آخر تحديث :الجمعة-29 مارس 2024-02:20م

صفحات من تاريخ عدن


صفحات من تاريخ عدن : خروج الإنجليز من عدن.. الأسباب الحقيقية

الأربعاء - 13 سبتمبر 2017 - 05:33 م بتوقيت عدن

صفحات من تاريخ عدن : خروج الإنجليز من عدن..    الأسباب الحقيقية

عدن (عدن الغد)خاص:

   كتب :  عفيف السيد عبدا لله                                                                                   

 

الإمبراطورية البريطانية هي أكبر الإمبراطوريات في التاريخ حتى الآن. ومع دخول العقد الأول من القرن العشرين كانت قد بسطت سلطتها على ربع سكان العالم، اي نحو نصف مليار شخص. وظهرت أول بواخر تابعة لشركة الهند الشرقية البريطانية بالقرب من سواحل عدن عام 1609م. وهي مؤسسة تجارية إنجليزية تأسست  عام 1600م، وبتفويض ملكي وبدعم عسكري وسياسي بريطاني، وتدخلت في معظم الشئون السياسية والعسكرية والمتغيرات السكانية والإجتماعية في بلدان جنوب آسيا والخليج العربي واليمن، وتوطيد النفوذ البريطاني في بقاع العالم. وكانت بداية بريطانيا نفوذها في اليمن هو إحتلال الشركة جزيرة بريم (ميون) عام 1739م، ومكثت فيها فترة قصيرة لغرض التحضير لغزو مصر. ثم استولى عليها الإنجليز مباشرة مرة أخرى عام 1857م. واثأر غزو نابليون بونابرت لمصر عام 1789 حماس الإنجليز في إحتلال عدن، خاصة بعد تنامي نفوذهم في الهند، لموقعها الإستراتيجي على هذا الطريق البحري الحيوي بين أرويا وجنوب آسيا. وتؤكد الموسوعة البريطانية أنه كانت لهم حامية في عدن عام 1800م. وعقدوا بشأنها إتفاقية عام 1802م مع المُعْسر سلطان لحج محسن بن فضل، الذي كان إسما نائبا عن الإمام الزيدي في الشمال الناصر بن عبد الله بن الحسن، في زمن إنهيار وتفكك الدولة القاسمية.  ثم خضعت للحكم البريطاني بعد معركة عدن في 19 يناير 1939م، والتي أسفرت في الجانب الإنجليزي عن 17 قتيل وجريح وإغراق طراد حربي. وفي جانب أهالي عدن سقوط 150 شهيد وجريح، وأسر 193 مقاتل.. (رحمة الله عليهم جميعا)، وخسارة 33 قطعة سلاح، ومن ضمنها مدفع تركي صنع في عام 1583م، تم وضعه في برج لندن، وسقوط قلعة صيره.

وفي عام 1857م ضُمت إلى عدن جزيرة ميون (بريم). وفي عام 1856 ألحقت بها جزر كوريا موريا م.  ثم جزيرة كمران عام 1915. وبعد إفتتاح قناة السويس عام 1869م عادت عدن كمنفذ عبور هام للتجارة بين جنوب آسيا والبحر الأحمر ودول حوض البحر المتوسط، وميناء رئيسي لتموين البواخر وتزويدها بالوقود. وبحلول عام 1958م أصبح ميناء عدن ثاني ميناء نشاطا وإزدحاما في العالم بعد نيويورك. وفي 18 يناير 1963م تم إعادة المستعمرة تحت إسم ولاية عدن تمهيدا لدمجها مع إتحاد الجنوب العربي.

