بينما جمعتني الأقدار بأحد زملائي المعلمين ، رابني مظهره ، فانتحينا جانباً ....
فأخذت أسأله عن أحواله وعن الوضع الكارثي الذي يعيشه المعلم ، وعن معاناته بسبب قلة الراتب ، وعدم صرفه في مواعيده المعتادة ... فإذا به يأخذ شهيقاً عميييقاً ، وأخرج زفيراً كاد أن ينزع معه روحه ، فتحدرت على وجنتيه دمعات كقطرات الماء الطاهرة ، فأطرق رأسه إلى الأرض وله خنين يهز أضلعه التي بالكاد يغطيها جلد كأنه خرقة بالية .
لم أتمالك نفسي ، ولم أستطع السيطرة على مشاعري إزاء ذلك المربي الفاضل ، والأستاذ القدير ، والكادر التربوي المثالي الأشهر من نار على علم ، والذي عرفته لأكثر من ثلاثة عقود وهو شعلة من النشاط والحيوية والتفاني والإخلاص والعطاء والبذل !
وها هو اليوم - نتيجة تعففه - يُرى وكأنه رجل في العقد الثامن من عمره ، والأمراض تنهش جسده النحيل ، وقد شَحُبَ لونه ، وابيض شعره ، وتمددت تجاعيد وجهه ، وتقوس ظهره ، وخفت صوته رغم أنه لا يزال في منتصف العقد السادس.
حاولت بلطف أن أربَّتْ على ظهره ، وأهدَّأ من روعه ، وأرفع رأسه ، وأمسح دمعه ، وأطيب خاطره ..
فنظر إليَّ فقال :
ألا ترى أنَّ شهر نوفمبر يوشك على الإنتهاء ونحن لم تتقاض معاش أكتوبر ؟ ثم ما قيمة المعاش الذي نتحصل عليه اليوم مقابل
الارتفاع الجنوني للأسعار ؟ ( 150) ريالاً سعودياً (لا تسمن ولا تغني من جوع) !!!
ثم تحدث بحرقة فقال : بالله عليك كيف لمعلم أن يؤدي واجبه اليوم بصورة مثلى .....وهو يذهب إلى المدرسة والجوع ينهش أمعاءه ؟
وربما لا يجد اللبس الذي يستره ، ولا الحذاء الذي يلبسه !!
ناهيك عن أنَّه يفكر في حال أسرته وكيف يوفر لهم أبسط مقومات الحياة .
ألا تعلم أننا لعدة أشهر لا نأكل إلا وجبة واحدة في (24) ساعة ، رغم أننا أسرة صغيرة لا تتعدى الخمسة أفراد ؟
ولم أستطع هذا العام أن أوفر مستلزمات الدراسة لطفلين لولا أنَّ أحد أقاربي تكفل بذلك ؟
ثم أردف قائلأ : يا أخي أنا لا يزعجني كثيراً وضعي المزري ، ووضع عشرات الآلاف من المعلمين.... لأنَْه بمجرد قرار لإصلاحات اقتصادية سيتغير حالنا على الفور .
ولكن يُزعجني كثيرأ وضع التعليم الذي يتعرض اليوم لقرصنة حقيقية ، لتدمير ممنهج ، وأصيب في مقتل ، ولا أظن أنَّ جرحه سيندمل بسهولة ، فلربما يحتاج إصلاحه إلى عقود من الزمن !!
هذه صرخة معلم صادق ...
وهي لسان حال كل المعلمين الذين لا يزالون على صهوة جواد التعليم.....ويجولون ، ويصولون في ميادين التعلَّم ، رغم قساوة الحياة ، ورغم فضاعة أوضاعهم المعيشية.
أتمنى من كل قلبي أن تصل هذه الصرخة إلى مسامع كل يمني حر ، شريف ، غيور على وضع التعليم أيَّاً كان موقعه ( من أعلى هرم الدولة ، إلى مؤسسات التعليم الوطنية ، إلى رؤوس الأموال ، إلى أئمة المساجد ، إلى المثقفين ، والكتاب ، إلى الأسر ، إلى أولياء الأمور ، إلى الطلاب .
لقد قُرِعَ ناااااقوس الخطر ...( فأين أنتم )
اليوم يُراد أن تُجهَّل أجيالنا ، أن تدمَّر حياة شبابنا ، أن تنزلق شعوبنا في مستنقعات التطرف ، والإرهاب ..
فلا نكون عوناً لتلك لمخططات ، ولا نعطي الفرصة لمن يريد منا أن نصل إلى هذا المنحدر الخطير .
إنَّ سكوت القيادة السياسية عن قضية التعليم ، وعدم إعطائها الأولوية ....يُعتبر جريمة بحق الوطن .
اليوم الطالب لذي غادر مقاعد الدراسة ( وقد يكون فاشلاً ) والتحق بالسلك العسكري يتقاضى (ألف سعودي) كحد أدنى !!!
والمعلم الذي أفنى زهرة شبابه في ميادين العلم يتقاضى ( 150 ) ريالاً سعودياً !!!
مالكم كيف تحكمون ؟؟!!!
نحن اليوم أمام مفترق طرق في قضية التعليم ، وعلى الجميع تقع مسؤولية الإنقاذ ...
يتوجب على الحكومة أن تلتزم بدفع رواتب المعلمين في وقتها المحدد ، وأن تعيد هيكلة الرواتب بما يتواءم مع الظروف الاقتصادية.
وعلى السلطات المحلية أن تقوم بواجبها وتتخذ إجراءات عااااجلة لتحفيز المعلمين من ناتج دخل المحافظات.
وبهذا الصدد نكرر شكرنا وتقديرنا لمحافظ حضرموت لمواصلة دعمه صندوق التعليم .
والشكر موصول لمحافظ مأرب كذلك لاهتمامه بالتعليم .
كما نشكر محافظ عدن الذي اتخذ قراراً الشهر الماضي بدفع مبالغ مالية للمعلمين.
ونتمنى من بقية المحافظين أن يحذوا حذوهم وأن يخصصوا هذا العام الجزء الأكبر من دخل المحافظة للتعليم .
وعلينا جميعاً أنْ نعلم أنَّ العلاج الناجع للخروج من دوامة الصراعات ( هو التعليم )