وتعايش مع رموزها وتياراتها المختلفة.. وباختصار فالمرشدي.. الانسان.. الموقف.. والفنان الجميل والمطرب الأصيل.. شخص قلما يجود بمثله الزمان.. وقليل من يمتلك مثل مايمتلك هو من تجارب ثرية في أكثر من مجال.. لهذا كان لصحيفة الجمهورية هذا السبق.. الاقتراب من مخزون هذا الفنان, وذاكرة هذا الانسان الثري بالمعرفة.. وبالجمال والفن الجميل, وبكل عذابات الحياة وسرورها.. وفي هذه المحطات ـ عزيزي القارئ ـ والتي سهل رحلتنا إليها الأستاذمحمد علي سعد رئيس التحريرـ نرحل معاً ولنقف مع هذا الفنان في كل وقفة لنروي عطش فضولنا المعرفي عن حياة هذا الانسان.. ومانحب أن نعرفه عنه وعن العصر الذي عاشه ونغترف من نبع نهره المتدفق بعذوبة وجمال الحياة وعذاباتها وبعذوبة الفن الجميل والطرب الأصيل أيضاً, فإلى منابع الحلقة الأولى من هذا الحوار الجميل:
يقول أبو علي: لن يكون الحديث عن الطفولة طويلاً.. أنا من مواليد 4 جماد الثانية 1348هـ 6 نوفمبر 1929م في مدينة الشيخ عثمان التي كانت حينئذ تابعة لسلطة مستعمرة عدن البريطانية.. لقد كانت طفولة سعيدة ولاسيما بوجود أمي, صومالية الأصل.. واسمها «عورلا عبدي» وفرعها الصومالي- كما يقال- عريق وأصيل إذ أنها من قبيلة يقال إن جذورها عربية وتدعى مجيرتين, لم تعلمنا أمي- أنا وأخوتي- اللغة الصومالية, حتى إذا تحدثت إليها نساء أو رجال من الصومال ترد عليهم بلغة مختلطة من العربية والصومالية.. أخبرتني أنها جاءت إلى عدن طفلة, وعندما كبرت تزوجت من رجل يدعى محمد حسين مسلم هندي الأصل- وكان كاتب عرض حالات معروفاً في مدينة الشيخ عثمان, أنجبت له بنتين وولداً, وطلقت منه, ثم تزوجت من أبي وهو من منطقة معافر”الشويفة” قال إنه ترك قريته هرباً من عذاب الإمامة مخلفاً وراءه زوجته وابنته «نور» وفي عدن جند «سخرة» في الجيش التركي, وقد يكون مجيئه في أثناء الحرب العظمى (1914-1918) والتي سميت فيما بعد بالحرب العالمية الأولى, في أثناء ماكان الترك يحتلون«لحج» وماحواليها حتى مدينة الشيخ عثمان أما بعد جلاء الأتراك من المنطقة فقد تنقل كعامل في أكثر من مكان وفي الأخير استقر في شركة الملح الهندية المقامة في «الحسوة» ورقي بعد ذلك إلى منصب رئيس مجموعة من العمال بلقب «مقدم».. لا أذكر على وجه الدقة السن التي دخلت بها المعلامة «كتاب» الفقيه أحمد الجبلي, وهذا ماأذكره مما يضاف إلى اسمه, وكان مقرها في نفس الحارة التي أسكنها والمسماة حافة القحم «في مدينة الشيخ عثمان» وكان متشدداً حازماً في التعليم ولما ختمت القرآن الكريم, وتماشياً مع العادة المتبعة, أقام لي أبي احتفالاً بهذه المناسبة, كان يقال له الزينة إذ يؤتى بمداحين وبيارق ويقوم المداحون بإنشاد الأناشيد الصوفية المعتادة لمثل ذلك الاحتفال, ويلبس المحتفى به ملابس الرجال من: مشدة «عمامة» وجاكيت «سترة» وفوطة «ازار» ويتمنطق بالسيف ويصطف زملاء المحتفى به عن يمينه وعن شماله ومعهم بعض الناس الكبار في السن, ويتجهون سيراً حتى يصلوا إلى مقام ولي الله «الهاشمي» والعودة إلى المنزل.