 وحتى عام 1937م حُكمت عدن كإقليم يديره مباشرة المندوب السامي الأعلى للهند البريطانية. وفي مارس 1936م صدر قرار إنشاء المجلس التنفيذي (حكومة) لمستعمرة عدن. وفي 28 سبتمبر من نفس العام تم فصل الإقليم عن الهند البريطانية.  وبموجب الأمر الصادر من الملك جورج تحولت عدن إلى مستعمرة بدءا من 1 أبريل 1937م. ومنحت النظام والتشريع المعمول به في المستعمرات. وأصبحت ذات حكومة بنمط إستعماري مباشر مقصور على الموظفين من أصل إنجليزي.   

ونتيجة لإحتلال الأتراك لمنطقة كبيرة من اليمن عام 1872 تم تكريس التجزئة بوضع حدود تركية – إنجليزية في عام 1903 – 1914.  وللسيطرة على الدواخل والمرتفعات والهضاب، إتجهت بريطانيا نحو وضع ترتيبات حمائية مع تسع قبائل قريبة الحدود من مدينة عدن. ورحب هؤلاء بتزويد بريطانيا لهم بالمال والسلاح مقابل عدم ولاءهم أو دخولهم في إتفاق مع الإمام في الشمال، ومنعهم قوات الإمام في صنعاء تجاوز الخط البنفسجي الذي رسمته بريطانيا لفصل محميات عدن عن بقية اليمن. وأستمرت بريطانيا ولكن ببطء توسيع تلك الترتيبات الحمائية والتي تضمنت أكثر من30 معاهدة رسمية وعدد من الإتفاقات الاخرى منها معاهدة إستشارية مع السلطنة القعيطية ومعاهدات مماثلة مع عشرة قبائل أخرى، وإنشاء جيش الليوي القبلي. ماعدا لحج لم تدخل هذا النوع من المعاهدات لأن علاقة بريطانيا معها يرجع إلى وقت مبكر قبل تبني هذا النمط التقليدي لمعاهدات الحماية. ولأغراض إدارية تم تقسيم المحميات إلى شرقية وبها مستشار بريطاني ومقره المكلا ومحميات غربية وبها مستشار بريطاني ومقره لحج (الحوطة).

 وبعد طرد الأتراك من اليمن في نهاية الحرب العالمية الأولى، سعى الإنجليز إلى توقيع إتفاقية مع صنعاء عام 1934م. لكن هذه الرغبة البريطانية في السيطرة قابلها تحدي من قبل الإمام. وعلى الرغم من الوضع السيئ داخل البلاد بفعل الحرب مع السعودية، لم يعترف بمعاهدات التبعية التي تمت بين إمارات ومشيخات الجنوب وبريطانيا، ولم يوافق على إنفصالها عن اليمن. وإنما وافق على إبقاء الحالة الراهنة على حدود الشمال مع محميات عدن. ولم يعترف بسلطة بريطانيا في الجنوب سوى عدن.

 وأسفرت نهاية الحرب العالمية الثانية عن نشؤ واقع جديد، إنهاك القوى الإستعمارية الغربية وتدميرها إقتصاديا وديموغرافيا، وتراجعت مكانتها في نظر شعوب مستعمراتها. ويمكن أن ينتسب إلى هذه الحرب إنخساف الإمبراطورية وإنسحاب بريطانيا من كل مستعمراتها. صحيح أنها بقت على قيد الحياة، لكن سلامتها وسلطانها وهيبتها تم تدميرهم، وتراجعت ثروتها على نحو حاد بعد الحرب. وأنمحى توازن القوى في داخلها وفي بقية العالم الذي كان يعتمد عليه بدرجة كبيرة. وصارت قواتها البعيدة عنها ومستعمراتها تولد ضغوطات مالية شديدة على إقتصادها. وكان من العلامات والمظاهر المبكرة لضعف الإمبراطورية البريطانية هو إنسحابها من الهند عام 1947م. ومن نتائج تلك الحرب أيضا بروز العملاق السوفيتي وظهور حركة عدم الإنحياز، وصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وإعلان الأمم المتحدة سنة 1941م على مناهضتها للإستعمار، وعلى حق الشعوب في تقرير مصيرها. وتشكيل لجنة الأمم المتحدة لتصفية الإستعمار. وأزداد الوعي بتصفية الإستعمار الأوربي، وبمساندة ودعم الزعيم جمال عبد الناصر تجذرت حركات التحرر في العالم العربي بإتجاه المطالبة بتحقيق الإستقلال.

