يكتبها: بلال غلام حسين
صفحات من تاريخ عدن .. البديات الأولى لترسيم الحدود يناير1902م – مارس 1903م ( 1-6)
إبتداً من هذا العدد وعلى حلقات متواصلة, سوف أستعرض للقارئ الكريم عن البدايات الأولى لترسيم الحدود بين ما كان يسمى في ذلك الوقت مناطق محميات عدن البريطانية, واليمن والتي كانت في ذلك الوقت تقع تحت الحكم العثماني التركي. سوف أضع القارئ الكريم أمام تفاصيل دقيقة عن ما حدث في مفاوضات ترسيم الحدود لحظة بلحظة وخطوة بخطوة, سوف أضع بين أيديهم مجموعة من الصور النادرة وأجزاء من بعض الخرائط التي اسُتعملت أثناء ترسيم الحدود. سوف يتعرف القارئ عن تفاصيل دقيقة حصلت, وعن أسماء فريق لجنتي التفاوض من كلا الطرفين. ستعرف القراء والمهتمين عن كيف بدأت وتمت عملية الترسيم التي استمرت لسنوات عدة, ومن هُنا ننطلق....
حتى بدايات القرن العشرين لم تكن هناك حدود متفق عليها بين مناطق محميات عدن البريطانية واليمن التي كانت تحت سيطرة الحكم العثماني. كانت الأميري أهم قبيلة حدودية تقع تحت الحماية البريطانية, وفي العام 1899م, حاول أمير الضالع الجديد توسيع مناطق نفوذه من خلال جمع الضرائب من بعض القبائل التي كانت تحت سيطرة أسلافه ولكنها في الوقت ذاته كانت تدفع الضرائب للأتراك. وبعدها بعامين وبالتحديد في العام 1901م, عملت بعض القبائل التي تقع تحت الحماية التركية على بناء بُرجين بالقرب من قرية الدريجة وتقع في شمال غرب المُسيمير, في مناطق الحوشبي إلى الغرب والتي هي الأخرى كانت من ضمن القبائل التي تقع تحت الحماية البريطانية, لذا اتفقت الحكومتين البريطانية والتركية في مطلع تشرين نوفمبر من العام 1901م, على تعيين لجنة حدود مشتركة للإتفاق على ترسيم الحدود بين مناطق محميات عدن واليمن.
كان المقيم السياسي في عدن اللواء ميتلاند (Major General Maitland ), والذي كان هو نفسه عضواً في لجنة الحدود الأفغانية في الأعوام 1884 – 1886م, وكان قد أشار بأنه من الضروري أن يتم مسح كامل للمنطقة الحدودية, وعمل خرائط بمقياس بوصة واحدة إلى الميل قبل بدء عملية الترسيم وقد كان مصمماً على رأيه بهذا الخصوص. ومن جانبهم كان الأتراك سريعين لتعين شخص برتبة عقيد ليكون مفوضاً في اللجنة التركية, ومن جهتهم عمل البريطانيين للبحت عن ضابط من نفس الرتبة ليرأس لجنة عدن البريطانية, وكان الخيار واضح بتعيين العقيد عبد الوهاب والمُتخصص في أعمال المسح, والذي حاول في العام 1891 – 1892م, العمل لمسح منطقة الحدود إلى الغرب من الضالع عندما كان برتبة نقيب. وفي ذلك الوقت كان العقيد عبد الوهاب في طريق عودته إلى الهند بعد إجازة قضاها في بريطانيا, عندما حصل على أمر التوجه إلى عدن واستلام منصبه كمفوض للحكومة البريطانية في لجنة الحدود.
وبحلول منتصف يناير 1902م, كان على استعداد للتوجه إلى الضالع, إلى جانب العقيد عبد الوهاب خمسة ضباط بريطانيين آخرين وضابط مدني خبير في مجال الطبيعة البرية. وقد أُرسل فريق المسح من الهند ويرافقهم 72 رجلاً من كتيبة الجيش الهندي المُرابط في عدن. وكانت المجموعة العسكرية المفوضة بعملية المسح مكونة من: 6 أفراد من قوات المشاة من عدن ومجموعة مكونة من 17 عسكري هندي من سلاح الهندسة, وخمسة ضباط آخرين وهم: المقدم عبود وهو من ذوي الخبرة وقد عُين نائباً للمفوض, وضابط المسح الملازم تاندي, وضابط المخابرات الرائد تود, والضابط الطبي النقيب طومسون, والرائد دوفيتن الذي قاد فريق المرافقين من كتيبة الجيش الهندي. والضابط المدني كان جي ويمان بيري وقد كان معين رسمياً في الضالع, وكان أفضل من يتحدثون اللغة العربية في عدن ويعرف المنطقة جيداً لخبرته في مجال الطبيعة البرية في المناطق النائية من خلال عمله الإستخباراتي. وصل فريق المسح إلى الضالع في 26 يناير 1902م, أي قبل أسبوعين من وصول الفريق التركي, لإقامة معسكرهم في الجليلة.
كانت من أولويات العقيد عبد الوهاب التأكد من تأسيس قاعدة أساسية عن من هي القبائل التي تدين بالولاء للأمير تاريخياً, وعلى مدى خمسة أسابيع عمل على فحص سجلات الأمير وعمل مقابلات شخصية مع أكبر عدد ممكن من رؤساء العشائر وكان همه الرئيسي, بأن الأتراك يسيطرون على منطقة الجليلة والتي كانت هي الخط الرئيسي إلى عدن. كان المعسكرين على بعد 4 أميال من بعضهما البعض, وفي 8 فبراير 1902م, أبلغ العقيد عبد الوهاب نظيره العقيد رمزي المفوض من الطرف التركي, بأنه يقترح أن ينقل المعسكر البريطاني قريباً من المعسكر التركي!!! وكان رد العقيد رمزي بأن هذا الإجراء غير مناسب بحسب قول الأتراك أن الموقع لم يكن ضمن الحدود البريطانية.