المدرسة والأصدقاء
بدأت أعرف نفسي حين دخلت المدرسة الابتدائية الحكومية في الشيخ عثمان, في الصف الأول منها, وكان مدرسنا يدعى أفضل خان «هندي الأصل» وكان خبيراً في تدريس الأطفال, وفي هذا الصف تعرفت على زملائي الذين أصبحوا أصدقائي عندما كبرت: محمد سعيد مسواط, عثمان عبده محمد, سعد قائد, عبدالرزاق معتوق, وفي الصف الثاني والثالث كان مدرسانا محمد أحمد يابلي وسعيد علي فرج وفي الصف الرابع والأخير من المرحلة الابتدائية كان مدرسنا المرح الأستاذ أحمد حسن حنبلة يعاونه مدير المدرسة المربي الفاضل محمد أحمد الباقر, وفي كل صفوف المرحلة الابتدائية كان محمد سعيد مسواط, لنبوغه يحتل على الدوام المركز الأول أما بقية المراكز إلى السبعة فقد كنا نتناوبها نحن الثلاثة مع ثلاثة آخرين, لا أذكر أسماءهم.
أجمل أيام العمر
هذه الفترة تعد من أجمل أيام عمري على الإطلاق, فقد كنت مغموراً بعطف أمي وحنانها فكل طلباتي كانت مستجابة ولاأتجشم مشقة البحث عن النقود لشراء طلباتي المتنوعة وكانت أكثر تلك الطلبات تتعلق بشئون المدرسة ولوازمها, وكان فيض حنانها هو المصباح الذي أنار لي حياتي في أثناء كل تلك الفترة, ولاسيما لأنني كنت أصغر أبنائها, وكان إخوتي من أمي يعيشون معنا, ولم أكن أشعر بقسوة الحياة ومتاعبها, كانت أمي تتحمل المتاعب وتوفر لي ماأطلب من عملها المتمثل في بيع وشراء الأغنام وبيع اللبن والدجاج والبيض وأشياء أخرى لكي أواصل الدراسة وأصبح يوماً «كاتباً» في أية إدارة حكومية.
بين حلم الأم وحنانها
وكانت وظيفة الكاتب عصرئذ تعتبر من الوظائف التي لها مقامها الأول في المجتمع حتى كان من يطلب الزواج من فتاة يسأل أهلها عنه إن كان كاتباً أو غير ذلك.. وكنت ألمس هذه الأمنية لدى أمي بكل وضوح عندما ترهف السمع وأنا أراجع عمل البيت المدرسي على ضوء «الفانوس» أو «النوارة» إذ لم يكن للكهرباء من وجود في الثلاثينيات في الشيخ عثمان لسياسة الادارة البريطانية تجاه هذه المدينة المسماة ضاحية.. ماأريد, وعندما كبرت عرفت أن هذه المزايا الموجودة عند أمي هي موجودة أيضاً لدى المرأة الصومالية في كل مكان.. فهي لاتقف مكتوفة اليدين إزاء عجز زوجها المادي في مواجهة مسئولية الأسرة من كل الوجوه.. لقد كان أبي بأجره اليومي غير قادر على تغطية مصاريف الأسرة المكونة من ستة أشخاص ناهيك عن لوازمه الشخصية من مثل القات وتوابعه كل يوم, ذلك لضرورتها في نظره, وكان كالآخرين يعتقد بأن القات يعطيه شحنة من النشاط المتجدد ويساعده على أداء عمله الشاق وسيره على القدمين حافياً إلى مقر عمله ثم العودة تحت حرارة شمس لاتطاق ولاترحم.
شبح أحمد ياجناه
وفي معظم الأيام كنت أحمل له الغداء لأن عمله يمتد أحياناً إلى مابعد العصر أو المغرب.. وذات يوم وصلت إليه بالغداء فقال: أعطه ذلك الرجل, وكان جالساً في الظل وسألته من هو؟ فنهرني وقال: اعطه وكفى, وقام الرجل فالتهم الغداء بأكمله, أخذت الأطباق ومشيت وتبعني أبي وهمس في أذني قائلاً: ألا تدري ياأهبل من هذا؟ إنه «أحمد ياجناه» وتساءلت من هو أحمد ياجناه؟ قال: اسكت ياولد امش.. وفي البيت «بافهمك» وفي المساء فهمت منه إنه لقب أحمد بن الإمام يحيى حميد الدين, وإن الجن مسخرة لخدمته, ويطيرون به إلى كل مكان يريد ليتعرف بنفسه ماذا يقول رعاياه عنه وأبي منهم, وكان من حظ الرجل قريب الشبه بأحمد ياجناه أن يريحه أبي عن العمل ويقوم بعمله نيابة عنه, ويحصل هو على الأجرة, ويأكل الغداء مدة أيام عديدة.