وكان لهذا الأثر الكبير على الحركة الوطنية في عدن. وتضافر القوى الوطنية من أحزاب ونقابات ومنظمات سارع في تشكيل جبهات وأحزاب. وبروز قيادات وطنية، وظهور نخب مثقفة تمرست على العمل السياسي والنقابي. وتأسست الجمعية العدنية عام 1950م كأول إطار سياسي في عدن. وفي عام 1952م جماعة النهضة التي دعت إلى توحيد الشمال والجنوب. وتأسس أيضا المؤتمر العمالي (25 نقابة) والذي شكل حزب الشعب الإشتراكي برئاسة عبد الله الأصنج، الذي تحول إلى منظمة التحرير، وتكونت منها جبهة تحرير جنوب اليمن. وفي نهاية الخمسينات وأوائل الستينات تأسس حزب المؤتمر الشعبي الدستوري برئاسة محمد علي لقمان، والاتحاد الشعبي الديمقراطي برئاسة عبد الله باديب، وحركة البعث العربي (الطليعة).

وكافة هذه القوى السياسية قَرَنَت بين النضال السياسي الواعي والفاعل وبين النضال المادي العملي، مثل الإضرابات والعصيان المدني والمظاهرات وأتجه بعضها إلى النضال المسلح ايضا. وطورت برامجها في إتجاه المطلب الأرقى وهو إستقلال عدن وكانت من أنشط الحركات الثورية والعمالية في العالم ثوريا وقوميا، وكانت قاعدة الإنتماء اليها على أساس الهوية الوطنية اليمنية. وفي سبتمبر 1962 قام محمد علي لقمان بزيارة إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك، وتحدث أمام لجنة السبعة عشر عندما باشرت مناقشة قضية عدن، وطالب بتصفية القاعدة العسكرية البريطانية، وإعطاء عدن حق تقرير المصير.

وجرت أيضا احداث وتطورات عديدة ومهمة عرفتها عدن خلال عقد الستينات من القرن الماضي، منها حادثان لهما دلالتهما. عندما نُظمت مظاهرات عنيفة بجانب مبنى المجلس التشريعي عند نقاش مسودة معاهدة دمج عدن مع إتحاد الجنوب العربي، واستعمل البوليس ضد المتظاهرين القنابل المسيلة للدموع وأطلقت الرصاص على الجماهير الغاضبة والرافضة لمشروع إتحاد الجنوب العربي. وعندما نفذ خليفة عبد الله حسن خليفة من أبناء عدن عملية فدائية جسورة في 10 ديسمبر 1963, بتفجير قنبلة يدوية في مطار عدن، إحتجاجا على ضم عدن، التي تمتعت عبر التاريخ بثقافة مدنية وبحكم راقي ومتطور، إلى مكون إتحاد الجنوب العربي الذي حوى قبائل وعشائر شَتَّى. أسفرت عن إصابة المندوب السامي البريطاني السير كنيدي تريفاسكس بجروح ومصرع نائبه القائد جورج هندرسن، كما أصيب أيضاً بإصابات مختلفة 35 من المسؤولين البريطانيين وبعض وزراء حكومة إتحاد الجنوب العربي (محميات عدن)، عندما كانوا يهمون بصعود الطائرة والتوجه إلى لندن لحضور المؤتمر الدستوري الذي أرادت بريطانيا من خلاله الوصول مع حكومة الاتحاد إلى اتفاق يضمن الحفاظ على مصالحها في عدن. وقد صعقها بريطانيا مشاهدة ذلك في مدينة تتمتع بتقليد طويل الأمد من العمل النقابي المحترف والإحتجاج السياسي السلمي. وعلى إثر هذا الحادث مباشرة ببضعة ساعات أعلنت بريطانيا حالة طوارئ عدن التي استمرت حتى اللحظة الأخيرة من خروجها من المدينة. وهذا الحادث يرد وحده في الوثائق البريطانية كبداية "الكفاح المسلح" لتحرير مستعمرة عدن.

