هما طريقان لا ثالث لهما ....
إما أن يختار الإنسان طريق الحرية والكرامة ،أو أن يختار طريق الذل والمهانة ..
ولكل طريق ضريبته ، ولكل اختيار ثمنه ..
فكما يدفع الأحرار فاتورة الحرية ، فإنَّ العبيد يدفعون فاتورة العبودية أضعافاً مضاعفة ..
ولكن أين فاتورة ، من فاتورة ؟
بعض النفوس الضعيفة يخيل إليها أن ضريبة الحرية باهظة لا تطاق..
فتختار الذل والمهانة هرباً من هذه التكاليف الثقال، فتعيش عيشة تافهة، رخيصة، مفزعة، قلقة، تخاف من ظلها، وتَفْرَّقُ من صداها .
للأسف الشديد لا يعلم أولئك - الأذلاء- أنَّهم يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة بألآف المرات!!!؟؟
إنهم يؤدون ضريبة الذل كاملة كاملة ...
يؤدونها من نفوسهم، ويؤدونها من أقدارهم، ويؤدونها من سمعتهم، ويؤدونها من اطمئنانهم، وكثيراً ما يؤدونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون !!
وإذا ما قلبنا صفحات التأريخ...لرأينا تجارب مريرة ونهايات مخزية لأولئك الذين تنكَّبوا طريق الحرية ، وآثروا طريق الذل ، والمهانة ، وذلك أنَّ الطاغية إذا ما شعر أنَّ مهمتهم قد انتهت ، وأنَّه غير محتاج لهم ..ينبذهم نبذ النواة .....فإذا هم رخيصون ،هيَّنون عند سادتهم الذين استخدموهم كالكلاب الذليلة ، وكانوا يلهثون في إثرهم طلباً لرضاهم ، بل ربما سفك دمائهم للتخلص منهم .
ورُغم كثرة العظات والتجارب لضحايا ضريبة الذل ....إلا أنَّنا لا نزال نشهد في كل يوم ضحية جديدة .
ضحية تؤدي ضريبة الذل كاملة، ضحية تخون الله والناس، وتضحي بالأمانة وبالكرامة، ضحية تلهث في إثر السادة، وتلهث في إثر المطمع والمطمح، وتلهث وراء الوعود والسراب ..... ثم تَهْوِي وتَنْزَوِي هنالك في السفح خَانِعَةً مَهِينَة، ينظر إليها الناس في شماتة، وينظر إليها السادة في احتقار ، ثم يُطْرَدُون كالكلاب بعد أن يضعوا أحمالهم، ويسلموا بضاعتهم..
وهكذا هو الحال مع الشعوب ....
الشعوب التي تستكثر دفع ثمن الحرية ، وتستسيغ طعم الذل ، وَتُشْفِق من تكاليف الكرامة ، وتذهب طواعية إلى حضيرة العبودية ...فإنها تظل تؤدي ضراااااائب الذل مرات ، ومرات !!!
تؤدي ضرائب لا تُقَاس إليها تكاليف الحرية، ولا تبلغ عُشْرَ مِعْشَارِها.
وقد ذكر القرآن الكريم نموذجاً لهذا الصنف من تلك الشعوب التي ظنت أنها اختارت سبيل السلامة ...فَجُبِنَتْ ، وخافت ، وخنعت ...فدفعت ثمن ذلك الذل أضعافاً مضاعفة !!!
فها هم بني إسرائيل يُقالُ لهم كما ذكر ربنا : ( ادخلوا عليهم الباب ، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون) .
طّلِبَ منهم أن يقوموة بجهد بسيط ( ادخلوا عليهم ) قوموا لمواجهتهم ونتيجة ذلك الجهد مضمونة ( فإنكم غالبون ) ستنتصرون عليهم
وتتحق لكم الحرية والكرامة...
إلا أنهم استكثروا فاتورة النصر ، واستساغوا فاتورة الذل ...
فقالوا لموسى كما ذكر ربنا سبحانه وتعالى:
يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ .
هذه الطائفة الذليلة ، الخانعة ، الجبانة التي أبت أن تدفع فاتورة الحرية السهلة ، والبسيطة ....
أدَّتْ ثمن هذا النكول عن تكاليف العزة ( أربعين سنة ) تتيه في الصحراء، تأكلها الرمال، وتذلها الغربة، وتشردها المخاوف....
وما كانت لتؤدي معشار هذا كله ثمناً للعزة والنصر في عالم الرجولة !!!
وهكذا تتضح الصورة ، وهكذا تٌجلى الحقائق ، وهكذا تستبين الطريق ...
إنه لابد من ضريبة تُؤدٌى ..
يؤديها الأفراد، وتؤديها الجماعات، وتؤديها الشعوب...
فإما أن تؤدى هذه الضريبة للعزة والكرامة والحرية...
وإما أن تؤدى للذلة والمهانة والعبودية.
والتجارب كلها تنطق بهذه الحقيقة التي لا مفر منها، ولا فكاك.
فإلى الذين يَفْرَقُونَ من تكاليف الحرية، إلى الذين يخشون عاقبة الكرامة، إلى الذين يمرِّغُون خدودهم تحت مواطئ الأقدام، إلى الذين يخونون أماناتهم، ويخونون كراماتهم، ويخونون إنسانيتهم، ويخونون التضحيات العظيمة التي بذلتها أمتهم لتتحرر وتتخلص ...
إلى هؤلاء جميعاً ...
انظروا في عبر التاريخ، وفي عبر الواقع القريب، والبعيد ، وتدبروا الأمثلة المتكررة التي تشهد بأن ضريبة الذل أفدح من ضريبة الكرامة وأن تكاليف الحرية أقل من تكاليف العبودية، وأن الذين يستعدون للموت تُوهَبُ لهم الحياة، وأن الذين لا يخشون الفقر يُرْزَقَونَ الكفاية، وأن الذين لا يَرْهَبُون الجاه والسلطان يَرْهَبُهم الجاه ، والسلطان.
رحم الله أمير الشعراء حينما قال :
ســلامٌ مــن صَبــا (بَرَدَى) أَرقُّ **ودمــعٌ لا يُكَفْكَــفُ يــا دِمَشْــق.
ومعـــذِرة اليَرَاعـــةِ والقــوافي **جـلالُ الـرُّزْءِ عـن وَصْـفٍ يَـدِقُّ.
فَفي القَتلى لِأَجيـــــــــالٍ حَياةٌ **وَفي الأَسرى فِدًى لَهُمُ وَعِتقُ.
وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمــراءِ بابٌ **بكُلِّ يَدٍ مُضَــــرَّجَةٍ يُدَقُّ.