كنت أحتفل بهذا اليوم المجيد ال 30 من نوفمبر من كل عام بمعية والدي الفقيد المناضل العميد ناصر محمد علي عبادي رحمه الله رحمة الأبرار وجعل قبره روضة من رياض الجنة.
كان والدي رحمه الله يحتفل بهذا اليوم المجيد بطريقته الخاصة مع جميع أفراد أسرته، كان يجمعنا ويحدثنا بذكريات النضال، وكنا نستمع اليه بتركيز ونهم ونتمنى أن يستمر بحديثه الممتع والشيق والصادق عن ذكريات النضال ...
ذات يوم حدثنا والدي ونحن نحتفل بهذا اليوم كعادته سنوياً عن أول عملية فدائية قام بها في العاصمة عدن وتحديدا في الشارع الرئيسي المعلا (شارع مدرم) وقال: التحقت بالبوليس (الشرطة) في مدينة عدن وعمري 17 عاما حيث جئت من ريف محافظة أبين وتحديدا من قريتي الجميلة قرية (معرج) والتي تقع في مديرية الوضيع ،والتحقت في دفعة كبيرة وتخرجنا من الدورة وكان ترتيبي التاسع في الدفعة وتم توزيعنا كالتالي: العشرة الأوائل في شرطة التواهي وكنت معهم، والعشرة التي تليهم في شرطة المعلا .... وهكذا تم توزيع الدفعة على كل مناطق مدينة عدن.
عندما كنت جنديا في شرطة التواهي تم استقطابي للعمل الفدائي من زميل في البوليس وهو صديق عزيز والتحقت بالتنظيم الشعبي الذراع العسكري لجبهة التحرير وكنت ضمن خلية مكونة من خمسة أشخاص، وكنا لا نعرف بالخلايا الأخرى لانه عمل سري بحيث إذا أكتشف أحد من الافراد من قبل المستعمر البريطاني لا يكشف عن خلايا التنظيم الأخرى ...
كان يدرب خليتنا خبير مصري عن كيفية القيام بالعمليات الفدائية؟ ويعلمنا على أستخدام السلاح والقنابل الروسية، وذات يوم سألني الخبير عن أسمي في أول جلسة فقلت له ناصر فقال لقبك التنظيمي (أبو بدر) لانه عندنا في مصر ناصر لقبه أبو بدر ومن ذلك اليوم اطلق علينا هذا اللقب الذي أعتز به وقد سميت أحد أبنائي بدر وهو دكتور صيدلي بدر ناصر محمد.
نعود إلى حديثنا عن أول عملية فدائية قمت بها، كانت هذه العملية سيقوم بها أحد الزملاء الخبرات ولكن الزميل أعتذر لكونه يعيل أسرة كبيرة وليس لهم عائل إلا هو لذلك رشحني الزميل وقال أبو بدر هو الشخص المناسب لهذه العملية، فهو شاب مفعم بالحيوية والنشاط والزخم الثوري ولم يتزوج بعد فوافقت فورا على ذلك، فكان الخبير المصري يشرح تفاصيل العملية الفدائية ،وقال ستكون في العمق في الشارع الرئيس (المعلا) لذلك نريد منك يا أبو بدر تتدرب على الجري السريع بعد القاء القنبلة على الحافلة العسكرية التي تمر عادة بهذا الشارع وتذهب إلى الشارع الخلفي وستكون هناك سيارة بانتظارك، وسنعلن عن ساعة الصفر بعد أسبوع ...
عدت إلى مركز الشرطة التواهي وأنا مناوب وكنت أفكر طوال الليل بهذه العملية الفدائية النوعية وكنت أسال نفسي هل سانجح في هذه العملية أو أستشهد!؟ فتذكرت والدي ووالدتي والأهل والخلان وقريتي الجميلة فبكيت وكأني أودعهم !!!
جاءت ساعة الصفر فاجتمع بنا الخبير المصري مع أفراد الخلية واعطانا التوجيهات الدقيقة وأخذني بالاحضان وعانقني بشدة هو والزملاء افراد الخلية وقال لي أنت رجل فدائي وصنديد أرفع رأسك فوق، سنصلي ركعتين ندعوا لك فيها بالتوفيق ونجاح العملية الفدائية، فصلينا وانتابتني قشعريرة في جسمي وكأني أصلي على نفسي مع زملاء النضال !!!