 وعلى الرغم من أهمية عدن في السياسة البريطانية الا أن الوجود البريطاني في عدن واجه صعوبات جمة نتيجة التغيرات الدولية المساندة لتصفية الإستعمار، ونمو الحركة الوطنية داخل البلدان المُستثعْمَرَه، التي تطورت بشكل كبير مما دفع بحكومة العمال البريطانية إلى إعادة النظر في سياستها الدفاعية شرق قناة السويس والتي تضمنت الإنسحاب من عدن في موعد لا يتجاوز عام 1968, دون أن توضح ترتيبات الفترة الإنتقالية.

ولم يمضي وقتا طويلا على هذه التصريحات حتى حطت الجبهة القومية (الحزب الإشتراكي لاحقا) من نفسها، واستخفت بالحركة الوطنية في عدن، وفي رسالة تبادلتها مع الإنجليز، تم رفع النقاب عنها بالتوازي مع الأوراق السرية التي أفرجت عنها بريطانيا في 20 مايو 1914م. عبرت الجبهة القومية فيها عن رغبتها في توقف نشاطها والتفاوض مع بريطانيا. وهو ما أورده أيضا من قَبل الأستاذ عبده حسين الأهدل، عضو المجلس التشريعي، في كتابه (الإستقلال الضائع) أنه "في تاريخ 24 سبتمبر1967م عقد مؤتمر موسع برئاسة المندوب السامي هنري تريفليان، وحضور رجال من الجبهة القومية وبعض ضباط الجيش والأمن العام وضباط المخابرات البريطانيين لدراسة السبل المؤدية إلى التغلب على العناصر العسكرية في جبهة التحرير والتنظيم الشعبي، التي تمركزت بقوة في مناطق دار سعد، الشيخ عثمان، القاهرة والمنصورة. وكانت المشكلة التي تواجه المندوب السامي هي تصفية هذه المناطق من الأحزاب المضادة للجبهة القومية".

ولحل هذه المشكلة أعطت بريطانيا أوامرها لجيش الليوي، التابع لها، وكافة عناصره من المحميات الغربية، بمساندة الجبهة القومية (الحزب الإشتراكي) بقتل وطرد مناضلي جبهة التحرير والتنظيم الشعبي، من أبناء عدن، في ضواحي الشيخ عثمان، وملاحقة باقي عناصرهما في فيافي خبت الرجاع حتى حدود الصبيحة مع الشمال. وخرجت الجبهة القومية (الحزب الإشتراكي لاحقا) منتصرة من الصراع الدموي الذي دام من 1إلى 6 نوفمبر. وبلغ ضحية هذ الحملة عشرات من الشهداء والجرحى من أبناء عدن.

وقد وثقت هذه الحملة في (يوميات حرب التحرير) الصادر عن دار الهمداني للطباعة والنشر، أنه "في السابع من نوفمبر1967أعلنت القوات المسلحة (جيش الليوي والبوليس المحلي المسلح) وقوفها إلى جانب الجبهة القومية ودعت الحكومة البريطانية إلى التفاوض مع الجبهة القومية لنقل السلطة إليها. ثم أتفق على تنفيذ تصفية الأحزاب المضادة في حملة نفذت يوم 25 سبتمبر1967."

