آخر تحديث :السبت-21 ديسمبر 2024-08:20م

عبدالعزيز المقالح من آخر الدهشة إلى أول الذكرى

الإثنين - 02 ديسمبر 2024 - الساعة 11:03 م
د. لمياء الكندي

بقلم: د. لمياء الكندي
- ارشيف الكاتب


من آخر الدهشة إلى أول الذكرى هذا ليس مجرد عنوان لقصيدة كتبها الراحل الدكتور عبدالعزيز المقالح، إنها لوحة مكتملة الحضور لدى القارئ الذي ألِف الدهشة والتمس بأحاسيسه مقامات الوجد وانفعالات التمني، وتصفح بهاء الكلمات والغوص في المعنى، كلما اهلت عليه من صفائح الشعر قصيدة ما يتغنى بها شاعرنا وقد اجاد موسقة الكلمات للتربع نشوى في مشاعر قارئها.

تبدوا المدن في قصائده حتى وان تغنى بأوجاع البلاد عنوانا للجمال وللذكرى المؤنسة، ويبدوا التاريخ حاضرا ببهاء ماضية حتى وان غطت عتمة الوقت على حاضرنا، فيسرد بالقصيدة أحلامه واحلامنا ويبدأ من خلالها مناجاته لله صانع الجمال بما حملته روحه من ايمان يسلم بقدرة الله وبهاء صنعه ويصيغها حروفا نشوى وملئ بما يمكن ان تنضح به روح الشاعر وقد انطق قصيدته جمالا وعرفانا بعظمة الخالق:


سبحان الله؟

لقد اعطاني الشعرَ

على طبقٍ مكتظٍ

بحليب الساعاتِ الأولى

من عمر الجسدِ الهش

وبصرني كيف أرى في وجهِ

سماءِ الدنيا

لغةً وقصائد،

علمني أن لا أقرأ بالعين

ولكن بالقلب،

وأن اتحسس آلام الأرض

واحزان البحر

بوجدانٍ صافٍ

خالٍ من إغواء الجسد

الفتان.

يبرز لنا الشاعر في هذه الأبيات المبهجة بالحياة تتمة الهية ملهمة للشاعر للكتابة بروح الكلمات والقراءة بعين القلب وبصيرة الوجدان الذي تفتحت زهراته على فصول التأمل الشعري في جمال هذا الكون، ورسالة الشاعر في الوقوف امام هذا الجمال، ليستلهم منه ومن فرادة صانعه أسارير الحياة بعيدا عن غوايتها التي تشرِدهُ عن رسالة السمو التي كُلف بها.


وإذا كانت عين شاعرنا قد رصدت لنا من خلال بوابات الشعر ولغته مواطن الجمال في الكون فأنها أيضا كانت ترصد وتسجل نماذج شعرية من معاناتنا الجمعية، ومن محيطنا البأس الذي قام بسلبنا ابسط حقوقنا في الحياة، فنراه يكتب عن صنعاء المدينة المسافرة في أروقة الحلم واشرعة الزمان ما يصدر لنا حالا وواقعاً عن مأساتها ففي قصيدته "صنعاء تحت قصف المجاعة"، يسوق لنا جزء يسير من معاناة هذه المدينة التي افرد لها كتابا من كتاباته البهية هو " كتاب صنعاء":

آه صنعاء

يا بيتنا وحديقتنا

هل شهدتِ زماناً كهذا

يخاف به الظلُ

من ظله،

والقصيدة من صوتها

وتفرُ الشوارع من بعضها؟!

زماناً تتلوى عقاربه

تتكسر تحت سياط المجاعةِ

والفتنةِ المُخجلة

وفي ذات القصيدة يطلق شاعرنا ما كمن في نفسه من ذاكرة المكان والتاريخ لصنعاء العامرة بالحياة لينفي عنها سكونها الكامن في ضريح البؤس فيكتب متسائلا ومستنكرا حالها:

ما هكذا هي صنعاء

تلك التي كان لابد منها

وإن أرهقت عاشقيها

وطال إليها السفر

*****

تحت قصف المجاعة

ترقدُ صنعاء مبعثرة

تتسول خبزا لأحفادها

وحفيداتِها

انه إذا فعل الحرب الملعونة التي كشرت انيابها استعدادا لوليمة البؤس الذي ينضج من معاناتنا هذه المعانة التي يرتقب شاعرنا من خلفها ظهور فتى الأحلام المتخفي في اكامها وجبالها ووهادها وهي تحضر حالها لولادة مرتقبة للأمنيات ليخبر فتاه بسر تاريخ صنعاء فيدعوه للنهوض

ياهذا اصعد

واستحضر معك التاريخ المتدلي

من ذروة ازمنةٍ غابرةٍ

وأساطير شفاهٍ ونهودٍ

أيقضها اللهب الحارق

تحت أباريق القهوة

4

في الساحة

عند بيوتٍ متآكلةِ الآجر،

وبقايا اكواخٍ باهتة

سوف ترى أطفالاً خرجوا

من ضوء اساطير مدينتهم

ليُعدوا لضيوفهم القهوةَ

والكعك

وسوف ترى "غيمان"

وقد جاع إلى الخبز المغموس

بزيتِ النعناع

وفي يدهِ زهرةُ بنٍ

يرتقها في عروة سيدةٍ

تمسح وجه الصبح

بمنديل براءتها

وهي تغني لفتى أحلامٍ

قادم

كان عبدالعزيز المقالح شاعرا حالما لم يتخلى عن سرد امانيه ونظمها في لغة الشعر ولم تترك قصائده مهمتها في العُري هذا العري الذي يبدي أسوأ ما فينا، فلا يخفي وجعه على هذه البلاد ولم يغمد سيف أحلامه معلنا استسلامه للواقع الذي يرثيه ففي قصيدة "يا ليل"، يستهل الشاعر حديثة عن التضحيات الكبيرة التي قدمها اليمنيون في وجه الخلاص من واقعهم البائس وذهاب تلك التضحيات ادراج الرياح فيخاطب الليل عتابا واستعطافا وتحسرا فيناجيه:

يا ليلُ أحرقنا الجماجم في الطريق إلى الصباح

ما لحظةٌ، إلا وأشعلنا ملايين الجراح

لم يبقى في اجفاننا نجمٌ يضيءُ، ولا سلاح

ودياننا جفت فلا عشبٌ هناك، ولا رياح

وظلامُنا باقٍ، وأنت مستمرٌ فوق البطاح


يمضي الشاعر في ذات القصيدة في عتابه الجازع لليل البهيم الذي استحكم بظلمته على حياة اليمنيين، جالبا معه نقمة الماضي، البغيض مشيرا الى قرون الشقاء الكهنوتي الذي عاشها اليمنيون في ظل حكم الإمامة مستخدما تعابير دالة على ظلمة العصور وجنايتها علينا " الليل- السديم- يتقيأ- الجحيم- العهد القديم- بهيم" وجميعها كلمات ومعاني تلتقي عند معنى واحد ينبئُ بالشقاء والسوداوية وقتامة العيش:


يا ليلُ هل في أرضنا، في شعبِنا، أبداً مقيم؟

هل أنت اقوى من شموسِ العصرِ، موصولُ السديم؟

أيامنا تمضي، كأنا موثوقون الجحيم

يتقيأُ الماضي الدمامة فوق حاضرنا الدميم

وتلُفنا يا ليلُ، منك عباءةُ العهد القديم

هزت مواجعُنا الصخور، وأنت مُربد بهيم


لقد أراد الشاعر لهذه القصيدة ان تمضي في مسارين الأول يقر مرارة وفضاعة اللحظة الراهنة التي يعيشها اليمنيين، موشحة بصور تعبيرية ومجازية شعرية تعبر بنا الى حالة من اليأس والإحباط تستوطن روح القارئ، ولكن ذلك المسار التقريري والظرفي الذي اقرته القصيدة عن حال اليمنيين لم يكن مرضيا حتى للشاعر نفسه- وباب ذكره كان من واجب التنويه بالواقع لخلق دافعية لرفض هذا الواقع والخروج عنه لذا نجده يخط لنا مسار مغاير تماما في خطابه إلى الليل في الأبيات الأخيرة من هذه القصيدة فيقول مجددا:


يا ليلُ خلف جراحِنا، وهمومنا يصحو النهار

تتمردُ الشمسُ الحزينةُ، تصنعُ الصبحَ الشرار

يتغسلُ الإعصارُ والبركانُ في الدمعِ المُثار

مهما طغت أشباحكَ السوداءُ، ألوت بالديار

لا أنت باقٍ أيها الليلُ القديم، ولا الجدار


إن من جمالية التجربة الشعرية لدى الدكتور عبدالعزيز المقالح موافقتها التاريخية والزمانية لمجمل الظروف والازمان على اختلافها انها تُظهِر لنا اول دواوينه مقاربات ومعان شعرية وكأنها كتبت اليوم، وعلى الرغم من تجوال غالبية قصائده في ربوع الشعر الذي يحكي موجزا من حياة اليمنيين وتطلعاتهم إلا أن تلك القصائد تجد نفسها تتجاوز النطاق المحلي نحو عالمية القصيدة وفضاء الكلمة التي لا تقيد بحالة او بجغرافيا بعينها، وهذا العبور والقفز المعنوي الذي استحدثه المقالح في كتابته الشعرية والأدبية بوجه عام يجعلها كتابة مقبولة ذات لغة سامية تتحدث عن نفسها وعن مكنوناتها بأي لغة تترجم اليها.


ولم يكن الإنتاج الشعري لوحده الذي تصدر قائمة الكتابة والابداع لدى الدكتور عبدالعزيز المقالح، فعلى الرغم من صدور خمسة عشر ديوناً له إلا أن له العديد من المؤلفات الأدبية والسياسية والتاريخية التي شكلت إضافة حقيقية ونوعية أظهرت التنوع الفكري لدى المقالح كشاعر وكاتب وناقد وشاهد على العصر، فصدر عنه من الكتابات ما يدفعنا للدهشة حول سلسلة العطاء الفنية والأدبية التي ارتقت بالكتابة لتمثل مسيرته نموذج خاص ومتفرد في التعاطي الثقافي التي تجمع في شخصه نواحي متعددة من الفكر والثقافة، وإليكم عناوين بعض مؤلفاته وكتبه ودراساته التي اثرى بها المقالح المكتبة اليمنية والعربية بالمزيد من المعارف والجمال والاثراء الفكري والنقدي.


الأبعاد الموضوعية والفنية لحركة الشعر المعاصر في اليمن

يوميات يمانية في الادب والفن

الحورش الشهيد والمربي

قراءة في الادب والفن

أزمة القصيدة الجديدة

الوجه الضائع "دراسات عن الادب والطفل العربي"

شعر العامية في اليمن

شعراء من اليمن

نقوش مأربيه دراسات في الابداع والنقد الادبي

قراءة في كتب الزيدية والمعتزلة

قراءة في أدب اليمن المعاصر

عبدالناصر واليمن: فصول من تاريخ الثورة اليمنية

مدارات في ثقافة الادب

مرايا النخل والصحراء

الزبيري ضمير اليمن الوطني والثقافي

البداية الجنوبية

أصوات من الزمن الجديد دراسات في الأدب العربي