آخر تحديث :الجمعة-29 مارس 2024-11:03ص

ملفات وتحقيقات


قصة انهيار الريال اليمني من العام 1994 -2017

الأربعاء - 17 يناير 2018 - 03:26 م بتوقيت عدن

قصة انهيار الريال اليمني من العام 1994 -2017

د. محمد الافندي -* المركز اليمني للدراسات الاستراتيجية

دراسة سابقة للدكتور محمد الافندي نشرها المركز اليمني للدراسات الاستراتيجية تتحدث عن الريال اليمني وعلاقته بالدولار والاقتصاد اليمني بشكل عام.

الريال اليمني هو وحدة النقد المعتمدة في اليمن، ومن ثم فإنه يمثل العملة الوطنية للجمهورية اليمنية. ومن البديهي أن العملة الوطنية لأي بلد هي تجسيد لسيادة هذا البلد واستقلالية سياساته النقدية والمالية، ومنذ أن تطور النظام النقدي في العالم، وتحول من نظام نقدي أساسه المعدن النفيس (الذهب والفضة)، إلى نظام ورقي أساسه وحدة النقد الورقية، كان الشغل الشاغل لصانعي القرار هو تحقيق استقرار وحدة النقد. فوظيفة النقود هي أن تكون مقياساً كفأً لقيم السلع والخدمات، وأداة لتبادل السلع بين الناس وتسوية المدفوعات الآجلة ومخزناً للثروة.

ومن الواضح أن هذه الوظائف لا تتحقق إذا جنحت النقود إلى عدم الاستقرار والتقلب الشديد.

فاستقرار وحدة النقد هو شرط أساس وضروري لاستقرار معاملات الناس في أنشطتهم الاقتصادية على مستوى البلد، أو في إطار التعامل الاقتصادي الخارجي بين الدول. وبطبيعة الحال فإن عدم استقرار قيمة العملة يشكل إفساداً لأحوال الناس وإخلالاً بحقوقهم والتزاماتهم. كما أن ذلك يلحق الضرر والخسائر بثروات الأفراد ومعيشتهم وحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية. كما أن عدم استقرار قيمة العملة يضعف الثقة بها، ويصيب العلاقات الاقتصادية باضطراب شديد، ويؤدي في نهاية الأمر، إلى تخلي الوحدات الاقتصادية عن هذه العملة الضعيفة، واللجوء إلى اقتناء العملات القوية والمعادن النفيسة. وهو الأمر الذي يزيد الأمور سوءاً واضطراباً داخل الدولة.

الريال اليمني ارتبط بعلاقة ثابتة مع الدولار في ظل نظام سعر صرف ثابت. ولكن منذ ثمانينيات القرن الماضي، بدا أن أزمة الريال اليمني تظهر وتتصاعد من فترة إلى أخرى، مما جعل فترات عدم استقراره تفوق فترات استقراره، أي أن فترات عدم استقراره أصبحت هي الأصل، والاستقرار هو الاستثناء. وقد تجلى ذلك من خلال تقلبات سعر صرف الريال اليمني مقوّماً بالدولار، أو بالتعريف الشائع في اليمن سعر صرف الدولار مقوّماً بالريال اليمني.

 

وفي حقيقة الأمر، فإن تعريف سعر صرف الريال بمعناه السابق هو تعريف نمطي وتقليدي، ومن ثم أصبح غير مناسب لوصف أزمة الريال اليمني. لذلك فإني سأعرف صرف الريال اليمني مقوّماً بالدولار، تعريفاً يعكس أوجاع الريال وأزماته المستمرة. فأقول إن هذا السعر ما هو إلا التعبير الاقتصادي لمدى حدة الأزمة السياسية التي تعاني منها اليمن في الوقت الراهن – بتجلياتها الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية.

وإذا كانت مجريات الأحداث في الحاضر لها صلة بالماضي، فإنه من المفيد تقديم عرض تاريخي سريع لأزمات الريال السابقة وصولاً إلى أزمة العملة الوطنية (الريال) في 2010م.

ثانياً: مسيرة تدهور الريال اليمني

ارتبط الريال اليمني بعلاقة ثابتة مع الدولار، في ظل نظام سعر الصرف الثابت الذي كان سائداً في الفترة 1972م- 1982م، ومنذ 1983م- 1989م أصبح النظام المتبع هو نظام سعر الصرف الثابت الخاضع للتغيير تدريجياً. كان التغير التدريجي في سعر الصرف انعكاساً لزيادة حدة الاختلال في ميزان المدفوعات وانخفاض الاحتياطيات الرسمية للبنك المركزي. ولذلك كانت السلطات النقدية تخفض قيمة الريال اليمني (رفع سعر الصرف) تباعاً في فترات متتابعة، وقد بلغ المعدل التراكمي لانخفاض قيمة الريال نحو 93% خلال الفترة 1983- 1987م.

وفي عام 1988م تم توحيد سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف التجاري (لم يكن هناك اختلاف كبير بين السعرين) عند سعر 9,76 ريال للدولار.

غير أن أسوأ اضطراب لنظام سعر الصرف حدث خلال الفترة 1990م- 1994م، وكان ذلك متزامناً مع ازدواجية نظام سعر الصرف (النظام الثنائي) والتقلبات الشديدة لسعر الصرف في السوق الموازية.

وقد أدت هذه الأحداث إلى تكريس نظامين لسعر الصرف هما:

أ- سعر الصرف الرسمي الذي يتحدد بإرادة السلطات النقدية (البنك المركزي).

ب- سعر الصرف الموازي الذي يتحدد بقوى السوق وغيرها من العوامل السياسية.

بيد أن تركيز البنك المركزي على حماية السعر التدخلي بالأساليب الإدارية فقط دون التأثير المباشر في السوق الموازية من خلال بيع وشراء النقد الأجنبي، قد جعل ذلك السعر غير واقعي، حيث كان سعر الصرف الموازي قد تجاوز المائة ريال في السوق. ولذلك فإن السعر التدخلي لم يكن قابلاً للاستمرار فانهار في مطلع عام 1995م.

سعر الصرف الموازي:

ظهر هذا السعر عندما طُبق نظام التمويل الذاتي للواردات في أغسطس 1990م، ثم اكتسب شرعيته القانونية بإصدار لائحة الصرافة في ديسمبر 1992م. وأصبح هناك سوق موازٍ، وكان هذا السعر يغطي كل المعاملات الاقتصادية غير الحكومية. وبالرغم من أن سعر الصرف الموازي كان يتحدد بناءً على قوى العرض والطلب. إلا أنه قد شهد تقلبات كثيرة خلال الفترة 1990م- 1995م. لقد تضافرت الأسباب الاقتصادية مع الأسباب السياسية في تفسير تقلبات سعر الصرف الموازي. حيث بدأ هذا السعر بحوالي 12,13 ريالاً للدولار في يناير 1990م، ثم ارتفع إلى 17,5ريالاً، و29,45ريالاً، و42,65ريالاً، 120ريالاً للدولار الواحد على التوالي وذلك بنهاية الأعوام 1991- 1994. وانتهى إلى أعلى قمة له في صيف 1995م بحوالي 160 ريالاً للدولار الواحد، وأياً كان الأمر فإن القوة الشرائية للريال اليمني قد تدهورت بصورة شديدة، وأصبح الريال اليمني بنهاية 1994م لا يساوي سوى 10% من قيمته في بداية 1990م.