 وفي 2 نوفمبر وبالتوازي مع ذلك الصراع الدموي في مدينة الشيخ عثمان، أعلن وزير الخارجية في مجلس العموم البريطاني أن حكومته قررت تقديم تاريخ الإستقلال من عام 1968 إلى نهاية شهر نوفمبر1967. وحددت بريطانيا المفاوضات برئاسة اللورد شاكلتون مع وفد الجبهة القومية برئاسة قحطان في الساعة الثانية مساء يوم الثلاثاء الموافق 21 نوفمبر 1967 في مدينة جنيف، بسويسرا. وعلى الرغم من أن لجنة تصفية الإستعمار في الأمم المتحدة قد حذرت في 20 نوفمبر1967 من أن استلام الجبهة القومية أو جبهة التحرير مدينة عدن منفردة، سيؤدي إلى عواقب وخيمة. مع ذلك، في 28 نوفمبر 67 تم توقيع إتفاقية بين الطرفين حددت فيها 30 نوفمبر 1967 موعدا لخروج بريطانيا من عدن وتسليمها للجبهة القومية، مع أنه في أصل الأشياء أن تعود الأرض إلى أصحابها ابناء عدن.  وهذه الإتفاقية يرفض الطرفان بعد مرور عشرات السنين نشرها، وعوارها القانوني واضح، فمدينة عدن كانت مستعمرة ضمن أراضي التاج البريطاني 129 عاما، ولها تاريخها الخاص بها وثقافتها الشعبية المتميزة. بينما كافة أعضاء اللجنة ومكون الجبهة القومية جاءوا من مناطق منفصلة عن عدن تسمى محميات عدن، لا تستطيع حتى إدارة شؤونها بنفسها، تربطها ببريطانيا مجرد إتفاقية حماية عن بعد، مقابل مساعدات مالية وعينية.

وقبل خروج الإنجليز من المدينة، أحرقوا الوثائق السرية التي أنتجتها أجهزة بريطانيا المختلفة أو أستقبلتها. والتي تعد أغزر مرجع عن مستعمرة عدن. وتحتوي على معلومات تفصح عن سياسة بريطانيا، ومواقفها، وأعمالها منذ إحتلال المدينة وحتى خروجها منها في 30 نوفمبر1967م. وعلى تقارير الممثلين البريطانيين ومراسلاتهم، وعن الأحوال الداخلية وإتصالاتهم مع حكامها وقواها السياسية ومحادثاتها معهم. وكان النفاذ إلى هذه الوثائق سيكشف أيضا عن آليات عمل المجموعة البريطانية المقيمة في المستعمرة خلال حقبة مهمة من تاريخها، ومعرفة حقيقة فصل قاتم جثم على المدينة بعد إستقلالها الزائف.

واشتهرت السياسة البريطانية بأنها مشدودة دائما بشكل كبير وبشراهة إلى مصالحها السياسية والتجارية. وأعتمدت على التدليس وتقسيم البلدان، وعلى التلاعب بالصراع بين الأعراق والمناطق والأديان والهويات. والحكومة البريطانية موهوبة بشكل خاص عند خروجها من مستعمراتها أن تترك خلفها كما هائلا من القذارات المبهمة مثل شرعية الحكم والتقسيم وأوضاع ملوثة. ومشاكل كبيرة متنوعة بين طوائف وفئات المجتمع، وفي إخفاء نقاط خلاف يصعب جدا تسويتها. 

وفي اليومين الأخيرين من شهر نوفمبر عام 1967, وبعد مراسيم إحتفالية بسيطة فيما بينهم، أنسل الإنجليز من عدن بهدوء وببطيء من المناطق المختلفة من المدينة حتى أصبحوا في محيط مطار عدن. وكان حاكم عدن المندوب السامي البريطاني السير همفري تريفيليان هو آخر المغادرين بعد ان ظل يرفع قبعته إلى أعلى في وداع الذين سبقوه وهم في الجو. وكما كانت البحرية أول القوات البريطانية التي دخلت عدن في 19 يناير 1839, حرص الإنجليز أن تكون آخر القوات التي تنسحب منها. ويقال إن بريطانيا كلفت أحد موظفيها المحلين الصغار، بعد أن يتأكد من مغادرة جميع البريطانيين من المدينة، مساعدة قادة الجبهة القومية في رفع علم الجبهة فوق مبنى المندوب البريطاني السامي برأس مربط في التواهي، والسماح للجبهه القومية (الحزب الإشتراكي فيما بعد) التموضع حاكمة هناك.

