بقلم / وليد خليل سيف
عندما نكتب عن أحدى الشخصيات الهامة المشهورة التي تركت بصمات في التاريخ وصنعت مجدآ بما قدمته من أعمال راقية أستفاد كثيرون منها وبقت مرجعآ أساسيآ لكل الباحثين والمهتمين والدارسين , فلنا أن نعود الى البداية والنشأة والعوامل التي ساعدت في فتح الأبواب ومهدت لأنطلاق وبروز تلك الأبداعات فكرية كانت أو ثقافية أو فنية أو علمية لترى النور وتصل الى أكبر رقعة ممكنة في عالمنا الواسع , ومن هؤلاء الرجال اللذين كان لهم دورآ في وضع أسس صحيحة لفتح الطريق لكل المبدعين في المجالات الثقافية والفنية خاصة وبقى رمزآ يحتذى به في وطننا العربي الكبير هو أبو الأقتصاد المصري ( محمد طلعت حرب باشا من مواليد 1867م وتوفي 1941م ) والذي كان يعتبر من أعلام الأقتصاد في العصر الحديث في مصر وقام بتأسيس بنك مصر عام 1920م والذي ساهم في أنشاء العديد من الشركات أهمها شركة مصر للتمثيل والسينما عام 1925م فقد كان ( طلعت حرب ) يؤمن بأن تجديد الأقتصاد في بلد زراعي متخلف لن يتم الا اذا أزدهرت الثقافة وأستفادت العقول بالأفكار الحديثة والثقافات الرفيعة ومنها السينما والمسرح والموسيقى وخلافه وآمن بأن الفنون والثقافة أستثمار كبير ولابد من دعمهما لنشر الوعي بين الناس , وكانت أيامه تلك بدايات القرن العشرين أنطلاقة العديدين من المبدعين في الموسيقى والغناء والمسرح وبعدها السينما وقد أخترت مبدعآ يعد واحدآ من أهم المدارس الفنية وعميدآ للكوميديا في الشرق نستعرض أعماله ونتحدث عن حياته هو ( نجيب الريحاني ) :
إلياس نجيب الريحاني ( 1889 - 1949م ) المشهور بنجيب الريحاني ولد لأب من أصل عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية . نشأ في القاهرة ( في منطقة باب الشعرية ) فعاشر الطبقة الشعبية البسيطة والفقيرة . كان طفلاً انطوائياً وخجولاً في المدرسة الابتدائية التي لغتها الرسمية الفرنسية مما أتاح له فهم هذه اللغة وتطويعها لعقليته الصغيرة وانه سيكون ذا شأن في مضمار الفن المسرحي وبعد ذلك السينمائي ، وفي أثناء تعليمه ظهرت عليه بعض الملامح الساخرة وتأثر بوالدته وأخذ منها الكثير فهي كانت ساخرة ايضاً من تلك الأوضاع في ذلك الوقت . .
كان ثائراً وفيلسوفاً ساخرا لا تخلو مسرحياته وأفلامه من بعض الأفكار الاجتماعية والسياسية الناقدة التي فيها كوميديا صارخة من المنطلق ( شر البلية ما يضحك ) . انجذب نجيب الريحاني للمسرح وهو صغير واشترك في نصوص من المسرح الفرنسي مع صديقه عزيز عيد حينما التحق موظفاً بالبنك الزراعي 1906م وعملا معاً في أدوار صغيرة بعروض الفرق الفرنسية الزائرة، وفي عام 1907م انضم لفرقة عزيز عيد التي كونها ولكنه لم يستمر بها وفصل من البنك لعدم انتظامه في العمل .
عين بعد ذلك بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد عام 1910م وفصل منها بسبب مغامرة عاطفية . .