بداية الأحزان
وذات يوم وأنا في المرحلة الابتدائية الأخيرة, في الصف الرابع عدت من المدرسة ظهراً إلى البيت, ولكن ماإن اقتربت منه حتى رأيت بعض الأقارب والجيران جالسين أمام البيت واجمين والحزن يطل من عيونهم, كنت سعيداً غير عابئ بالحياة ومشاكلها مادام أن شخصاً آخر, أمي, كان يحملها عني, ولكن الصوت الذي كنت أطلقه مترنماً بأحد الألحان, احتبس في حلقي وأنا أرى الناس يشكلون حلقات متعددة, راعني شعور خفي يطفح بالحزن وأنا أمد خطواتي نحو القوم مندهشاً..
وقامت جماعة منهم وانتحت بي جانباً وأخذ أحدهم يمسح على رأسي برفق وحنان وآخر يأخذ من يدي حقيبتي المدرسية وأنا مندهش من كل تلك التصرفات لكن أعقل الجماعة بدد تلك الدهشة حين قذف في وجهي بقنبلة هزت كياني, وبقيت آثارها في نفسي مدة طويلة عندما قال: البقاء لله ياابني وكل انسان مصيره الموت, وأدركت أن أمي قد لحقت بربها لأنها كانت تعاني منذ فترة ألماً حاداً في ساقها.. وتسرب الظلام إلى عيني وسقطت على الأرض فاقد الوعي..
وعندما فتحت عيني رأيت نعش أمي محمولاً على أعناق الرجال يخرج به من المنزل.. لقد بكيت بحرارة وحرقة وأنا أسير كالمذهول خلف نعشها إلى القبر, وعندما وارى القوم جسدها الطاهر, شعرت بوحشة الحياة وكدت أقذف بنفسي إلى جانبها لولا أن شدني بعضهم من يدي بعيداً عن قبرها.. حينئذ شعرت في قرارة نفسي بأني قد ضعت في هذه الدنيا, شعرت أيضاً بأن الحياة قد قست «علي» وأنا مازلت في تلك السن المبكرة, وأنها قد شرعت في الاعداد للمعارك معي, أتممت المرحلة الابتدائية وكنت من الأوائل كما أشرت وكان لدى الحكومة أو ادارة المعارف البريطانية مدرسة متوسطة تسمى«ريسدنسي»- RESIDENCY SCHOOL وكان مقرها هو المبنى الذي فيه المتحف العسكري حالياً في مدينة كريتر تستقبل المختارين من الفائزين الأوائل في المدارس الابتدائية الأربع في المستعمر وهي«ابتدائية مدينة عدن»«كريتر» وابتدائيات: الشيخ عثمان, والمعلا, والتواهي, ووجدت نفسي بين الذين لم يقبلوا في تلك المدرسة بسبب كبر السن” وقبل أصدقائي الذين ذكرتهم وغيرهم.. كنا جميعاً في سن متقارب بل كان بينهم من يكبرني, وكان عندنا في الصف 24 والمقبولون خمسة والبقية يرمون في الشارع, وقس على ذلك نفس الاجراء في الثلاث المناطق الأخرى, إلا أن الوساطات والمحسوبيات كان لها دورها في قبول البعض بصرف النظر عن مستواهم التحصيلي.