التعويم الكامل لسعر صرف العملة اليمنية:

تم الانتقال إلى نظام سعر الصرف الحر (المعوَّم) في يوليو 1996م، عقب الانتهاء من فترة التوحيد التدريجي لأسعار الصرف السائدة قبل 1996م.

لقد تحدد دور البنك المركزي في التدخل من حين إلى آخر بغية تلطيف أي تقلبات في سعر الصرف لأسباب غير اقتصادية. ومع مطلع 2010م شهدت العملة اليمنية أزمةً حادةً حيث انخفضت قيمة الريال نحو 15% خلا الربع الأول من 2010م. وأصبح سعر صرف الدولار في مارس 2010م نحو 227 ريالاً يمنياً للدولار الواحد.

وفي يوليو 2010م، شهدت العملة الوطنية أسوأ أزمة، إذ تدهورت قيمة الريال بصورة مفاجئة وسريعة حيث تجاوز سعر صرف الدولار حاجز الـ250 ريالاً للدولار، خلال أسبوع. ثم تراجع إلى 240 ريالاً للدولار، مسجلاً بذلك صعوداً مقداره 14ريالاً وبنسبة 6,2% مقارنة بسعر 226 ريالاً أواخر مارس. وبذلك يكون الريال اليمني قد فقد نحو 20% من قيمته خلال الستة الشهور الأولى من 2010م.

 

ثالثاً: مؤشرات أزمة العملة (الريال)

عندما يتخذ المضاربون على العملة مساراً هجومياً للمضاربة على سعر صرف العملة، يسبب ذلك انخفاضاً سريعاً ومتتالياً في قيمة العملة، وحينها فإن أزمة العملة تكون قد وقعت وفقاً لتعريف التقارير العالمية لصندوق النقد الدولي.

بيد أن أزمة العملة لا تحدث فقط بسبب هجوم المضاربين على العملة، وإنما تحدث أيضاً عندما تلجأ الحكومة إلى التخلي عن نظام سعر الصرف الثابت للعملة بسبب التقلبات المستمرة في قيمة العملة. وهو التقلب الذي يعكس اعتلالاً كبيراً في الموازين الاقتصادية الكلية ومنها ميزان المدفوعات والميزان المالي.

في هذه الحالة تنشأ أزمة العملة بسبب عدم قدرة الدولة على حماية سعر الصرف الثابت. وأياً كان السبب في ذلك، فإن لهذه الأزمة مؤشرات رئيسة منها:

انخفاض ملحوظ وسريع في القيمة الاسمية (النقدية) للعملة، وفي هذه الحالة تحاول السلطات النقدية الدفاع عن العملة، أو حتى إبطاء سرعة التدهور بالتدخل بقوة في سوق الصرف الأجنبي وبيع العملات الأجنبية، أو من خلال زيادة سعر الفائدة بنسبة كبيرة على الودائع بالعملة الوطنية.

 

وبقدر ما تمثله هذه الإجراءات الحكومية من وسائل للدفاع عن العملة، إلا أنها بحد ذاتها تمثل مؤشرات لوجود أزمة عملة. وهي المؤشرات نفسها التي يستفيد منها المضاربون للقيام بعمليات المضاربة على العملة. إن أبرز هذه المؤشرات هي:

 

– المتابعة المستمرة لنمو عرض النقود، وخاصة الإصدار النقدي الجديد الذي يكون بهدف التوسع في الائتمان وتمويل عجز الموازنة، فهذا يجعل المضاربين يتوقعون تدهور قيمة العملة الوطنية.

 

ولذلك يلجأ أصحاب الحسابات الجارية في البنوك إلى تحويلها من الريال إلى الدولار قبل فترة نفاد الاحتياطي. أما أولئك الذين لا يتعاملون مع المصارف فإنهم يلجأون إلى شراء الدولار من شركات الصرافة والبنوك ومنها البنك المركزي تحت غطاء صرافين بلافتات مختلفة.

 

– المتابعة المستمرة لحركة احتياطي الدولة من النقد الأجنبي، فالهبوط السريع في الاحتياطات يظهر مدى عمق أو حجم أزمة العملة. فعندما يتآكل الاحتياطي بمعدل ثابت أو متزايد، فإن هذا يجعل المضاربين يتوقعون تخلي السلطات النقدية عن سعر الصرف الحالي.

 

– متابعة تقلبات سعر الفائدة، فكلما قررت السلطات النقدية زيادة سعر الفائدة للدفاع عن الريال عكس ذلك حدة أزمة الريال. بيد أن هذه السياسة لا تصلح للمحافظة على استقرار قيمة العملة الوطنية. لأن الطلب على النقود ينخفض في ظل المرونة العالية لسعر الفائدة. إضافة إلى ذلك فإن القلق المتزايد يلغي أثر رفع سعر الفائدة على الودائع بالريال.

 

وعلى أية حال، فإن وجود هذه المؤشرات واستخدامها كأدوات للدفاع عن العملة واستفادة المضاربين منها من شأنه فقط استيعاب الضغط على سعر الصرف وتلطيف تقلباته الشديدة.

 

رابعاً: أسباب أزمة الريال اليمني

 

إذا كان الاقتصاد اليمني يواجه اختلالات اقتصادية حادة، إضافة إلى الاختلالات السياسية الحادة والقضايا الملتهبة في صعدة وفي المحافظات الجنوبية، فإن تعريف سعر صرف العملة الوطنية – التعريف النمطي لم يعد كافياً في ظل حالة اليمن، كما ذكرنا سابقاً. فالتقلبات الحادة في سعر صرف العملة إنما هي التعبير الاقتصادي عن حدة الأزمة السياسية التي تواجهها اليمن بتجلياتها السياسية والاقتصادية والأمنية.

 

هذا التعريف يشير إلى أن هناك جملة من المحددات الاقتصادية والسياسية تفسر وتشرح أسباب أزمة الريال اليمني. سوف أتناولها تباعاً موضحاً مدى أهمية ومساهمة كل سبب من هذه الأسباب في تفسير أزمة تدهور قيمة الريال اليمني.

(4-1) الأسباب الاقتصادية:

تقدم النظرية الاقتصادية جملة من العناصر والمحددات الأساسية الاقتصادية لتفسير تقلبات سعر صرف العملة الوطنية ومن أهمها:

(4-1-1) النظرية التقليدية (أو نظرية المرونات) في تحديد سعر الصرف:

تعتبر هذه النظرية من أوائل النظريات التي تناولت تفسير تقلبات سعر الصرف. ووفقاً لهذه النظرية، فإن سعر الصرف يتحدد بناءً على حجم تدفق النقد الأجنبي في سوق الصرف الأجنبي كما يعكسه الحساب الجاري فقط للدولة. ومن المعروف أن الحساب الجاري يشمل الميزان التجاري وحساب الخدمات.

