلمي الأكاديمي، والمتمردة على كل الأشكال الغنائية الموسيقية النمطية الــسائــدة ...
أبـــــتــــــــدأ أحمد قـــاسم اللحن بالــمقــــدمة الموسيـقيــة (الــسـائــــبـة / الأدلـــيب) أي بــــــدون الإيـــقـــاع على ( مقـــام الـبـيـات على درجــــة الـــــدوكــاه )، ومــــن ثــــم يـــــأتــــي إلـــينـــا بعــــزف منـــــفـرد آســــر آخــــاذ عــــلى ( آلــة الــعــود ) بـــديع ومـــبهـــر متــقـــن ومطـــرز ( بزخارف ونمنمات ونـــغمات قــــاســـميـــة ) عـــالــــية ( الــتكـنـيك ) والجمال فيــسلم بتقــاسيمه على نـــفـــس المقــام ( البـــيـات )... وبعـــد ذلك يـتحـفـــنا بالمــقـــدمــــة الـموسيقـــية المــصـاحــــبة للإيـــقـــــــاع (4 /4 المصمودي )... ثم لحن المذهب الذي يــقـول فيه : ( مش مصدق إنك إنت جـنبي / إنت ياللي كـنت خيال ضحيت له عمري وحبي / أنت ياللي كنت تـأخذ من حياتي كل دقيقة / مش مصدق إنك إنت بين أحضاني حـقيقـة / بل وأجمل من حقـــيقة ) ولُـــحــنـــت هــــذه الأبـــيات أيـــــضاً بطريقة علمية مدروسة مستخدماً أبعاد ومساحات وجماليات ( مقام الـبــيات عـلى الــدوكاه ).. ويقف في مقطع ( أحلى من أفراح عيدي / أغـلى من دنيا وجودي / أنت معنى من جمال الكون من نوره وسحـره / أنت جنة أنت دنيا / أنت وحدك حاجة ثانية ) ليـنـــتــقــل بــرشــاقــة (الــموسيقي المحـــترف ويـــطوف ويحلق) عــلى مـــقـــــام ( الـبـيـات على درجة الدوكاه ) بأسلوب متطور وبطريقة ومعالجة مــوســيقية فــنــية راقــــيــــة ( مغــايـــرة حــديثة ) ليصل ( إلى قــــــمة وذروة المقام ) في أبعاده ومساحاته النغمية الموسيقية، وفي أدائه، وصوته المعبر والـقـــوي الجـميل فيـصل إلى نغمـتي ( الفا والصول جواب مع مقام البيات ) إلى مقطع : ( أنت وحدك حاجة ثانية / حـــاجة ثانيــة )، وبالتحديد عندما يــرتكـــز في غنائه المعـــبر عــــلى ( نغــــمة ســــي / بــــي / مـــــول ) لــــيعــــــود ويستــــقــــر مـــــرة أخـــــرى عــــلى نـــفس الـــمـــقام الأساسي ( الـــبــــيـــــات ) الذي أبــــــتـــدأ بـه المذهـــب...
وفي الـــكـــوبــليهــــة، يـــقــــدم مقطوعة موسيقية مستقلة عن سابقاتها على إيقاع ( 4/ 4 مصمودي )، نــــفـــذتــهــا الفرقة ( الأوكسترالية ) المصرية بغاية الروعة والجمال ليجعلنا نشعر عند ســـماعنا إليها وكأننا أمام نهر جار من النغمات المتدفقة المعبرة عن الشجن، والحنين، واللوعة، والاشتياق، على مقام آخر جديد يسمى ( الهـــزام على درجة مي )، ويستمر هكذا تدفق وسريان النغمات الموسيقية ( القاسمية ) إلى أن يتوقف الإيقاع المصاحب للفرقة الموسيقية، فــيبـدأ الموسيقار أحمد قاسم بالغناء ( السائـــب ) الذي لا يصاحبه إيقاع، ( ليسلطن ) في أدائــــه الساحـــــر الأخـــــاذ على ( مــقــام الــهــزام ) في هذه الأبيات :
)كنت أدور لك وأشتق لك وأحلم بك كثير/ كنت أهب لك كل ليلة دنيا من حبي الكبـيـر )، ليـــفـــــاجئــنا بمقطع جـــديد فيه كثير من الــــخــــروج عن التـــــكـــــرار والإعـــادة فيــــــشدو بهذه الأبــــيات : ( جــنة بالأنوار والأزهار والسحر المثير/ وأنت ما تدري بقـلبي كيف لا عندك يطير )، لينـتقــل في هذه الأبيات إلى عالم متجدد ومقام جديد يعرف ( بالحجاز على درجة الصول )، وهنا يتوقف المستمع منصتاً مبهوراً، بقدرة فناننا الكبير الراحل الفائقة على التصوير، والتعبير مع الـــتــنويــــع والتجدد والتلاعب بمهارة واقتدار بالمقامات الموسيقية بطـــواعـــية ...إضافة لذلك براعته وتعاطيه وتوظيفه في هذا الكــوبـلـية مستخدماً ( إيــقـــاع الـــفـــالــــص )
وإذا ما وقفنا عند كلمة ( يـطـيـر) نجد أنفسنا لا نستمع فقط، بل ننظر أيضاً إلى تلك العظمة التي صور بها تلك الكلمة من تعبير موسيقي نغمي : ( وأنت ما تدري بقلبي كيف لا عندك يطـيـر ) وكأن قلبه ينـتـفض من بين ضلوعه وجوانحه، معلناً تمرده وعصيانه للسير والركض والطيران خلف ووراء من يحبه من شـــــدة لهفـــته وهـــيامه وعـــشـقـه...