عقد الاجتماع الرسمي الأول بين اللجنتين في 11 فبراير 1902م, وأتفق الجانبان بأن العمل يجب أن يبدأ من الشرق إلى قعطبة. ذكر العقيد عبد الوهاب في تقريره بأن الاجتماع كان ودياً للغاية ربما كان ذلك بسبب اقتراح الأتراك بأن أكون أنا رئيس اللجنة. في الاجتماع قال الأتراك بأن اختصاصهم هو تحديد الحدود بين منطقة تعز ومناطق القبائل التسع التي تقع ضمن المحميات البريطانية. لم يكن ذلك مطابقاً للهدف البريطاني الذي يسعى لتسوية الحدود الشمالية الغربية للمحميات البريطانية في الجنوب العربي. وفي الاجتماع الثاني الذي عقد في 3 مارس 1902م, لم تُناقش أشياء كثيرة, وبعدها بيومين عقد اجتماع أخر وفيه قدم العقيد عبد الوهاب مجموعة من الوثائق وعددها 30 وثيقة, منها 21 وثيقة تاريخية والباقي عبارة عن حسابات سنوية. وبذلك أصبحت هذه الوثائق أساس المُطالبات البريطانية في المناطق المُتنازع عليها.
وأستند الأتراك على الفصل في عدة مواقع يطالب بها عبد الوهاب, لاسيما على جبل جحاف. و عقد الاجتماع الرابع في 8 مارس 1902م, وأخر بعد ذلك بأسبوع. ونتيجة للمطالبات البريطانية, تصلب الموقف التركي إلى حد كبير, لدرجة أن الأتراك لم يتمكنوا من الاتفاق حتى على أي من القبائل التسع تقع تحت الحماية البريطانية. في نهاية فبراير من نفس العام حذر اللواء ميتلاند حكومة الهند بأن أمامنا مشاكل عديدة, حتى أن الاجتماع الرسمي القادم لن يكون إلا في نوفمبر القادم. وضلت اللجنة البريطانية تبرح مكانها في الضالع للاستفادة من المناخ الجيد بالمُقارنة ما كان المناخ عليه في عدن. وكانت أعمال اللجنة المشتركة على ثلاث مراحل مُنفصلة لكل قسم من الحدود, وسيعقب المسح المشترك للمنطقة الحدودية المرجحة التوصل إلى أتفاق سياسي على أي من القبائل تتبع الجهة الأخرى من الحدود. وفي النهاية سيتم ترسيم مشترك للحدود من خلال وضع العلامات الحدودية.
وفي فصل الصيف لم يكن هُناك الكثير من العمل غير التعرف على التضاريس, وكان القليل من عملية المسح ممكنة وذلك لعدم معرفة الحدود أين من المحتمل أن تكون. ومن جانبه لم يكن العقيد عبد الوهاب قادراً أن يؤكد للواء ميتلاند عن أنه يعلم تماماً حدود أمير المنطقة حتى 9 إبريل 1902م. ونظراً للموقف التركي المتصلب, عمل اللواء ميتلاند على مضاعفة عدد القوة المرافقة للجنة إلى 180 رجل من المشاة و 22 من قوة المشاة الخيالة وعمل خطط للطوارئ. وفي نهاية يوليو من نفس العام وفي اجتماع غير رسمي دُعي الأتراك للبدء في ترسيم الحدود للقطاع الشمالي الشرقي حول بيحان, تاركين الضالع القطاع الأكثر جدلاً لوقت أخر. رفض الأتراك المقترح قائلين بأنه لم تُخول للجنة أية صلاحيات لترسيم الحدود للقطاع الشمالي الشرقي من البلاد.
وفي اليوم التالي أبلغ الأتراك العقيد عبد الوهاب بأنهم لا يعترفون بيافع وهي أكبر قبيلة في الشمال الشرقي للبلاد بأنها من ضمن قائمة مناطق المحميات التسع والتي تقع تحت السيطرة البريطانية. وفي نهاية سبتمبر أستلم العقيد عبد الوهاب برقية من وزير الدولة للهند يخبره فيها بأن الأتراك قد أمروا قواتهم بإخلاء مواقعهم في المنطقة المتنازع عليها و أن يافع هي من ضمن القبائل التسع الواقعة تحت الحماية البريطانية التي كانت ضمن القائمة التركية. والأهم من ذلك بأن الأتراك على استعداد لبدء ترسيم الحدود حتى وادي بنا....
في العدد القادم سوف أواصل معكم عن ما تم التوصل إليه من خلال المفاوضات بين الطرفين البريطاني والتركي, وهل عمل الأتراك على ما جاء في البرقية التي أستلمها العقيد عبد الوهاب من اللواء ميتلاند, هذا ما سنعرفه في الأسبوع القادم بإذن الله ....
العقيد عبد الوهاب رئيس لجنة عدن لترسيم الحدود
خريطة نادرة توضح مناطق المحميات الشرقية والغربية
صورة نادرة لمجموعة من أبناء الضالع مع ضابط بريطاني قديماً
أحد الجنود التابعين للقوات الجوية البريطانية متمطياً الجمل على خط تماس الحدود بين اليمن ومحمية عدن البريطانية
مخيم لجنة ترسيم الحدود في الضالع عام 1902م
أحدى قرى العبدلي عام 1902م