لم تهتم هذه النظرية بتدفقات رأس المال كما يعكسه حساب رأس المال باعتبار أن ذلك الحساب لم يكن في ذلك الوقت يشكل عنصراً رئيساً في حجم التجارة الدولية بين الدول. وبالرغم من الاهتمام مؤخراً بحساب رأس المال إلا أن بعض الاقتصاديين يرى أن حساب رأس المال بالنسبة للدول الأقل نمواً لا يشكل عنصراً أساسياً. بسبب تدني تدفقات رأس المال. وبالتالي فمازال حجم تدفق النقد الأجنبي يعتمد على وضع الحساب الجاري في هذه الدول.

 

وعلى أية حال، فإن استقرار صرف العملة يعتمد على حالة مصادر الطلب والعرض من العملة الأجنبية كما يعكس ذلك الحساب الجاري كما ذكرنا سابقاً.

 

ولكن إلى أي مدى تستطيع هذه النظرية تفسير تدهور قيمة الريال اليمني. لننظر إلى حركة الحساب الجاري لميزان المدفوعات اليمني خلال الفترة 2000م- 2009م (جدول الملحق)

 

لقد حقق الحساب الجاري فائضاً خلال الفترة 2000م- 2006م (أي أن هناك تدفقاً للنقد الأجنبي إلى اليمن) ويعزى هذا الفائض إلى الصادرات النفطية، وارتفاع الأسعار العالمية للنفط، لقد ارتفع حجم الفائض من 443,4مليون دولار عام 2002م إلى (646) مليون دولار عام2005م. ثم انخفض حجم الفائض إلى (232) مليون دولار عام2006م ولكن هذا الوضع مازال مريحاً ومناسباً ولا يشكل قلقاً للعملة الوطنية.

 

أما في 2007م فقد تحول الفائض إلى عجز بلغ نحو (1508,3) مليون دولار. بيد أن هذا العجز انخفض في 2008م إلى (1113) مليون دولار وهو مايعد تحسناً في الحساب الجاري.

 

وعلى أية حال، فإن صافي موقف ميزان المدفوعات كان فائضاً خلال الفترة 2002م- 2008م حيث إن الحساب الرأسمالي والمالي كان معززاً لفائض الحساب الجاري ومعوضاً عن العجز فيه في بعض السنوات.

 

لقد ارتفع فائض ميزان المدفوعات من 597,4 مليون دولار عام2002م إلى 602 مليون دولار عام2008م وتذبذب صعوداً وهبوطاً خلال الفترة 2003م- 2007م ولكنه كان رقماً موجباً.

 

وبطبيعة الحال، فإن وضع الحساب الجاري والموقف النهائي لميزان المدفوعات كان داعماً لاستقرار سعر الصرف. ومن ثم فإني أعتقد أن وضع الحساب الجاري لم يكن يشكل مصدراً لتقلبات سعر صرف العملة خلال هذه الفترة.

 

صحيح أن عجز الحساب الجاري قد ارتفع خلال 2009م بسبب تدني عائدات اليمن من النفط، بسبب انخفاض الأسعار العالمية وانخفاض الإنتاج النفطي. حيث تشير الإحصاءات إلى أن اليمن قد خسر نحو 3 مليارات دولار عام 2009م، إلا أن هذا لا يعني على الإطلاق أن انهيار الريال اليمني وبهذه السرعة والدرجة يُعزى إلى تدهور وضع الحساب الجاري.

 

إن تدهور الحساب الجاري لسنة واحدة لا يفسر إلا جزءا يسيراً في مسيرة انهيار العملة اليمنية، ومن الصعب القبول بمقولة أن تدهوراً مفاجئاً في الحساب الجاري لسنة واحدة (2009م) يفسر انهيار الريال اليمني بنسبة 20% خلال ستة شهور. ومن ثم فهناك تساؤل مشروع وهو: من المذنب في انهيار قيمة الريال اليمني؟

 

(4-1-2) سياسة نقدية مضطربة:

 

تهتم النظرية النقدية في تفسير تقلبات سعر الصرف بدور العوامل النقدية وخاصة نمو عرض النقود ومعدل تضخم الأسعار.

نمو عرض النقود:

تشير بيانات البنك المركزي أن معدل نمو عرض النقود تراوح بين 14% في 2004م و27,7% في 2006م و17% و14% في 2007م، 2008م على التوالي خلال الفترة .

وفي المتوسط فإن نمو عرض النقود بلغ18% خلال الفترة 2004م-2008م. وبالرغم من أن هذه النسبة تمثل معدلاً مرتفعاً بالنظر إلى معدل النمو الاقتصادي (كمتوسط 4%) مما يعني أن مرونة الإفراط النقدي أو معامل عدم الاستقرار النقدي مازال مرتفعاً عند 4,5%. إلا أن النمو المرتفع لعرض النقود يعزى إلى زيادة صافي حيازة البنك المركزي من النقد الأجنبي. حيث شكل هذا المصدر السبب الرئيس لزيادة عرض النقود.

 

ولكن بالرغم من ارتفاع حجم المعروض النقدي خلال الفترة إلا أن ذلك لم يسبب تقلبات حادة في سعر صرف العملة اليمنية. مما يعني أن هناك عوامل أخرى تختفي وراء تقلبات عرض النقود. ومن ثم فإن الأمر في هذه الحالة يستوجب فحص تأثير زيادة المعروض النقدي على تدهور قيمة الريال من جهات أخرى ومنها مايلي:

 

1- عرض النقود المحفز عجز الموازنة:

 

من الواضح أن زيادة عرض النقود بسبب زيادة تدفق النقد الأجنبي لم يشكل قلقاً ولا تهديدا لاستقرار سعر صرف الريال، لأن حجم عرض النقود الوطنية يزيد مع زيادة حجم المعروض من النقد الأجنبي خلال الفترة 2006م-2008م.

 

بيد أن الفترة من مايو 2009م إلى مايو 2010م قد شهدت زيادة المعروض النقدي بسبب تمويل عجز الموازنة بالإصدار النقدي الجديد.

 

حيث تبين البيانات الرسمية للبنك المركزي أن صافي المطالبات على الحكومة (صافي الإقراض للحكومة) ارتفع من 321,4 مليار ريال في مايو 2009م إلى 617,2 مليار ريال في مايو 2010م.

 

ومما تظهره البيانات فإن تمويل إقراض الحكومة من خلال أذون الخزانة والسندات قد بلغ نحو 502,9 مليار ريال في مايو 2010م، بينما بلغ تمويل البنك المركزي نحو 114,6 مليار. ومن الواضح أن تمويل البنك المركزي بنحو (115) مليار ريال ماهو إلا خلق نقود جديدة قام به البنك المركزي أي من خلال الإصدار النقدي الجديد. ومن ناحية أخرى فإن مراجعة حجم المعروض النقدي بالمعنى الواسع (M2) يظهر أن عرض النقود قد ارتفع من ترليون وتسعمائة وثمانية وستين مليار (1967,6) مليار في مايو 2009م إلى اثنين ترليون ومائة وسبعة وستين مليار ريال (2166,5) مليار في مايو 2010م.