وهذه الطاقة اللحنية الموسيقية أعـطت للنص المقروء ( رفعـة بــصرية عــالية الديـالكـتـيك )، لها من طاقة الحركة ( الديناميكية ) ما يجعلها بمصاف نص بصري ( سينمائي )، فنحن لا نـقــرأ النص الشعري هنا بتأمل فحسب، بل نرى ذلك القلب في حال تمرده وعصيانه وطيرانه كأنه لم يعد يحتمل أن يظل محبوساً في صدر العاشق... ولا يجد معنى لوجوده وحريته إلا إذا أصبح الى جانب من يحب ويهــوى ويعـــشق.
وما أروع الأحاسيس، والمشاعر الــمنبعــثة من ( قــلب فــنان ) عاشق متيم، ومحب، حين يـتواصل غــناؤه مع أبيات شاعرنا العظيم لطفي جعفر أمان : ( كيف أضمك وأعشق النار التي بين الضلوع ؟ / كيف أنثر لك أحاسيسي وأشــــواقــــي دموع ؟ ) هـــــنـــــــا يـــستخــــدم الفنان أحـــمد قـــاســـم ( الإيــقـــاع الـــشرحـــــي الـعــدنـــي الــثـــقـــيل6 /8 ).
لكن نــظـــراً لصعوبة تنــفــيذ هذا الإيقاع مع الفرق الموسيقية العربية، فإن الفرقة المصرية الأوكسترالية نــفـــذت العمل وقــدمته على إيقاع ( الـفالـص ) عربياً كما استمعنا إليه في التسجيلات المصرية...
وفــــــي هـــــذه الأبــــيات لـــــشـــاعرنا الـــــــفــــــــذ لـــطفــــي أمـــــــــان مــــن الأغــــنـــــية نــــفسهـــــا والــــتـــــي تـــقــــول : ( كـــيف أتــعـــذب بحبك كيف لو تدري أحبك ؟ / كنت أقول يا ريت تدري بي وتعلم أيش فيبي ) تــبــتــدئ من جديد عبقرية الموسيقار أحمد قاسم الذي ينتقل في كل كوبليه إلى مقام جديد مغاير منسجم مع ما قبله، هنا يسلطن على مقام ( البيات على درجة الصول ) بغــناء ( ســائـــب ) وهنا أيـــضاً، لنا وقـفـة عند ( اللازمات الموسيقية ) التي تأتي بعد الغناء في هذه الأبيات : ( كنت أتمنى أقول لك في وجودك يا حـبيـبي )، فاللازمة الموسيقية الفاصلة بيـــن كلمة ( يا حبيبي )، ( يا شذى عمري وطــــيبي )، ( ويا منى روحي وقـــلبي ) فيها اشتــــغال مـــوسيقي حــديث مبتكر غـــــيـــر مســــبوق وجـــديــــد في الغـــناء اليمني عــــامة، وهــــو مــــا يسمــــى علمياً وأكــــاديمياً بمـــصـــطلح ( الــكـــرشـيـنـدو/ والــدومــيــندو )، بمعنى أوضح من الصعود والإرتــــفــاع إلى الـــــنـــزول والانخـــفاض ليـــعــــــود بــعــــدها إلى المــــقام الأصــــلي ( البــيــات على الدوكاه ) بارتــــكــــازه على نغــــمة ( لا نــيتــرل / طبــيعــي ) ليكــــمل ما تـــــــبقـــــى فـــــــي الــــــمــــقـــطـــع الأخـــــيــــر مـــــن رائـــعــــة لطفي/ قاسم (( مش مصدق)) .

كــــلمــــة لابـــــد مــــنهـــــا:

كان ولا يزال الموسيقار أحمد بن أحمد قاسم في غنائياته ومقطوعاته الموسيقية ومشواره الفني الإبداعي ( عـــلامـــة مـــهـــمة متـــميـــزة ) في مسار تاريخ الغناء العدني اليمني والعربي الحديث والمعاصر، لكننا نشعر أن الواقع الثقافي اليمني لم يستطع أن يدرك ويستوعب كما يــنبغي تجــربته الغنائية والموسيقية المتطورة التي لم تــزل ( بــــكــــراً ) تحتاج لمزيد من الدراسات العلمية المنهاجية العــميقـــة، ... ( ظُــــلـــــم ) بن قاسم حــــياً ومـــيتاً فـــقـــد مرت ذكرى ميلاده ورحــــيله على مـــــدى ســــنـــــوات ولم يـــحــــــدث ما يـــستحــــق الإشـــــارة والـــــذكــــــــر رغم ( صــــرخــاتـــنـــا ) في كـــل عــــام مـــنــذ رحــــــيلــــه حتى كــــــتابــــــــة هــــــــــــــــذه الـــســــطــــــــــــــــــــور ...