نجيب الريحاني الضاحك الباكي ( عمدة كوميديانات ) الشرق الأوسط ، تقلب في الوظائف ولكنه فضل الإقامة في القاهرة أخيراً ليكون قريباً من الأنشطة المسرحية ، وفي عام 1914م التحق بفرقة جورج ابيض ولكن وجده لا يصلح للتمثيل فاستغنى عنه ورجع مرة أخرى إلى فرقة عزيز عيد في يونيو 1915م ولم يستمر طويلاً . .
كان معتزاً بشخصيته كفنان وتجلت عبقريته في بساطته وتلقائيته لأنه كان صادقا في تجسيد شخصيات مسرحياته وأفلامه فيما بعد النابعة من بيئته الشعبية القريبة منه منذ الطفولة والتي لم يتخلّ عنها قط . .
أستمر في تقديم الأعمال المسرحية الاستعراضية الغنائية حتى انتهاء ثورة 1919م ، فتوجه إلى لون أرقى وهو الاوبريت لتوفر عناصر الدراما من قصة وشخصيات وأحداث مترابطة ومساحة للكوميديا، وكانت بدايته (العشرة الطيبة) التي قدمها عام 1920م اقتباس محمد تيمور وتلحين سيد درويش . .
في عامي 1923 - 1924م كتب مع صديق عمره وزميله بديع خيري اوبريتات اعتمدت معظمها على قصص (الف ليلة وليلة) مثل : الليالي الملاح ، البرنسيس ، الشاطر حسن ، أيام العز ، الفلوس ، لوكنت ملك ، وأسند دور البطولة النسائية لزوجته الراقصة السورية بديعة مصابني التي أنجبت له ابنة واحدة . .
في الفترة ( 1926 - 1931م ) حاول أن ينافس عميد المسرح العربي يوسف وهبي بتقديم اللون ( الميلودرامي ) ليؤكد أنه قادر على أداء ألوان جادة غير الكوميدي فقدم ( المتمردة ثم موفانا ) عام 1929م ولكن الجمهور لم يتقبل الريحاني في هذا الاتجاه الميلودرامي الذي كان وقتها نجماً للكوميديا ومتألقاً فيها فقدم بعد ذلك هزليات غنائية استعراضية واشتهر بشخصية كشكش بيه ، ومن مسرحياته في تلك الفترة حتى 1931 : مملكة الحب ، يوم القيامة ، آه من النسوان ، ياسمينة ، نجمة الصبح اتبحبح ، مصر باريس نيويورك ، أموت في كده ، عباسية .
وتعتبر الأعوام 1932 حتى 1949م هي مرحلة النضج الفني لـ ( سي نجيب الريحاني ) كما كان يدعى وأتى بشخصيات متنوعة من صميم المجتمع بقيت شخصيات اساسية في أعماله الفنية الراقية التي استمرت حتى وفاته في تقديم أعماله السينمائية والمسرحية وان كان قد اعتزل المسرح عام 1946م ، وقد ظهر الريحاني في تلك المرحلة كإنسان شريف نزيه متمسك بالقيم على درجة من الدهاء والثقافة ولكنه يائس مفلس وفقير وسيئ الحظ مؤمن بالقدر وخفيف الظل ساخر من الفساد وأوجه الزيف والخداع والمظهرية الجوفاء في المجتمع. .
من أهم مسرحياته التي شاركه فيها صديق عمره بديع خيري :-
- مسرحية الجنيه المصري - 1931م والتي كانت نقطة تحول في حياة الريحاني ككوميديا اجتماعية تناولت تأثير المال وكيف يفسد الضمائر وينتهك الأخلاق والمبادئ .
.
- الدنيا لم تضحك 1934م . . .
- الستات مايعرفوش يكدبوا ، وحكم قراقوش ، وقسمتي عام 1936م .
وفي هذه المسرحيات يقدم شخصيات (بندق ابو غزالة) الذي يسخر من قيادات الدولة المتخلفة في حكم قراقوش ، ثم (تحسين) المدرس البائس في مسرحية قسمتي . وشخصية ( شحاتة ) الكاتب الداهية في إدارة الوقف في ( لوكنت حليوة ) 1938م . وشخصية (أنور) الموظف الصغير في مواجهة فتاة ثرية رعناء أفسدها التدليل في (الدلوعة) 1939م . .