 

وهنا فإنه من اللافت للنظر أن زيادة عرض النقود بمبلغ 199 مليار ريال – (198,9) مليار – خلال الفترة مايو 2009م إلى مايو 2010م يعتبر مبلغاً يفوق احتياجات التمويل الحكومي من البنك المركزي حتى مايو 2010م. لذلك فإن هناك تساؤلاً ينبغي أن يطرح وهو أين ذهبت هذه السيولة الجديدة؟. وما إذا كانت هذه السيولة قد اتجهت لتمويل الإنفاق السياسي للحكومة من خارج الموازنة.

 

وأياً كان الأمر، فإن هناك قدراً من عدم الشفافية والوضوح يكتنف حجم الإصدار النقدي الجديد الذي أدى إلى وجود سيولة مفرطة تفوق حاجة تمويل عجز الموازنة. ومن ثم فهل استُخدمت هذه السيولة في شراء الدولار مما تسبب في انهيار الريال؟

 

هذا التساؤل يظل مطروحاً وبحاجة لمزيد من التدقيق والدراسة. ولكن علينا أن ننوه إلى أنه جرى تداول وجدل كبير بين المهتمين حول حجم إصدار فئة نقدية جديدة فئة (250) ريال، وما إذا كان هذا الحجم مجرد إحلال بنفس القدر لعملة قديمة. أم أن هذا الإصدار كان غطاءً لإصدار نقدي جديد بحجم كبير، وبالرغم من تأكيد البنك المركزي أن هذا مجرد إصدار إحلالي. إلا أن هذا لم يكن مقنعاً للكثير من المتابعين في ظل استمرار مسلسل انهيار الريال في الفترة الأخيرة. الأمر الذي عزز المخاوف من الإصدار النقدي الجديد.

 

(4-1-3) عرض النقود والتضخم وسعر الصرف:

 

عندما تكون الأسعار المحلية للسلع مرتفعة، فإن معدل التضخم يكون مرتفعاً أيضاً مقارنة بمعدل التضخم العالمي، والنتيجة هي تدهور قيمة العملة الوطنية معبراً عنه بارتفاع سعر الصرف.

 

فالعلاقة بين مستوى الأسعار وقيمة النقود هي علاقة عكسية فكلما ارتفعت الأسعار انخفضت القوة الشرائية للنقود أي كلّما انخفضت قيمة النقود.

 

وعندما يكون منحنى الأسعار في اتجاه دائماً صعودياً فإن ثقة الأفراد بالعملة الوطنية تضعف أكثر وأكثر عبر الزمن. مما يزيد التوقعات بانهيار العملة الوطنية. ومن ثم فإن النتيجة هي اقتناء العملات الأجنبية أو الأصول الثابتة أو الذهب. إن نظرية تعادل القوة الشرائية هي التي اهتمت بالعلاقة بين أسعار السلع الداخلة في التجارة الدولية وبين قيمة عملة كل بلد. وتوجد في هذه النظرية صيغتان للتعبير عن هذه العلاقات، إلا أن أكثرها واقعية هي الصياغة النسبية للعلاقات بين الأسعار وأسعار الصرف.

 

ووفقاً لهذه الصياغة فإنه كلما كان التضخم المحلي أعلى من التضخم العالمي، تدهورت قيمة العملة الوطنية وارتفعت قيمة العملة الأجنبية وهكذا دواليك.

 

وفي حالة اليمن، فإن اتجاه أسعار السلع يكون صعودياً دائماً وبوتيرة سريعة، مما جعل معدل التضخم المحلي دائماً أعلى بكثير من معدل التضخم العالمي.

 

ويمكن تفسير ذلك بأسباب كثيرة منها:

 

– زيادة المعروض النقدي الذي يؤدي إلى زيادة السيولة بيد الأفراد.

 

– السياسات الحكومية التي ركزت على زيادة أسعار السلع الأساسية، كالمشتقات النفطية، وخدمات الكهرباء والمياه، وهي السياسات التي عرفت بسياسات الجُرع أو سياسات رفع الدعم عن السلع الأساسية.

 

– تدهور قيمة العملة الوطنية، فارتفاع سعر الصرف يسبب أيضاً ارتفاع الأسعار التي تسبب أيضاً ارتفاع سعر الصرف. فالعلاقة بين سعر الصرف والأسعار هي علاقة دائرية وقد أشرت في دراسات سابقة إلى أن ارتفاع سعر صرف الدولار بنسبة 1% مثلاً يسهم في ارتفاع معدل التضخم بنسبة 33نقطة مئوية (33%).

 

ولا يعد هذا الأمر غريباً بالنظر إلى حجم انكشاف الاقتصاد المحلي على الاقتصاد العالمي. حيث تجاوزت نسبة التجارة (الصادرات الواردات) إلى الناتج المحلي60%.

 

(4-2) أخطاء في إدارة التدخل في سعر الصرف وضعف الإشراف والرقابة:

 

إن انتقال نظام سعر الصرف في اليمن من نظام سعر الصرف الثابت إلى نظام سعر الصرف الحر في يوليو 96م لا يعني تخلي البنك المركزي عن مهامه في اتخاذ كل الإجراءات لحماية العملة الوطنية وتعزيز ثقة الناس بها.

 

لأن نجاح نظام سعر الصرف الحر مرهون باستقراره النسبي وإلا أصبح الأمر فوضى وتضييعاً لحقوق الناس والتزاماتهم، وعبثا باستقرارهم الاقتصادي والاجتماعي.

 

وفي ظل نظام سعر الصرف الحر تحدد دور المركزي في تلطيف تقلبات سعر الصرف لأسباب غير اقتصادية. بيد أن ممارسة المركزي لهذه المهام لم تكن بالشكل الصحيح، فقد وقع المركزي في عدة أخطاء مضرة باستقرار سعر الصرف ومن أبرز هذه الأخطاء ما يلي:

 

الخطأ الأول: طريقة البيع المفتوح للدولار:

 

يقوم المركزي ببيع الدولار للبنوك والصرافين دون أن يرتبط حجم هذا البيع بالضرورة بمتطلبات النشاط الاقتصادي الحقيقي. فالهدف ليس إلا تلطيف التقلبات في سعر الصرف.

 

بيد أن ضعف الإشراف والرقابة على حركة البيع والشراء للدولار في البنوك والصرافين فتحت باباً للتلاعب والمضاربات. وفي ظل الفساد والجمع بين السلطة والتجارة، فإن تحايل المضاربين على حجم مبيعات المركزي من النقد الأجنبي أمر وارد ومحتمل.

 

واللافت للنظر أن القرار الجمهوري بالقانون رقم (20) لسنة1995 بشأن أعمال الصرافة قد تضمن قيوداً تنظيمية تعزز عملية الإشراف والرقابة للمركزي على الصرافين.