وكان لهذا التدليس الإنجليزي والإستقلال الزائف تبعاته الكريهة. فلم يخلق مجيء الحزب الإشتراكي إلى عدن الا الكوارث.  حكم بوليسي استبدادي، ومعسكرات اعتقال ومراكز تعذيب وحشية، وانعدام أسباب المعيشة وكمالياتها، ومنع السفر إلى الخارج، ومظاهرات قسرية لتخفيض الأجور والمرتبات، وطوابير الغذاء الطويلة منذ الصباح الباكر، وطرد مئات الكوادر العدنية من وظائفهم ومغادرتهم من البلاد، وإعطاء أعضاء الحزب مزايا عن الآخرين، وتملك أحياء بكاملها، ولغة حزبية متعالية ومهينه للناس، وتوسيع تعريف كلمة الخيانة لتشمل إنتقاد الدولة، وكل شيء محل تنازع. رفاق حزب وجنود وشرطة يقاتلون بعضهم بعضاً في حروب مناطقية وقبلية لم يكن لعدن مغنم ولا مغرم فيها، خلفت وراءها آلاف القتلى والأرامل واليتامى (من مجموع مليون ونصف من السكان). إحتلال بالممارسة، موت بطيء، حكم لم يوجد فيه أي رشد أو نضج في العملية السياسية والاقتصادية، إتسم بعدم الكفاءة والفساد الأخلاقي والوحشية، وبالإنغلاق الفكري التام بشأن مواضيع مثل الديمقراطية والحريات العامة والتنمية الإقتصادية والبشرية وحقوق الإنسان والشفافية. وأنتقلت قبائل محميات عدن الغربية زرافات إلى المدينة بقصد أن تكون عدن هي موطنهم الجديد، وتملكت أحياء سكنية بكاملها. وهو وضع إستيطاني لا يحبه أبناء عدن وغير مغرمون أن تتحول عدن، وقد حَدَثَ لسوء حظها، إلى مدينة خَرِبة ومُدَمَّرة وحالة إنسانية كارثية. ويسدد العدانية كلفة هذا الاختيار الإنجليزي الكريه والجريمة ضد الإنسانية إلى يومنا هذه. وبسببه أضحى هناك إرث مرير من عدم الثقة بين أبناء عدن من جهة وبريطانيا ومحمياتها، ووَجَبَت الآن المطالبة بتحقيق العدالة لأبناء عدن. منها ان تعود عدن، كما مكثت عبر تاريخها الطويل الممتد لآلاف السنين، إلى مدينة ميناء ذو إدارة خاصة يتولى أبناؤها وحدهم كافة شئونها، يُختارون وبشفافية من خارج خدم السلطان الضعفاء والوصوليون. ووقف ومعالجة النزوح الريفي والقبلي. وهو توافد اعداد كبيره بطرق وأعذار شتى بهدف الإستيطان. وإزالة كل العشوائيات التي تتخلل المدينة والتي تحيطها من كل جوانبها بما فيها التي في الجبال، والمباني الناتج عن فساد الذمم في المحليات. وحصر وإعادة أراضي وأملاك أبناء عدن، في كافة أرجاء المدينة، التي تعرضت على مدار عقود لتعديات وعمليات نهب صارخة وخطيرة تمت بالفساد وبالمخالفة للقانون وحقوق ابناء عدن، وبمساعدة مسئولين سابقين تربحوا نظير توزيع ونهب أراضي المدينة وحرمها مجانا وأبخس الأثمان، وبطرق ملتوية، وإستغلال تشجيع الدولة للإستثمار.