ثم (سليمان) المحامي المفلس الباحث عن كنز في قصر تتحكم في شؤونه عجوز تركية تعيش في الماضي وذلك في مسرحية ( إلا خمسة) 1943م . ودور عباس في مسرحيته ( حسن ومرقص وكوهين ) 1945م التي تعرفنا عليها من خلال الممثل المسرحي المبدع عادل خيري ابن (بديع خيري) الذي أعاد تجسيد أدوار نجيب الريحاني في تلك المسرحيات ولعل أشهرها ( إلا خمسة ) و( حسن ومرقص وكوهين ) وكانت معه في تلك المسرحيات الممثلة المسرحية والسينمائية المبدعة ماري منيب ، وقد وافته المنية وهو في ربيع العمر رحمه الله. . . .
وقد لا نجد مسرحيات نشاهدها لنجيب الريحاني لأن تلك الفترة لم تكن تنقل المسرحيات لعدم وجود التلفزيون إلا أنه ترك مكتبة سينمائية قد لا تكون ضخمة مثل فنانين آخرين صنعوا أفلاماً عديدة ، ولكن نجيب الريحاني بالكيفية التي صنعها للسينما في أفلامه يعد مدرسة كثّف فيها الخط الكوميدي الانتقادي الراقي الهادف ، وخفف من الاسلوب الهزلي الذي لا يخدم غاياته ، وخصوصاً في المرحلة الأخيرة من حياته ، أما عدد أعماله السينمائية فقد كانت بحدود العشرة أفلام وهي :
- صاحب السعادة ، كشكش بيه 1934م
- حوادث كشكش بيه / ياقوت أفندي 1934م .
- سلامته عايز يتجوز 1936م .
-سلامة في خير 1937م .
- أبو حلموس / لعبة الست / سي عمر 1941م .
- أحمر شفايف / غزل البنات 1949م .
ويعد فيلمه الاخير غزل البنات من أجمل أفلامه التي شاركه فيها نخبة من نجوم مصر أمثال : يوسف بك وهبي وأنور وجدي وليلى مراد ومحمود المليجي وفريد شوقي والموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب بموسيقاه وألحانه وأغنيته ( عاشق الروح ) .
ملك كوميديا الشرق والوطن العربي بلا منازع نجيب الريحاني صنع مجده بأسلوب متميز نابع من البساطة ومعاناة الإنسان في كل مكان وزمان، وهو العاشق خفيف الظل صاحب القيم والأخلاق الحميدة الساخر من الطبقات المتعالية والفاسدة ، وهو الفقير المحتفظ بكرامته والمعتز بنفسه الباكي الضاحك كشكش بيه فقد ظهر ايامه ومن بعده تلاميد بنفس الاتجاه الكوميدي في المسرح والسينما ، ومنهم من حذا حذوه وآخرون ظهروا وبرزوا كنجوم كوميديا استطاعوا أن يتميزوا كل بأدائه وأسلوبه الفني في أدوار سينمائية أو مسرحية أو كسنيد للبطل كما نسميهم يضفون على الفيلم السينمائي البهجة والسرور حتى صاروا مع مرور الزمن وبعد عدة أفلام نجومآ عرفها فيهم الجمهور السينمائي في أدوار البطولة المطلقة أمثال : فؤاد المهندس ، إسماعيل ياسين ، عبد السلام النابلسي ، شويكار , عبد المنعم مدبولي ، عبد المنعم ابراهيم ، عادل إمام ، ماري منيب , حسن فايق , عبدالفتاح القصري , زينات صدقي , رياض القصبجي وغيرهم العديدين.