 

بيد أن هذه القيود تم التخلي عنها في القرار الجمهوري بالقانون رقم 15 لسنة1996م. وقد أضعف هذا التعديل الإشراف والرقابة على أعمال الصرافة. وجعل الباب مشرعاً أمام المضاربات والاحتيال والتضليل. ومن اللافت للنظر أيضاً أنه بالرغم من تعرض الريال اليمني لعدة أزمات وانتكاسات ومضاربات وخاصة في 2010م إلا أنه لم يفتح أي تحقيق مع أي جهة يحتمل أنها وراء أزمة الريال اليمني فماذا يعني هذا الأمر؟

 

الخطأ الثاني: البيع بالمزايدة إلى أعلى:

 

دأب البنك المركزي ومنذ التحول إلى نظام سعر الصرف الحر إلى بيع الدولار من خلال المزايدة – أي بيع الدولار بالسعر الأعلى الذي تحدده عملية المزايدة بين المتعاملين.

 

وتمثل هذه الطريقة الخاطئة اتجاها سيئاً لما سيكون عليه سعر الصرف الذي سيسود في المستقبل. وهذا الأمر لاشك أنه يغذي توقعات المتعاملين بميل قيمة العملة الوطنية باتجاه التدهور المستمر. ومن ثم زيادة تقلبات سعر الصرف وتشجيع المضاربة على الدولار.

 

لقد نبهنا ومنذ وقت مبكر (1996م) إلى الآثار السلبية الناجمة عن طريقة بيع الدولار بأعلى سعر تحدده المزايدة.

 

وأكدنا في رؤيتنا إلى أهمية تعزيز ثقة الناس بالعملة المحلية التي يهزها ويضعفها استمرار بيع الدولار بطريقة المزايدة إلى أعلى.

 

ولعل المركزي ظل متأثراً بقصد أو بدون قصد بنظرية الأصول المالية في تحديد سعر الصرف. فسعر الصرف وفقاً لهذه النظرية ماهو إلا سعر نسبي لأصل مالي هو النقود (الريال في هذه الحالة)، فالريال ما هو إلا أحد الأصول المالية (أصل نقدي) ومن ثم فإن سعره يتحدد وفقاً لنظرة السوق أو المتعاملين لهذا الأصل في السوق ككل.

 

ومن ثم، فإن المركزي وهو يستخدم طريقة البيع بالسعر الأعلى إنما يشكل نظرة السوق لقيمة الدولار مقابل الريال.

 

وفي كل الأحوال فإنها نظرة متحيزة باتجاه سعر أعلى للدولار مقابل انخفاض مستمر في قيمة الريال. ولا شك أنها تدمر – عبر الزمن – الثقة بالريال اليمني.

 

الخطأ الثالث: وهم التنافسية:

 

إن وقوع البنك المركزي في وهم تحقيق تنافسية الاقتصاد اليمني قد جعله حريصاً على تحريك سعر الصرف للدولار دائماً إلى أعلى بنسبة مئوية محددة سنوياً، أي أنه أصبح حريصاً على تخفيض قيمة الريال اليمني. وينطوي هذا التصرف على وهم شائع مفاده أن تخفيض قيمة الريال اليمني سيؤدي إلى زيادة تنافسية الصادرات اليمنية ومن ثم زيادة حجم الصادرات. ومن جهة أخرى، فإن أسعار الواردات سوف ترتفع مما يسبب انخفاض حجم الواردات الأمر الذي سيؤدي إلى تصحيح خلل ميزان الحساب الجاري ومن ثم استقرار سعر الصرف.

 

بيد أن مناقشة مدى واقعية وهم التنافسية في حالة اليمن تظهر خطأ هذه السياسة للأسباب التالية:

 

1- يشترط لنجاح تخفيض قيمة العملة أن تكون القدرات التصديرية للبلد كبيرة وفي اليمن هذا غير متحقق فالصادرات غير النفطية لا تمثل إلا 5-10% من أجمالي الصادرات، بينما 90-95% هي صادرات نفطية.

 

2- ويشترط أيضاً أن يكون الطلب على الواردات مرناً بحيث تنخفض الواردات كلما ارتفعت أسعارها. وفي اليمن الطلب على الواردات غير مرن، فاليمن بحاجة إلى الاستيراد مهما كانت الأسعار لأن القدرات الإنتاجية للاقتصاد المحلي مازالت ضعيفة، ناهيك عن الاستيراد من خلال التهريب.

 

3- ويُشترط لنجاح سياسة تخفيض قيمة الريال اليمني أن لا ترتفع الأسعار المحلية. بيد أن اتجاه الأسعار في اليمن دائماً إلى صعود، فالأسعار المحلية مرتفعة ومعدل التضخم المحلي أعلى من التضخم العالمي. ومن ثم فإن هذا الأثر يبطل أي تحسن يرتجى من تخفيض قيمة العملة.

 

أي أن المركزي قد اختار وهم التنافسية على حساب استقرار الأسعار المحلية والتضخم المحلي المدفوع بانخفاض قيمة الريال.

 

وعموماً فإن خطأ الوقوع في وهم التنافسية قد جعل البنك المركزي يخفض قيمة الريال اليمني بنسبة محددة سنوياً وبصورة مستمرة، وهو بذلك يغذي توقعات المتعاملين بالتدهور المستمر للريال.

 

الخطأ الرابع:

 

أن يكون الهدف غير المعلن من التدخل المباشر في سوق الصرف هو جني مزيد من الإيرادات بالعملة المحلية لتمويل عجز الموازنة من خلال بيع الدولار بسعر أعلى.

 

إن هذا الحافز يسهم أيضاً في زيادة تقلبات سعر الصرف، كما أنه يؤدي بالمقابل إلى زيادة الإنفاق الحكومي بالدولار وإلى زيادة قيمة الدعم بسبب ارتفاع سعر الصرف. إضافة إلى زيادة المديونية العامة الخارجية مقومة بالريال اليمني. وزيادة الإنفاق العام بسبب ارتفاع الأسعار بصورة عامة. ولا ريب أن هذا يفاقم عجز الموازنة ويسبب في النهاية مزيداً من تدهور قيمة الريال.

 

وأياً كان الأمر، فإن لجوء الحكومة إلى تخفيض قيمة العملة الوطنية كمصدر جديد للإيرادات الحكومية، إنما يمثل أحد الأساليب الجديدة للجرعات السعرية. وهو خطأ ينطوي على قدر كبير من التضليل للناس من جهة والإضرار بحقوقهم ومعيشتهم من جهة أخرى.

 

والأكثر أهمية في هذا الخطأ يكمن في أنه يفتح الباب واسعاً للعبث باستقرار قيمة العملة الوطنية ويغذي التوقعات السلبية بالتدهور المستمر لقيمة العملة الوطنية. وبطبيعة الحال، فإن ممارسة هذا الخطأ يلقي ظلالاً من الشك حول الجهات والعوامل الأخرى المؤثرة على سعر الصرف، إذا كانت السلطات المالية والنقدية نفسها لا تقدر بدقة عواقب هذا الخطأ في المستقبل بل وتمارسه. ومن ثم تسهم في إضعاف الثقة بالعملة الوطنية.