رفع من معنوياتي الخبير المصري وقال أنا واثق في الفدائي أبو بدر سينفذ العملية وستنجح وسنلتقي في اليوم الثاني في هذا المكان وسنحتفل إن شاء الله، فابتسمت له وهزيت رأسي ومعي القنبلة الروسي فودعتهم وعانقتهم واحداً واحداً وتحركت إلى الشارع الرئيس المعلا وأنا أتحسس القنبلة في حزامي الذي أشد به ظهري ...
كنت منتظر الإشارة من مساعدي الذي سيحك شعر رأسه ثلاث مرات متتالية وأنا تهيأت لإلقاء القنبلة الروسية ومرت السيارة ورميتها فيهم وهربت بسرعة وإذا بصوت القنبلة يدوي وتتطاير أشلاء جثث الجنود البريطانيين ومعداتهم في السماء وكانت تحط بجانبي وكنت أجري بقوة وانا خائف ومنذهل من شدة قوة الإنفجار مع المواطنين الهاربين وضيعت المكان المحدد من هول الصدمة لانها أول عملية أقوم بها، كنت أجري دون أن التفت ورائي بحسب توجيهات الخبير ولم أدري بنفسي إلا أمام عمارة وصعدت سلم العمارة وفي الدور الثاني طرقت باب أحد المنازل ففتح لي رجل كبير في السن فدفعته إلى الداخل وأنا خائف وملثم وأغلقت الباب وفي يدي المسدس وهددت صاحب المنزل وقلت له أنا فدائي ورميت على الانجليز قنبلة ومنزلك محاصر من الفدائيين إذا أفشيت بهذه العملية سيتم تصفيتك وكل أفراد اسرتك من الفدائيين فرحب بي وقال نحن معكم يا فدائيين نحن الشعب وأتى لي بفوطة وجرم أبيض وقال بدل ملابسك وحاول أن تهدا وأدخلني الغرفة وقال خزن معنا وأنا ساخارجك لا تقلق فاعطاني قليل قات وكان مخزن معه ثلاثة من أصحابه فسألني أين تعمل !؟ فقلت له جندي في شرطة التواهي فابتسم وقال والله أنه شرف لنا أن نخزن مع فدائي، فخجلت من هذا الإطراء وكنت قلق جدا كلما سمعت خطوات درج العمارة وكان يهديني بين الحين والآخر وبعدها طرق الباب بشدة فخفت وقلت هذه النهاية فدخل جندي انجليزي يتحدث باللغة الانجليزية بصوت مرتفع فرد عليه صاحب المنزل بهدوء وقال لنا هاتوا بطائقكم وقال له هؤلاء جيراني وهذا خطيب أبنتي وهو يعمل جنديا في بوليس التواهي فتأكد الجندي البريطاني وغادر الجندي وتنفست الصعداء وبعدها شكرت صاحب المنزل وأعتذرت له بشدة وقال هذا أقل شيء اقدمه لوطني فودعته وقال دعني أحتفظ بملابسك عندى إذا خرجت بها سيشكوا بك وستكون ذكرى جميلة مع فدائي شجاع فرحبت بذلك وكنت سعيدا أنني نجوت من الموت بأعجوبة وعدت في اليوم الثاني إلى مكان أجتماع الخلية فاحتفلنا بهذه العملية الفدائية النوعية بعد أن يئسوا زملائي واعتقدوا أنني أستشهدت أو أعتقلت لأنني لم آتي إلى المكان المحدد بعد العملية الفدائية كي يتم تهريبي !!!
احتفلت بهذا اليوم المجيد ال 30 من نوفمبر عيد الاستقلال المجيد ولكن كان ينقصنا وجودكم والدي المناضل الفدائي العميد ناصر محمد علي عبادي المارمي الفضلي رحمكم الله رحمة الأبرار وجعل قبركم روضة من رياض الجنة وسنحتفل بهذه الذكرى ما دمنا أحياء وسنتذكركم فيها ونفتخر ونفاخر بكم في كل مجالسنا ...
ولدكم د.غسان ناصر محمد علي عبادي