أما اسماعيل ياسين فقد كان صاروخاً كوميدياً متميزا هو الآخر ونجم شباك عمل سلسلة أفلام في الخمسينات والستينات ، كما كان هناك الممثل والمخرج والمنتج النجم أنور وجدي الذي قدم أفلامآ ذات طابع كوميدي في الأربعينات حتى منتصف الخمسينات. ولا ننسى أن نذكر المخرج المتميز فطين عبدالوهاب الذي قام بتقديم الأفلام الكوميدية بما نسميه ( كوميديا الموقف ) لنجومآ لا يلعبون أدوارآ كوميدية مثل يوسف وهبي وفريد شوقي ورشدي أباظة وشادية وأحمد مظهر ولبنى عبدالعزيز وحسين رياض وآخرين , وكذلك المخرج حسن الصيفي ومحمود ذوالفقار وغيرهم .
ولعل أبرز وأقرب نجم إلى نجيب الريحاني ولازمه في العامين الأخيرين من حياته هو الفنان الممثل المسرحي السينمائي فؤاد المهندس الذي تعلم منه الكثير وأصبح سفير الكوميديا العربية حامل لواء الفكاهة الاجتماعية في عقد الستينات من القرن الماضي ، فقد سار المهندس على درب أستاذه الأول نجيب الريحاني حيث قال له بعد أن شاهده من خلال ملازمته له في العامين الأخيرين من حياته : ( أنا أثق تماماً في قدراتك وموهبتك ومقتنع بأنك ستكون خليفتي ولكن يجب أن يكون لك شخصيتك المستقلة وأداؤك المختلف .. كن رجلاً ولا تتبعني ( !
وظهر مع المهندس في تلك الفترة نجوم للكوميديا مثل عبدالمنعم مدبولي الذي شكل معه ثنائياً لعدة أعمال فنية في المسرح والسينما ، وبرز الفنان عادل إمام بعد ذلك مع فؤاد المهندس ، كما ظهر نجوم آخرون كثلاثي أضواء المسرح سمير غانم وجوج سيدهم والضيف أحمد وكذلك أمين الهنيدي ومحمد عوض وغيرهم . وفي مرحلة السبعينات والثمانينات ظهر نجوم عديدين في الكوميديا نذكر على سبيل المثال سعيد صالح ومحمد صبحي وغيرهم وكان على رأس القائمة آنذاك ( عادل إمام ) والذي حمل الراية وأستمر حتى يومنا في تقديم الأعمال الفنية الراقية وظهر فنانين عديدين في الكوميديا هم أمتداد لمدرسة نجيب الريحاني التي فتحت الطريق للأجيال من بعدها ، وان كان في الحقبة الأخيرة منذ الثمانينات وحتى الآن قد تراجع مستوى تطور وتقدم الأنتاج السينمائي مقارنة بالسينما الهندية والتي أرتقت للمستوى العالمي والتي كانت توازيها فيما مضى في الأنتاج ورقعة الأنتشار , وقد تكون الأسباب سياسية وأقتصادية وأجتماعية وسؤ ادارة هي التي أثرت في مسار السينما والفنون الأخرى . وقد عرفت بلدانآ عربية عديدة أفلام الريحاني وغيره منذ بدأت السينما في مصر أنتاجها وذلك من خلال دور العرض السينمائي الذي بدأ مبكرآ ( منذ الثلاثينات من القرن الماضي ) في دول مثل عدن , الكويت , لبنان , سوريا , السودان , دول المغرب العربي وغيرها مما ساعد على نشر تلك الثقافة الراقية في ذلك الوقت .
وما زلنا نشاهد ونستمتع حتى يومنا بتلك الأعمال التي أثرت مكتبتنا العربية السينمائية والمسرحية بين الحين والآخر وكمرجع هام للمهتمين والدارسين والباحثين في الوطن العربي لأرقى فن جسده لنا شخصية صنعت كوميديا هادفة وفلسفة في الحياة تعالج قضايا إنسانية تحمل مبادئ وقيمآ هي مدرسة ( نجيب الريحاني ) .
[email protected]