آخر تحديث :الأحد-12 مايو 2024-11:12م

أدب وثقافة


(تغريبة ونصف دقيقة)

الأربعاء - 16 أكتوبر 2019 - 10:43 ص بتوقيت عدن

(تغريبة ونصف دقيقة)

كلمات/غالية عيسى:

حملت حقيبتها وخرجت من بيتها مسرعة، كانت تركض بقوة وهي تحدث نفسها: "لابد أن الحق بالقطار لن أدعه يمضي دوني، يجب أن أصل إلى بلدي هذا اليوم، فقد سئمت هذه البلدة التي نزحت إليها منذ عشر سنوات، سئمت وحدتي وسئمت الغربة.. يجب أن أبحث عن زوجي الحبيب الذي فقدته في ذلك اليوم البائس الذي نزح فيه كل سكان البلدة. صحيح أنني لا أعلم إن كان ما زال على قيد الحياة بعد أن أخذه أولئك الجنود من باب القطار وتركوني أرحل وحيدة مع طفلي الرضيع ولكني سأبحث عنه حتى الموت."

سمعت صفارة القطار فأسرعت راكضة إليه، أخيرا أدركته في اللحظة الأخيرة، صعدت القطار وأنفاسها تكاد تنقطع من شدة التعب، نظرت شزرا إلى وجوه أولئك الرجال الذين لم يحرك أحد منهم ساكنا للتنازل لها عن مقعده.. قالت تحدث نفسها : "ياللخيبة ! أين النخوة ؟ يا إلهي ! كم صارت الأرواح خاوية".
نظرت إليها تلك العجوز التي كانت تجلس بجانب رجل أشعث كثيف الشعر متسخ الأظافر وسيئ الرائحة ، ثم قالت لها :
"ثمة حيز ضيق من الفراغ تعالي اجلسي بيني وبين هذا المجنون، فقد اختنقت برائحته "
ضحكت "تغريبة " وهي تجلس مابين العجوز والرجل لكن سرعان ما تحولت ضحكتها إلى ذهول
وقالت في نفسها :
"يا إلهي ! رغم سوء رائحة هذا الرجل إلا أنني أشتم من ورائها رائحة أخرى أعرفها جيدا.
حاولت أن تنظر إلى وجه الرجل لكنه كان مستغرقا في النظر إلى اﻷشجار التي تتراءى له من زجاج نافذة القطار، التصقت بجسده أكثر لعلها تتحسس شيئا ما !
"نعم هي تلك الحرارة التي تمزق قلبي نعم تلك الحرارة الشرقية لا تنبعث إلا من جسد زوجي الحبيب"
تجرأت ونادته بهدوء :
" غريب " !
التفت إليها وكأنه يسمع سيمفونية عذبة لامست قلبه من فردوس الماضي، التقت أعينهم.. عيناها عسليتان متعبتان ما زال يتقاطر من بريقهما رحيق شهد ودفء نجوم.. وعيناه سوداوان منهكتان مهزومتان تنتظران بزوغ اللحظة اﻷخيرة من الحياة.
تعانقت أعينهما وقلباهما وروحيهما كانت تتفحص وجهه المتهالك وتنظر لساعتها، كم تود لو يصل القطار الآن ليعودا إلى منزلهما القديم لتضمه إلى صدرها، وتعانقه بحرارة تلك السنيين
وذاك الحب الذي لم يخمد في قلبها يوما!.. كانت سعيدة وكأنها عثرت على الحياة من جديد
لكن شيئا واحدا كان يؤرقها؛ كيف ستخبره عن وفاة طفلهما الرضيع الذي لم يتحمل الجوع ووعثاء السفر عند النزوح ففارق الحياة قبل وصول القطار؟
أما هو فقد كان ينظر إليها بحزن وانكسار، وهو يحدث نفسه:"كم أحبك أيتها الجميلة، ولكن ماذا ستجدين من رجل أشعث متسخ وبلا روح، وماذا لو أخبرتك أن أولئك الجنود قد افقدوني رجولتي إثر التعذيب في معتقلاتهم الظالمة".. كانت الدموع تتساقط من عينيه وهو يردد في نفسه: "يا لسخرية الحياة
، لماذا وجدتك اﻵن ؟ "
لم تنزل "تغريبة " عينيها من عيني حبيبها فقط كانت تفكر كيف ستعيده كما كان.. ما الملابس التي ستشتريها له ؟ وبأي طريقة ستهذب له شعره وأظافره، وبأي العطور ستغرقه.. لكنها كانت تقول في نفسها :
"كل ذلك سيكون لا حقا
لأن أول شيء سأقوم به هو معانقته رغم اتساخه ورغم تلك الرائحة النتنة
سأعانقه أولا، سأستنشق أنفاسه الشرقية التي تمتزج بعذوبة شاعر ورقة فنان وشجا موسيقي حالم، سأضمه بين ذراعي ليعلم مدى شوقي وحاجتي إليه " قاطع تفكيرها صوت قائد القطار، يخبر المسافرين أنه تبقت فقط دقيقة على وصولهم.
ازدادت ضربات قلب "تغريبة" واشتدت فرحتها، وهي تنظر إلى زوجها الحبيب وتنظر إلى معالم وطنها الذي بدأت مكنوناته تتراءى لها
من زجاج نافذة القطار وتمتمت: "آه ! كم اشتقت إليكما".
مدت يدها باستحياء إلى يد "غريب" وأمسكتها بقوة وقالت بثقة وهي تنظر بشوق إلى عينيه : "أعدك أنني سأمسك بيدك هذه حتى الموت"

لكنها نصف دقيقة جاء من خلالها قطارا مسرعا من الجهة المقابلة بفعل اللامبالاة وعدم المسؤولية والدقة التي تفشى وباؤها في تلك البلاد، اصطدم القطاران
تطايرت اﻷحلام، انتزعت اليدان من بعضها، وتصاعد الدخان، نيران تعبث بالحياة هنا أنين المحترقين.. أصوات تستغيث! ولا صوت " لغريب "

كانت تغريبة تصارع سكرات الموت، نظرت إلى عجلات ذلك القطار، التي كانت ما زالت تدور بفعل قوة الصدمة، ثم رددت بسخرية: "القطار الذي سقط في العيون اليابسة ما زالت عجلاته تدور لكنه مقلوب
وظهره انكسر".
ثم نظرت إلى تلك اللوحة الواقفة هناك؛ مكتوب عليها : (مرحبا بكم في أرض الوطن ).
قالت وهي تلفظ أنفاسها اﻷخيرة : سحقا لهذا الوطن، سرق مني الحياة مرتين !