لم نكن ندرك إبان ئذ, مرامي السياسة الاستعمارية في التعليم هذا مع أنه قد مضى على حكم الادارة البريطانية لعدن مايقرب من مائة عام وكان الأجانب من «الهنود» غير المسلمين على وجه الخصوص يحتلون الوظائف العالية في البلد ويتحكمون في مصائر أبناء عدن من العرب الذين كان أكثرهم من الكتبة الصغار أو من المدرسين وغالبيتهم في المدارس الابتدائية باستثناء قلة قليلة لاتذكر ساعدتهم ظروف آبائهم المادية على مواصلة التعليم في المدارس التجارية وحتى المدرسة الحكومية المتوسطة, فقد كان الطالب يتخرج منها ليكون كاتباً صغيراً أو مدرساً ابتدائياً لقد كان هذا التجهيل المتعمد في التعليم المحدود هو السبب الذي أطال حكم الادارة البريطانية لعدن مدة طالت أكثر من قرن وثلث, وجعل الأجانب يهيمنون على مقدرات الحياة في المستعمرة عندما كان المستعمر يقذف إلى الشارع بـ80% من الطلاب الفقراء من أبناء عدن.. ولاأكتم القارئ العزيز أنني صعقت في ذلك الحين من نتيجة عدم القبول في المدرسة الحكومية برغم تفوقي وشعرت بالحزن يجثم فوق صدري وأنا أجد نفسي مطروداً في الشارع, ولاسيما بعد أن فقدت الأرضية التي كنت أقف عليها في الحياة ولكن بدد حزني وجود المدرسة التبشيرية في الشيخ عثمان وكانت تسمى KEITHFALCONR MISSION SCHOOL ولهذه المدرسة الفضل الكبير في استيعاب الطلبة الفقراء المطرودين من المدرسة الحكومية وغيرهم.. وعلى ذكر هذه المدرسة التبشيرية ضمتني جلسة بالأستاذ حسين علي الحبيشي المستشار القانوني الأسبق للدولة اليمنية في صنعاء, وتذكرناها فقال: لولا هذه المدرسة ياعزيزي محمد لكنت وزملائي اليوم «نبيع باجية».
خيار رعي الكلاب وبين الخضار والفواكه
دخلت هذه المدرسة إلا أن الحياة, كما قلت, كانت قد شرت في إعداد المعارك معي, وبعد مضي شهر واحد فحسب من التحاقنا بها أعلنت لنا بقرار هيئتها بإغلاقها إلى الأبد في نهاية العام الدراسي بسبب الافلاس الذي أصابها وعدم تدفق أموال معونتها من إرسالية سكوتلندا وكان تلك المفاجأة بالنسبة لي كارثة مروعة, فما أن بدأ الأمل يبزغ من سجف الضباب حتى غاب في خضمها من جديد, وحملت مصابي بين أضلعي وذهبت أضع الخبر بين يدي أبي وكلي تصميم وتحد على مواصلة الدراسة بعد الاغلاق مهما كلفني ذلك من متاعب حتى أحقق أمنيتي, وأمنية أمي بأن أكون كاتباً, أي «كراني» CLERK «بوصف زمان» أي كاتب موظف في ادارة حكومية.
وكان ذلك حلم كل طالب, كما يحلم طالب اليوم وقبله بأن يكون طبيباً أو مهندساً.. الخ.. وأجاب أبي.. يرحمه الله لاتحزن ياولدي فالمدير«حقنا» السيت حسين الهندي محتاج إلى ولد يرعى الطلاب «حقه» مقابل «ست عانات» في اليوم, وماأحوجنا إلى هذا المبلغ وأنت تدري بمسئوليتي العائلية تجاه إخوتك وأجري لايكاد يكفيهم فما رأيك؟ وغضبت طبعاً من كلام أبي, ولكني في ذات الوقت كنت أعلم بضيق حاله ومسئوليته وعدم قدرته على تسديد نفقات الدراسة في المدارس التجارية في «كريتر».. بعد إغلاق المدرسة التبشيرية في الشيخ عثمان, وانسحبت أجر قدمي بجهد جهيد كأنني أخوض في بركة من الطين, ولكني أخذت أروض نفسي على التصبر حتى نهاية العام, عسى أن تحدث معجزة ويلغى قرار إغلاق المدرسة التبشيرية إلى الأبد.. ومضى العام ولم تحدث المعجزة فعدت مرة أخرى إلى أبي أتدبر معه الأمر من جديد, ولكنه كرر لي نفس القول السابق وانصرفت اتدبر الأمر ولاسيما وقد امتلأت نفسي بالتحدي لمواصلة التعليم برغم الواقع المؤلم الذي كنت أعيشه, وبعد تفكير عميق استقرت الرغبة التي لامناص منها, في الالتحاق بالمدرسة التبشيرية في«كريتر» المسماة ST.JOSEPH’S HIGH SCHOOL والمعروفة على المستوى المحلي”مدرسة البادري” وقد تخرج منها الكثيرون من كبار الموظفين في عدن.. وعدت إلى أبي بعد وقت أعلمه بما استقر رأيي عليه برغم علمي بأنه لن يكون في مستطاعه دفع رسوم المدرسة, فضلاً عن الكتب والمواصلات.. الخ وقال: يابني هذا شأنك وقد أمنحك شيئاً يسيراً مما قد لايكفيك حتى للمواصلات.. وعدت من جديد أغوص في التفكير حتى أذني, ولم يتغلب اليأس في نفسي على الأمل.. وتوجهت على الفور إلى أحد الأصدقاء«الأخ محمد هزاع عراسي, وقد يكون الآن قد نسي بيد أن من خلقي ألا أنسى من يقدم لي خدمة في ظرف عصيب شرحت له مشكلتي كاملة, فلم يخذلني بل اشترى لي كل ماأحتاج إليه, من الكتب ثم تحدث إلى خاله عبدالله علي ثابت عراسي الذي أصبح عندما كبرت من أعز أصدقائي ليسمح لي بركوب سيارته التي كان يسوقها, وتنقل فجر كل يوم الفواكه والخضار من مدينة الشيخ عثمان إلى كريتر.
