في رواية "أجواءٌ مباحة" من اللحظة الأولى للبداية الانفجارية، يشدُّك أحمد السلامي إلى عالمه الروائي، ثم يعود لتهيئة مخيلة القارئ بصور دقيقة تعكس تفاصيل وطقوس الشخصيات. كأن ترى ريفيًا يقفز إلى هيكل سيارة عابرة، باحثًا عن فراغٍ بين سواعد الركاب المتشبثة بالهيكل الحديدي، ليشاركهم بعد ذلك رقصة الصعود إلى الجبال، تلك الرقصة الجماعية التي يؤديها أبناء الريف يوميًا. بهذه الدقة والرهافة، ينسج الكاتب صورًا حيّة تسكن مخيلة القارئ، ليشعر وكأنه يعيش أجواء الرواية ويصاحب شخصياتها.
الموضوع الرئيسي الذي تتناوله الرواية مُعلن من العنوان "أجواءٌ مباحة"، وهو عنوان شامل يعكس السيادة المُنتهكة وتواطؤ "حكومة المرتزقة" الفاسدة، التي كانت خاضعةٌ للخارج مقابل الحصول على الفتات وضمان استمرار رجالها. والانتهاكات والفساد هما المدخل الذي كان يستخدمه الخارج لممارسة الغزو المستتر خلف عباءة الحكومات فيمارس هو الآخر انتهاكات وبشاعات أكبر بالتعاون معها. يقدم الكاتب هذا الطرح بأسلوب روائي جاد ومتميز، معززًا الرواية بحوارات عميقة وتفاصيل مشوّقة تُحرّك مخيلة القارئ، لتبدو الأحداث وكأنها مشاهد فيلم سينمائي صُنع باحترافية.
إلى جانب براعة الكاتب في تصوير الأحداث، تبرز مهارته في تجسيد الموضوع عبر شخصيات أيقونية لا تقل إتقانًا. فقد أُعطي لكل شخصية دور يُعبّر عن شريحة مجتمعية محددة. نرى "عامر"، الملتزم بالكفاح لنصرة الضحايا، و"هديّة وبناتها"، الضحايا المنسيين، و"اللواء أمين ظافر"، الخال الانتهازي الذي تخلى عن الضحايا، في إشارة إلى القادة والساسة الذين يتركون شعوبهم تواجه مصيرها رغم انتمائهم إليها. وهناك "العاقل"، الذي يمثل الواجهة الاجتماعية كسلطة بديلة، و"الكوكبي"، مالك الصحيفة الذي يتاجر بالقضايا العادلة، و"عبد الستار نجمي"، الكاتب الأجير... وغيرهم. حتى الشخصيات الهامشية، مثل الأديب (السجين السابق)، كان لها حضور خفيف لكنه بالغ الأثر، إذ تجسّد شريحة منسية من ضحايا السلطات والمجتمع: المناضلين الصادقين الذين يقدمون أنفسهم من أجل قضايا الشعب، لكنهم يُخذلون وينسون. كانت كل شخصية أيقونة، تمثل شريحة من شرائح المجتمع، بحيث يستطيع القارئ إسقاطها على واقعه، حتى لو عاش في زمن ومكان مختلفين عن الزمن والمكان اللذين كتبت فيهما الرواية.
رغم التنوع الكبير الذي تحمله الرواية في شخصياتها والقضايا التي تثيرها، إلا أن السياق العام اتسم بالصرامة والانضباط من حيث الأسلوب، والتركيز على الفكرة الرئيسية، وترابط الأحداث والشخصيات، وتكامل الزمن والمكان. هذه الصرامة جعلت تركيز القارئ حاضرًا باستمرار، وكأنه يتأمل لوحة مؤطرة بإحكام، حيث كل تفصيل داخل الإطار منسجم مع بقية العناصر. والنتيجة هي تفاصيل وشخصيات وأماكن تبقى عالقة في ذهن القارئ منذ اللحظة الأولى وحتى ما بعد الانتهاء من القراءة.
يمكن القول بكل صدق إن السلامي، من خلال هذه الرواية، رفع مستوى الرواية اليمنية إلى مستوى أعلى من الجدية، وأضفى عليها عمقًا في تناول القضايا السياسية والاجتماعية التي لا تزال قائمة حتى اليوم. وكما نرى يوميًا، ما تزال "الأجواء مباحة"، والسيادة منتهكة، وقيام الدولة معطّل، وكأن اليمن ما زال يعيش زمن الرواية التي مضى على أحداثها نحو سبعة عشر عامًا.