 

الخطأ الخامس:

 

عدم توخي التناسق الأمثل بين سياسة سعر الصرف وسياسة سعر الفائدة ومعدل التضخم.

 

من الواضح أنه في ذروة أزمة الريال اليمني فإن التناسق المرغوب بين أدوات السياسة النقدية للبنك المركزي لا يتحقق. فقد خفض المركزي سعر الفائدة في مايو 2009م في وقت كان معدل توقع انخفاض قيمة الريال مرتفعاً، فأدى ذلك إلى زيادة عدم الثقة بالودائع الريالية. وعندما اشتدت أزمة الريال اليمني لجأ البنك المركزي إلى رفع سعر الفائدة التأثيري إلى 20% في مارس 2010م لتشجيع الإيداع بالريال. هذا الإجراء لم يكن فاعلاً لأن معدل توقع انخفاض قيمة الريال كان مرتفعاً وأعلى من المعدل الفعلي وبمقارنة بسيطة، فإن معدل انخفاض قيمة الريال بلغ نحو 20% في يولو 2010م ويعني هذا أن سعر الفائدة الحقيقي أصبح صفراً أما إذا أضفنا إلى ذلك معدل التضخم، فإن سعر الفائدة الحقيقي يصبح سالباً.

 

وبنظرة إلى البيانات الرسمية المتاحة نجد ما يؤكد هذا الاستنتاج، فقد انخفضت الودائع الآجلة بالريال اليمني (شبه النقد) من 2,02% في مايو 2009م إلى 1,3% في مايو 2010م. أو من نسبة 15% في 2008م إلى 10% في 2009م.

 

في حين أنه كان من المتوقع أن تزيد نسبة الودائع الآجلة الريالية. وبالمقابل فإن نسبة الودائع بالعملة الأجنبية قد ارتفعت من 1,1% لعام 2008م إلى 5,1% لعام 2009م. لقد ارتفعت الودائع بالعملة الأجنبية مقوّمة بالريال من 525,2مليار في مايو 2009م إلى 783,2 مليار في مايو 2010م. وتدل هذه الأرقام على تفضيل الأفراد الودائع الدولارية. ويمكننا ملاحظة ذلك من نسبة الدولرة في المصارف. فقد بلغت نسبة الدولرة نحو 42% لعام 2009م وأصبحت 38% ومازالت نسبة مرتفعة. أما إذا أخذنا بعين الاعتبار نسبة الدولرة خارج البنوك فإن المشكلة تصبح أكبر.

 

وعلى أية حال، فإن هناك تناقضاً وقع المركزي فيه عند استخدام أدوات السياسة النقدية. فعندما يكون معدل توقع انخفاض قيمة الريال مرتفعاً – وهذا ماهو متوقع – فإن تخفيض سعر الفائدة يزيد الأمر سوءاً، بينما زيادة سعر الفائدة تصبح غير كافية لإقناع الناس بالثقة بالريال ويزداد الأمر سوءاً عندما تطبق سياسة معينة في وقت غير مناسب أو في وقت متأخر وهذا ما حدث فعلاً.

 

الخطأ السادس:

 

تهاون البنك المركزي في ترسيخ استقلاليته وفقاً للقانون والسماح بالتأثير على سياساته وأدواته. إضافة إلى الانشغال بالقضايا الإدارية وعدم التركيز على قضايا إدارة السياسة النقدية وتفاعلها مع السياسات الاقتصادية الكلية. وضعف الاهتمام بالدراسات والبحوث وحلقات النقاش المتعلقة مباشرة بقضايا إدارة السياسة النقدية وآثارها على الاقتصاد الكلي، وقد انعكس هذا الضعف على المستوى المرغوب لتدفق المعلومات واستفادة بعض مراكز النفوذ منها واستغلالها في عمليات المضاربة وتحقيق المصالح الذاتية على حساب المصلحة العامة.

 

(4-3) التوتر السياسي وأثره على أزمة الريال:

 

لا ريب أن الاختلالات السياسية وعدم الاستقرار السياسي في اليمن باتا من أهم وأخطر المؤثرات على تقلبات قيمة العملة الوطنية. بل إن تأثيرهما السلبي على استقرار سعر الصرف تجاوز تأثير المحددات الاقتصادية في الفترة الأخيرة.

 

وبإمعان النظر في مدى تأثير المحددات الاقتصادية على أزمة الريال اليمني، نجد أنه يصعب الجزم أن هذه المحددات تفسر انهيار الريال اليمني بنسبة 20% خلال ستة أشهر.

 

فهي لا تفسر إلا نسبة تتراوح بين 5-7% على أحسن تقدير. وأيّاً كان الأمر، فإن تأثير التوتر السياسي الذي اقترن بنشاط المضاربين والمستفيدين من الأزمات، إضافة إلى قصور وأخطاء في إدارة السياسة النقدية، كان لها الأثر الأكبر في تدهور سعر قيمة العملة الوطنية بهذه السرعة والدرجة.

 

وفي حقيقة الأمر، فإن حدة التوتر السياسي في اليمن تصاعدت في السنوات الأخيرة، وهذا ما تظهره عدد من المؤشرات الأمنية، منها حرب صعدة، والاحتجاجات الجنوبية أو ما يسمى بقوى الحراك الجنوبي، والتباين بين السلطة وأحزاب المعارضة (أحزاب اللقاء المشترك) في ظل غياب الحوار الجاد. إضافة إلى بروز سلسلة من الأحداث الأمنية، وتصاعد نشاط القاعدة، والحروب القبلية، كل تلك المؤشرات والأحداث لا شك أنها زعزعت الاستقرار السياسي وأشاعت مناخاً سياسياً سلبياً انعكس بصورة مباشرة وقوية على تدهور الريال اليمني وتعميق أزمته وجروحه.

 

وأياً كان الأمر، فإن التوتر السياسي يرفع درجة المخاطر السياسية وهي مخاطر تمس كل جوانب الاقتصاد الكلي والاقتصاد الجزئي ويأتي في مقدمة هذه المخاطر ارتفاع مخاطر تقلبات سعر صرف العملة الوطنية.

 

يؤثر التوتر السياسي سلباً على قيمة الريال من جهات مختلفة:

 

– فالتوتر السياسي يعمق عدم الثقة واليقين بالمستقبل مما يزيد من مخاطر الاحتفاظ بالعملة الوطنية. ومن ثم يفضل المستثمرون والمودعون اقتناء العملات الأجنبية. ويؤكد هذا مؤشر الدولرة في البنوك وفي منازل الأفراد الذي مازال مرتفعاً.

 

– وفي ظل التوتر السياسي والقلاقل الأمنية، هناك من يرغب في تسييل أصوله الثابتة وتحويلها إلى عملات أجنبية مما يسهل تحويلها إلى الخارج. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، حيث يلجأ المستثمرون إلى زيادة استثماراتهم في الخارج. ويترتب على هذه التصرفات زيادة الطلب على العملات الأجنبية (الدولار) بينما ينخفض الطلب على النقود الوطنية، مسبباً تصاعد سعر صرف الدولار.