العلم ورحلات الموت
وكان لزاماً علي- وأنا الصبي الذي أصبح بعد وفاة أمه فقيراً معدماً ونخر الوهن جسمه من سوء التغذية- أن أنهض كل يوم في الساعة الثالثة صباحاً لألحق بالسيارة, وأركب فوق صناديق الخضار و«اتشعبط» بالصناديق حتى لاأسقط من أعلى السيارة, وأتعرض للبرد والريح تهب وتخترق عظام جسمي فأبقى أرتعش بعنف وتصطك أسناني من جراء ماأعاني ومن عدم وجود ملابس شتوية تبعث الدفء في جسدي النحيل.. وكنت كل يوم استقر على قمة «حمول» السيارة وأعترك مع صناديق الخضار كي أتجنب الموت فإن احتضنت الكتب وضممتها إلى صدري أشعر بشيء من الدفء ولكن أبقى في نفس الوقت عرضة للسقوط من على السيارة في أثناء سيرها ودورانها في الطريق, لأن الصناديق التي أجلس عليها ليست بالمقعد الآمن فهي تهتز عند كل منعطف, فاضطر إلى أن أضع الكتب بين فخذي وأمسك بيدي الصناديق وحبالها وأبقى مشدوداً حتى لايغلبني النعاس في أثناء هبوب الهواء في تلك الساعة المبكرة من ساعات الفجر الأولى.. ولم يكن الطريق البحري المؤدي إلى سينما 26 سبتمبر موجوداً وكان الطريق المستعمل هو القديم المؤدي إلى خور مكسر, مروراً بالسينما وباب (السلب) الذي يقع قبل بوابة(جبل الحديد) وحين تصل السيارة إلى العقبة على النحو القديم الضيق كانت تكاد تكون المصيبة العظمى، فاضطر أن امتد فوق الصناديق في أثناء مرورها في النفق الضيق كي لايصطدم رأسي بجدارها لعلو (الحمول) وضيق الممر، وكنت أحمد الله على النجاة بعد كل مرور وتهدأ نفسي حين أصل إلى مدينة كريتر وهي تغط في سبات عميق وقد أرهقني مجهود هذه المعارك، هذا ومعدتي تنهش أمعائي من الجوع فأتهالك علي مقعد طويل في المقهى الذي يقع أمام سوق الخضار(الآن حلت محله بقاله) وأضع كتبي تحت رأسي وأنام.. وفي السادسة صباحاً أشعر بيد عامل المقهى توقظني ليبدأ في ترتيب عمل المقهى، فأسحب قدمي إلى أحد المطاعم الشعبية، وأتناول فطوراً يتناسب مع ما أحمله في جيبي من نقود فول وروتي أو خمير وشاهي وأتجه بعدها إلى المدرسة، خالي الوفاض، وأكون أول من يحضر المدرسة وأذهب إلى صفي لأعاود النوم مرة أخرى حتى يحضر الطلبة لأخرج للعب الكرة وفي تلك الأيام كان يدير هذه المدرسة الأستاذ الجليل سعيد مدي وكان مدرسنا للغة الانجليزية في الصف الثاني استاذاً كريماً وضليعاً في اللغة لم أعد أذكر إلا الأول من اسمه جعفر.
