بينما كنت معصَّباً ، وأضرب كفاً بكف ، وأتحرك في صالة المنزل جيئة وذهاباً..
نَظَرَتْ إليَّ جدتي - الطاعنة في السن - وهي مسجَّاة على فراشها الذي تلازمه لأكثر من عقد من الزمن .
نَظَرَتْ إليَّ متعجبة فقالت : يا بني ماذا أصابك ؟ وأي بلاء حل بك ؟
قلت لها أما تسمعين هؤلاء الذين ينوحون كالثكالى ، ويولولون كالمجانين ، على سقوط حكم عائلة الأسد ؟
قالت بلى ؟
قلت : أليست تلك التصرفات كفيلة بأنْ تجعل دم الحر يفور ؟ وأعصابه تحترق ؟
قالت : هوَّن على نفسك يا بُنيَّ ....
فتقدمت نحوها ، وجلست بالقرب منها ، وشعرت أنها في هذا الموقف أقوى ، وأعقل، وأحذق مني !!
قلت : خيراً يا جدتي .
قالت : أما سمعت المثل القائل أنَّ المصائب يجمعن المصابين
قلت لها : وكأنني لم أسمعه إلا هذه اللحظة !!
قالت يا بُنيَّ :
هؤلاء لا يبكون أسفاً على الأسد ، ولا ينوحون حزناً على ذهابه إلى مزبلة التاريخ.
قلت : وما الأمر إذاً ؟
قالت : هؤلاء يبكون على أنفسهم ....لأنَّ كلاً منهم يتحسس شعر رأسه ، وينتظر دوره ، ويعد الساعات... ساعة ساعة متوجَّساً من ( مقص الحلاق ) .
وهم اليوم مقتنعون أنَّ مرحلة من مراحل الزمن قد أظلت ، وأنَّ صفحة من صفحاته العفنة تُطوى ، وأنٌ فجراً جديداً قد بزغ نوره من عاصمة الخلافة الإسلامية ( دمشق ) ، وأنَّ شرارة الثورة لن تتوقف هناك .
قلت : عجباً لك جدتي ، يبدو أنَّ مكوثك على فراش المرض لأكثر من عقد من الزمن ، وملازمتك متابعة التلفاز ....قد اكسبك معرفة ، وفطنة ، وحذقاً .
لقد صدقتِ جدتي العزيزة ...
الآن أدركت سر هذه الهستيريا التي أصابت المرتجفين !!!
أنا أوافقك الرأي ، وبدأت استوعب ما تقولين ، والظاهر أنهم محقون في تخوفهم ..
فلقد حان الوقت لدفع الحساب ، وآن الآوان لتسديد فواتير الديون ، وجاءت اللحظة الأخيرة ليقتص المظلوم من ظالميه ، وأزفت ساعات غروب أنظمة البغي ، والجور .
رفعت جدتي صوتها المبحوح فقالت : أفهمت يا بُنيَّ ؟
قلت : بلى ، لقد فهمت حال هؤلاء.
ولكن ما بال حال أولئك ؟
قالت : تقصد من ؟
قلت : أولئك الذين يدَّعون أنهم مثقفو الأمة ، وأنَّهم طبقة تنوير المجتمع ، وأنَّهم رواد الإعلام ، وأٌنَّهم فطاحلة الصحافة .
قالت : تقصد أولئك الذين يتلقفون الفتات المتساقط من موائد اللئام كي يزيَّفون وعي الشعوب ، ويطبلون للطفاة ، ويزينون سوء أفعالهم ؟
قلت : أولئك أقصد .
قالت : أولئك قوم باعوا ضمائرهم ،وأماتوا قلوبهم ، ورهنوا قيمهم ومبادئهم ، وتحوَّلوا إلى أبواق يسبحون بحمد الطغاة والظلمة ، وينعقون بمجزاتهم الوهمية ، ويعملون على إثارة الفتن ، وبث سموم الفرقة ، ونشر الشائعات ، ويجتهدون في النيل من شرفاء الأمة ، والانتقاص من قدر الأحرار ، والتهوين من قيمة الثورة .
يا بُنيٌَ ..
أولئك هم شرار الخلق ، وأراذل القوم ، وسفلة البشر ، وحثالات المجتمع .
هم قوم يقتاتون على الكذب ، ويعتاشون من الفتات المتساقط من موائد اللئام .
إنهم أسوأ من الظالم نفسه ، لأنهم زبانيته التي تعينه على ظلمه ، وسوطه الذي يؤدَّب به رعيته ، وأعينه التي يبصر بها شعبه ، وأذرعه التي يوطد بها حكمه .
يا بني :
دعك من هؤلاء النائحين ، ولا تلتفت إلى أولئك الناعقين...
وجْه بصرك صوب الشام ...
لقد أظل زمن الحرية .