 

– يمثل التوتر السياسي للمضاربين والمنتفعين والمتنفذين فرصة ثمينة لجني مكاسب سريعة من عملية المضاربة بالدولار. وخاصة عندما تتوفر لديهم سيولة نقدية ناجمة عن زيادة الإنفاق السياسي أو تحويل حساباتهم الجارية والآجلة بالريال إلى دولار مستغلين امتداد نفوذهم إلى أروقة صناعة القرار النقدي والمصرفي.

 

– إن التوتر السياسي يحول أولويات التنمية وأولويات الإنفاق العام وأولويات تخصيص الموارد العامة. حيث تزيد حصة الإنفاق السياسي في الموازنة وخارج الموازنة مع تمويله بإصدار نقدي جديد مما يسبب سيولة نقدية مفرطة بالريال تتجه مباشرة إلى شراء الدولار.

 

– وفي ظل التوتر السياسي تنشط تجارة الأسلحة وتترجم نقدياً إلى زيادة طلب على النقد الأجنبي، ومن ثم مزيداً من الضغوط على الريال اليمني.

 

– يعزز التوتر السياسي من المناخ الطارد للاستثمار الأجنبي والسياحة والتحويلات، مسبباً انخفاض تدفق النقد الأجنبي إلى اليمن. ومن ثم انخفاض عرض النقد الأجنبي الذي يقترن بزيادة الطلب عليه وبالتالي مزيداً من تدهور قيمة الريال اليمني.

 

وعلى أية حال، فإن التوتر السياسي يدمر حالة الثقة عند الناس ويزيد مخاوفهم وقلقهم، فيتحول هذا الشعور إلى رغبة كبيرة ومتزايدة في الاحتفاظ بالنقد الأجنبي والتخلي عن النقد الوطني (الريال). ومرة أخرى فإن نسبة الدولرة المرتفعة تؤكد هذه المخاوف والقلق الشائع. كما يدل على ذلك حجم التدفق من وإلى اليمن، حيث تظهر بيانات ميزان المدفوعات ما يلي:

 

– انخفض تدفق الاستثمارات النفطية إلى الداخل من 2331,5 مليون دولار عام 2008م إلى 1676 مليون دولار عام 2009م.

 

بينما ارتفع تدفق النقد الأجنبي إلى الخارج من 1659 مليون دولار عام 2008م إلى 1547 مليون دولار عام 2009. صحيح أن جزءاً كبيراً من هذه الأرقام يمثل حصص شركات النفط إلا أن هذا يعكس أيضاً أثر التوتر السياسي.

 

ومن جانب آخر فإن استثمارات البنوك التجارية في الخارج ارتفعت من 128,5 مليون دولار عام 2008م إلى 555 مليون دولار عام 2009م.

 

ومن اللافت للنظر أن جانباً كبيراً من هذه المؤشرات يفسر بالآثار السلبية للتوتر السياسي. إضافة إلى ذلك فإن ضعف مناخ الاستثمار قد أثر سلباً وأدى إلى تدفق النقد الأجنبي إلى الخارج.

 

خامساً: الريال.. إلى أين؟

 

إن سعر صرف العملة الوطنية يعتبر مؤشراً أساسياً لقياس حالة نبض الاقتصاد الكلي. فالانخفاض المتتالي لقيمة الريال (ارتفاع سعر الصرف) إنما يعكس حالة اعتلال الاقتصاد الكلي الذي تزيده تفاقماً الاختلالات السياسية.

 

وبطبيعة الحال، فإن وجود عجز في الحساب الجاري لا يقابله فائض في الحساب الرأسمالي، واختلال المالية العامة للدولة والسيولة النقدية المفرطة كلها تشكل جذور أزمة تدهور قيمة الريال اليمني في الأجل المتوسط والطويل. كما أن ضيق القاعدة الإنتاجية وضعف القدرات الإنتاجية ومن ثم محدودية الصادرات غير النفطية تعكس نفسها على ريال ضعيف أمام دولار قوي وإن كان هذا الدولار ضعيفاً في الخارج.

 

وأياً كان الأمر فإن المحددات الاقتصادية الأساسية لا تستطيع تفسير التدهور السريع في قيمة الريال اليمني في الأجل القصير.

 

فالتوتر السياسي، والفساد وأخطاء إدارة السياسة النقدية، وزيادة القلق والهلع، ونشاط المضاربين، وضعف الإشراف والرقابة يفسر بدرجة كبيرة التدهور المتسارع في قيمة الريال.

 

وأشير هنا إلى قضية أخرى جديرة بالاهتمام ولها دورها في تأجيج مسار تدهور الريال وهي لعبة التضليل بسعر الصرف.

 

تبدأ هذه اللعبة بالسماح لسعر الصرف بالارتفاع في ظل تباطؤ البنك المركزي في التدخل، فيحدث إفراط في تصاعد سعر الصرف، وينشأ عن ذلك مزيد من القلق والهلع لدى الناس فيتصاعد سعر الصرف أكثر وأكثر إلى أعلى.

 

وبعد أن تنتهي اللعبة يصدر المركزي نشرته الجديدة بسعر الصرف الجديد الذي يكون أقل من السعر البالغ الإفراط ولكنه أكبر من السعر السابق.

 

مثال: تصاعد سعر الصرف من 226 ريالاً وتجاوز حاجز 250 ريالاً خلال أسبوع، وبعد ذلك أصبح السعر الجديد 240 ريالاً للدولار. دون أن تقوم السلطات النقدية بالتحقيق مع أي جهة كانت وراء التلاعب بالريال.

 

فماذا يعني هذا التصرف: (ببساطة، فجّعه بالموت يرضى بالحمى).

 

على أية حال، فإن مستقبل الريال اليمني واستقراره يعتمدان على الجدية في تصحيح اختلالات الاقتصاد الكلي، وزيادة قدراته الإنتاجية، لأن الغطاء الحقيقي للعملة الوطنية هو القدرة الإنتاجية الكبيرة للاقتصاد الوطني. وإذا كان الإصلاح الاقتصادي الشامل هو الشرط الضروري لضمان استقرار قيمة العملة الوطنية، إلا أن هذا ليس كافياً، فالشرط الكافي هو تحقيق الإصلاح السياسي ومكافحة الفساد، وبعبارة أخرى الإصلاح السياسي والاقتصادي الشامل هو الضمان الأساسي لاستقرار قيمة العملة الوطنية في المستقبل. وأي فشل في تحقيق الإصلاح الشامل، فإن مستقبل الريال محفوف بالمخاطر.

 

لا أحب أن أكون متشائماً وقد سُئلت كثيراً عن توقعاتي لسعر الصرف وما هو سعر الصرف في المستقبل؟ كنت أتحاشى في إجابتي إعطاء توقع بقيمة معينة للريال، لأني لا أرغب في الإسهام في إشاعة مزيد من القلق.