كرة.. وعلم.. وفقر
وقبل أن يقرع جرس الدخول إلى المدرسة كنت ألعب مع بعض الطلبة في فناء المدرسة بكرة القدم، ولكم كنت (حريفاً) وماهراً في لعبها.. وكان الأستاذ عبده حزام، وهو أحد المدرسين، معجباً بلعبي بالكرة، وكان يأخذ دور الحكم بيننا وذات يوم كان يقف وسط الملعب وعلى رأسه الطربوش الذي لايفارقه، التقطت الكرة ورفستها بقوة فاتجهت صوب استاذنا عبده حزام وأطاحت بالطربوش من رأسه، وسقط الطربوش بالقرب من الكرة التي كان بعض اللاعبين من الطلبة حولها وبقي الطربوش بين أقدامهم، يرفس مع الكرة من قدم إلى أخرى بين اللاعبين وكان منظراً مضحكاً للمتفرجين، لكن الأستاذ لم يغضب وكانت شفاعتي الوحيدة لديه اعجابه الكبير بلعبي، فقد كان انساناً ودوداً ورحيماً بطلبته للغاية، وكانت الابتسامة لاتفارق شفتيه.. وفي فترة الاستراحة المدرسية كان الطلبة يخرجون بإنشراح من جو الدراسة حيث يتناولون المرطبات والمأكولات الشهية التي تزخر بها ساحة المدرسة إلا أنا فأخرج مطاطئ الرأس لخلو جيبي من النقود وأتسلل من بينهم خفية إلى أنابيب حمام المدرسة، أشرب مائها الساخن ثم أعود إلى الصف للمطالعة قبل دخول الطلبة، إلا في بعض الأيام إذا كان موجوداً صاحبي وأحد المعجبين بمهارتي في الكرة، الأخ/عبدالله معيط، الطالب في الصف الأول وكان من الميسورين لأن أباه كان صاحب بقالة في حي(الصباغين) في الشيخ عثمان، لاسيما إذا كان جيبه عامراً فإنه كان ينتظرني ويملأ بطني بكل مالذ وطاب لأنه الوحيد العارف بحالتي المادية.
أما في بعض أحيان أخرى فكنت إذا صادفته في الصباح وأنا في طريقي إلى أحد المطاعم الشعبية، فإنه يدعوني إلى الفطور معه ويخيرني في نوع الفطور الذي أريد فأقول(الفتة الموز) في(المخبازة) ولعمري ماكنت أعرف(المخبازة) إلا معه لأنها كانت وقتئذ مكلفة للفقير، ومازلت إلى يومنا هذا إذا كانت وجبة غدائي (فتة موز) أتذكره.. ومناسبة ذكر الأخ الشهم عبدالله معيط تدعوني لأحكي حكايته بعد أن كبرنا، وبعد أن لم أره سنوات عديدة بسبب ظروف الحيلة وبعد سكنه عني، وأنا قد أصبحت موظفاً ومطرباً مشهوراً، كما شاءت الظروف أيضاً، ففي احدى حفلاتي الترفيهية التي أحييتها أكثر من مرة للمسجونين في صباح عيد الفطر المبارك بدعوة من إدارة السجن، كان المسجونون يجلسون على الأرض وأنا والفرقة الموسيقية على الكراسي.. وأنا أغني وبصري نحو المسجونين وإذا بي الحظ أن واحداً منهم كان يتوارى خلف صاحبه الذي أمامه كي لا أعرفه، هكذا أحسست، ودفعني فضولي لمعرفة ذلك الشخص وتشاغلت بالنظر إلى آلة العود بعض الوقت وحولت بصري فجأة نحوه فعرفته.. وبعد أن أنهيت الأغنية أومأت إلى الأستاذ خليل محمد خليل، الموسيقي المعروف العامل مديراً للسجن آنذاك وقلت له هامساً راجياً مجيء الأخ عبدالله معيط إلي فقال: ماذا تريد منه، والسجن هو بيته الدائم، قلت: يا أستاذي هذا أخي، فناداه باسمه ودوى تصفيق المسجونين، وقمت من مقعدي استقبله بالأحضان، وأجلسته على كرسي بجانبي حتى نهاية الحفل، وانتحيت به جانباً وناولته عنوان بيتي ورقم تلفوني قائلاً: يا أخي شرفني بالزيارة لأرد لك ولو بعض الجميل، وكل ما تطلبه لتحسين حالك سينفذ على الفور، وأياً كان الطلب لن يساوي وقفة من وقفاتك الكريمة، وكانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي رأيته فيها، ولست أدري الآن إن كان حياً أو ميتاً، كان صبياً شهماً يعرف واجب الأخوة دون أن تسأله، كأنه من قبيلة مازن الذين قال فيهم أخو بني ذهل:
لايسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ماشاء برهانا
إن مناسبة ذكر الأخ عبدالله معيط لأوفيه حقه على شهامته في محنتي، حولتني من متابعة معاناة الدراسة في مدرسة (البادري) وها أنا أعود لأواصل بعد هذا الاستطراد.. ففي كل يوم بعد انتهاء وقت الدراسة في الظهيرة تبدأ معركة العودة إلى مدينة الشيخ عثمان، وغالباً لم تكن توجد في جيبي أجرة مواصلات العودة فأحمل كتبي وأسير في اتجاه العقبة main pass حافي القدمين تحت حرارة شمس تذيب الجلود، علني أجد سيارة عبارة فيرق قلب صاحبها ويلتقطني من الطريق الطويل، ولكن عدد السيارات وقتذاك كان قليلاً جداً ولاسيما السيارات الخاصة، وأواصل السير إلى أن أصل نقطة التفتيش في (باب السلب) وهناك أقف إلى جانب رجل الشرطة واستعطفه ليسهل لي مهمة العودة في أي سيارة عابرة، ويرق قلب الرجل ويركبني على أية سيارة تمر به على رغم صاحبها أحياناً، وأعود إلى البيت منهك القوى فأتناول الغداء المكون من (الرز والصانونة) بنفس مسدودة، أحاول أن أبحث عن قطعة سمك في الصانونة، وفي أكثر الأحيان لا أجدها وما أن تستقر حبات الأرز في معدتي حتى أهرع إلى ميدان كرة القدم لممارسة هذه اللعبة التي برعت فيها برغم نحافة جسمي، وكنت وصديق الصبا محمد صالح عراسي أحسن لاعبين في مدينة الشيخ عثمان، وكان كل اللاعبين المرموقين يتوسمون لنا مستقبلاً باهراً في كرة القدم.
لكن الرياضة وإن كانت تهمني جداً حتى أن لقب المرشدي قد لصق باسمي من شهرتي في الكرة بين أصدقائي وفي الوسط الكروي، إلا أن معركتي من أجل الدراسة ومواصلتها بالاعتماد على النفس، وقبول التحدي، في هذا الصدد كانت هي الأولى بين كل اهتماماتي، وكنت على اتفاق مع أبي الطيب، ومادمت قادراً على ذلك وكنت مقدراً لظروفه المادية التي توفر لي ولإخوتي من أمي المصاريف اليومية.. وكانت أختي الكبرى مريم التي أخذت مكانة أمي تجيد خياطة الملابس النسوية ومن دخلها نوفر الملابس البسيطة لي ولإخوتي.. وظللت على هذه الحال دونما أي تغيير في مشواري اليومي إلى مدرسة البادري أقاوم بضراوة قسوة الحياة وقد بلغت من التعب منتهاه وساءت صحتي وازداد نحولي فلم أستطع أن أنهي العام الدراسي فالتحقت بكتاب مجموعة كبيرة من أبناء الشيخ عثمان منهم من كانت لي بهم معرفة سابقة، وبقيت في هذا المكتب قرابة عامين كسبنا في أثنائها من الوالد صالح حسن تركي معرفة لا بأس بها في اللغة الانجليزية وهو بالمناسبة جد الموسيقي العزيز المرحوم اسكندر ثابت من جهة أمه، كان على كبر سنه شعلة من النشاط والحيوية، وصاحب لسان سليط كان يهوى الموسيقى: مؤلف أغانٍ ومغنياً وعازفاً على الكمان.
يتبع
الهوامش
1ـ السيت: بمعنى مستر بالانجليزية: أي سيد أو صاحب العمل.
2ـ باب السلب: المركز الرئيسي للشرطة وكان يطلق عليه بالانجليزية اسم BARRIER GATE مازالت المباني التي كان موقعه فيها قائمة حتى الآن وإن لم تعد مركز شرطة.