 

ومع ذلك، فإني أؤكد أن مستقبل استقرار العملة الوطنية يعتمد بشكل أساسي على الجدية في الولوج إلى الإصلاح السياسي والاقتصادي والمؤسسي الشامل.

 

بيد أن فرملة تدهور سعر الصرف في الأجل القصير تتطلب اتخاذ إجراءات ضرورية لكبح جماح التدهور، وقد سبق أن طرحت بعض هذه الآراء في فترات وأماكن مختلفة ومن أهمها مايلي:

 

1- تخلي البنك المركزي عن أسلوبه السابق في التدخل في سوق الصرف الأجنبي. أي التخلي عن أسلوب البيع بالمزايدة إلى أعلى وأسلوب البيع المفتوح للدولار دون أن يرتبط بحاجة فعلية للنشاط الاقتصادي، وأقترح هنا اعتماد أسلوب التدخل النوعي في السوق وفقاً لاحتياجات السوق من السلع الأساسية بعد إجراء تقييم تشارك فيه الجهات المختصة لحاجة البلاد من السلع. إن التدخل النوعي يتطلب أن يبيع المركزي الدولار للبنوك وشركات الصرافة الملتزمة بالنظام وفق سعر معين للدولار يميل إلى الانخفاض وليس إلى الارتفاع. على أن يستمر هذا الاتجاه حتى يتم استعادة العلاقة الصحيحة بين الدولار والريال واستعادة الثقة بالريال.

 

2- تطوير وتقوية نظام الإشراف والرقابة على أعمال الصرافة، في الاتجاه الذي يعزز استقرار سعر الصرف ويمنع التلاعب والمضاربات في العملة. وهذا يتطلب تقوية نظام المراقبة على حركة بيع وشراء النقد الأجنبي، وأسعار البيع والشراء في البنوك وشركات الصرافة، والتدقيق فيما إذا كانت حركة البيع والشراء غير طبيعية أو غير مبررة ومن ثم معاقبة المخالفين. كما يتطلب ذلك تطوير قانون الصرافة ولائحة أعمال الصرافة لتحقيق نظام فاعل للإشراف والرقابة.

 

3- تطوير السياسة النقدية، ونقطة البداية هي الالتزام الفعلي باستقلالية البنك المركزي، وتفرغ محافظ البنك لقضايا إدارة السياسة النقدية وعدم الانشغال بالقضايا الإدارية والمالية لموظفي البنك وتركها لوكلاء المحافظ.

 

4- التخلي عن وهم التنافسية التي تقتضي دائماً زيادة سعر الصرف بنسبة معينة، لأن هذا يفتح المجال للتوقعات السيئة. والتركيز بدلاً عن ذلك على هدف تحقيق استقرار سعر الصرف. وهذا سيكون بديلاً أفضل عن رفع سعر الفائدة الذي يؤدي إلى كبح النشاط الاستثماري الحقيقي وتعميق الركود الاقتصادي ومن ثم زيادة الضغوط التضخمية وتقلبات سعر الصرف.

 

5- قيام البنك المركزي بمراقبة حركة السيولة النقدية والتحكم في معدل نمو السيولة كي تتسق مع متطلبات النشاط الاقتصادي الحقيقي، وضمان عدم استخدام السيولة المفرطة في شراء الدولار. إضافة إلى مراقبة حركة التمويل للبنوك والتأكد من أنها تمول أنشطة اقتصادية حقيقية وليس مضاربات على الدولار.

 

6- قيام البنك المركزي بتحسين وتطوير نظام تدفق المعلومات واختيار الأوقات المناسبة للإفصاح عنها، حتى لا يتم استغلال هذه المعلومات من قبل المضاربين والمتنفذين لمصالحهم الشخصية، وبصورة عامة ليس أمرا سليماً أن يقدم المركزي معلومات مفاجئة تغذي التوقعات السلبية عن العملة، ومن أمثلة المعلومات المفاجئة، نشر معلومات عن نسب الاحتياطي النقدي أو الإفلاس أو نسب القروض الراكدة في البنوك، أو حجم تدخل المركزي في بيع العملات الأجنبية قبل الوقت المناسب أو قبل عملية التنفيذ.

 

ومن جهة أخرى، فينبغي ألا يتأخر البنك المركزي عن تقديم المعلومات الصحيحة أو دحض الشائعات أو توضيح حقائق الأمور إذا كان ذلك يعزز الثقة ويزيل المخاوف.

 

7- وفي إطار منظومة الإصلاحات الشاملة يمكن النظر في استبدال العملة الوطنية الحالية من خلال سحب الريال من التداول، واستبداله بعملة جديدة كالدينار مثلاً، واعتماده كعملة وطنية لترسيخ واستعادة الثقة بالعملة الوطنية.

 

8- الإسراع في إصدار الصكوك الإسلامية لجذب المدخرات، وتحريك عجلة التنمية والنمو الاقتصادي وبما يمكن من تطوير وتنويع أدوات السياسة النقدية للبنك المركزي.

 

9- الاهتمام بقطاع الرقابة على البنوك في البنك المركزي، ورفده بالكوادر الكفؤة والأمينة والنزيهة، وإنشاء قطاع الإشراف والرقابة على البنوك الإسلامية، ورفده بالكوادر الكفؤة وذات المرجعيات الشرعية.

 

10- إعطاء اهتمام كبير لقطاع الدراسات والبحوث في البنك المركزي، كي يتمكن من أداء دوره في تقديم الدراسات والتقييمات بمجريات السياسة النقدية وتفاعلاتها، وتوسيع نطاق الاستشارة مع المختصين والأكاديميين الاقتصاديين.

 

11- إزالة بؤر التوتر السياسي، وحل القضايا الملتهبة في البلاد، من خلال الحوار الجاد وإشاعة السلام والاستقرار. من أجل ترسيخ الثقة وإزالة المخاوف والقلق، بغية تحقيق مناخ استثماري جاذب لتدفقات الاستثمار الأجنبي والنشاط السياحي والرساميل الأجنبية.

 

12- ضبط المالية العامة، وتوقيف الإنفاق السياسي غير الضروري، وترشيد إنفاق الدولة بالدولار على شراء السيارات والسفريات والمؤتمرات غير الضرورية.

 

13- مكافحة تهريب السلع، لأن ذلك يتم بالدولار مما يفاقم من فائض الطلب على الدولار.

 

14- إخراج بنك المغتربين إلى حيز الوجود، بحيث يتولى استقبال تحويلات وودائع المغتربين بالنقد الأجنبي، إضافة إلى دور البنوك الأخرى في هذا المجال.

 

15- إلزام مؤسسات القطاع العام والمختلط بإيداع ما لديها من نقد أجنبي في البنك المركزي وفي البنوك تحت رقابة وإشراف البنك المركزي.

 

ومهما يكن الأمر، فإن المستقبل الآمن للعملة الوطنية لا يمكن ضمانه بالمسكنات أو الإجراءات العاجلة، وإنما بالولوج الحقيقي في عملية الإصلاح الشامل، وتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي.

* المركز اليمني للدراسات الاستراتيجية