آخر تحديث :الأحد-22 ديسمبر 2024-12:15م

المهن المنبوذة في اليمن: بين إرث التمييز المتجذر والحاجة إلى العدالة الاجتماعية

الأربعاء - 06 نوفمبر 2024 - الساعة 06:24 م
عبدالجبار سلمان

بقلم: عبدالجبار سلمان
- ارشيف الكاتب


تمثل قضية “المهن المنبوذة” في اليمن واحدة من أكثر القضايا الاجتماعية تعقيداً وإلحاحاً، حيث تتشابك فيها أبعاد متعددة من الإرث الثقافي المتجذر، والسلوك المجتمعي، والتفرقة الطبقية، وغياب التشريعات القانونية الفعالة. تعاني هذه الفئات من تمييز صارخ يمتد إلى كل جانب من جوانب الحياة، من اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية، ويعود جزء كبير من هذه الظاهرة إلى تراكمات الماضي وعدم وجود مساع حقيقية لدمج هذه الفئات في نسيج المجتمع اليمني. ينظر المجتمع اليمني، الذي يُعد مجتمعاً محافظاً، إلى بعض المهن بنظرة دونية متجذرة في ثقافته وتقاليده. وُرثت هذه النظرة على مر العصور، حيث ارتبطت بعض المهن، مثل الحرف اليدوية والأعمال الخدمية وبعض المهن الأخرى ( الجزار، الحلاق، والخ )، بطبقات اجتماعية تعتبر “أدنى” في السلم الاجتماعي ويطلق عليهم " المزاينة - المزين " . هذا التصنيف الطبقي خلق تفرقة واضحة بين فئات المجتمع، وأفرز نوعاً من العنصرية الاجتماعية التي تتعامل مع هؤلاء على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية. وما يزيد الطين بلة أن المهن المنبوذة تتوارث داخل عائلات وجماعات محددة، ما يعمق العزلة ويزيد من الشعور بالاضطهاد. وبهذا يتوارث أبناء هذه الفئات المهنة والتهميش معاً، حتى أصبح من الصعب أن ينخرطوا في أعمال أخرى أو يحققوا التقدم الاجتماعي والاقتصادي.

إن التعامل مع العاملين في هذه المهن لا ينم عن سلوك حضاري، بل يُظهر ثقافة إقصائية متجذرة في وعي بعض الفئات. ورغم التحولات العالمية باتجاه قبول التعددية ونبذ العنصرية، لم يواكب المجتمع اليمني هذه التحولات بشكل كافٍ. يتعرض العاملون في المهن المنبوذة إلى الإقصاء والتهميش في المدارس، والمساجد، وأماكن العمل، وحتى في المناسبات الاجتماعية. كما يتعرضون لسوء المعاملة والتقليل من شأنهم، وهو ما يتعارض تماماً مع القيم الدينية والإنسانية التي تدعو إلى المساواة والعدل. تُعاني هذه الفئات من غياب واضح للقوانين والتشريعات التي تحمي حقوقهم وتضمن لهم العيش بكرامة. رغم أن اليمن قد صادق على بعض المعاهدات الدولية التي تعنى بحقوق الإنسان، إلا أن هذه الاتفاقيات لم تُترجم فعلياً إلى سياسات أو قوانين نافذة لحماية هذه الفئات من التمييز العنصري. بل إن الفساد الإداري والضعف المؤسسي زادا من تفاقم الوضع، حيث تظل هذه الفئات عرضة للإقصاء والتهميش دون وجود جهة قانونية تحميهم. تاريخياً، فشلت الحكومات اليمنية المتعاقبة في معالجة هذه القضية، بل إنها تجاهلتها بشكل تام. غياب الخطط والسياسات الرامية إلى دمج الفئات المتضررة في المجتمع، سواء في التعليم أو العمل، يعكس مدى الإهمال الرسمي لهذه القضية. ويزيد الوضع سوءاً، بعد سيطرة مليشيا الحوثي على السلطة، حيث تواصلت ممارسات التمييز ضد العاملين في المهن المنبوذة. ولم تبذل الجماعة أي جهد يُذكر لحمايتهم أو تحسين أوضاعهم، بل ازدادت الممارسات العنصرية ضدهم، خصوصاً في المناطق التي تسيطر عليها.

يترك هذا التمييز آثاراً عميقة على المجتمع ككل، حيث تتسبب هذه الممارسات في تفكك المجتمع وإضعاف الروابط الوطنية. فمن الناحية السياسية، تعاني هذه الفئات من الإقصاء وتُحرم من المشاركة في صنع القرار، مما يعزز من تهميشها ويزيد من إحساسها بالعزلة. أما من الناحية الاقتصادية، فإن الحصار المفروض على هذه الفئات يحرمها من فرص متكافئة في العمل، ويضع قيوداً على مساهمتها في تنمية البلاد. وفي الجانب الاجتماعي، تتفاقم النزاعات الطبقية وتزداد الكراهية بين مختلف فئات المجتمع، حيث تتوارث الأجيال هذه النظرة الدونية مما يؤدي إلى تفشي العنصرية. ثقافياً، تُحرم هذه الفئات من التعبير عن ثقافتها وتاريخها، إذ غالباً ما يُنظر إلى ثقافتها على أنها دونية أو غير مرغوب بها. وفي الختام تحتاج اليمن اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى مراجعة شاملة لقيمها الاجتماعية وإلى اتخاذ خطوات حقيقية نحو بناء مجتمع قائم على المساواة والعدالة. لا يمكن التغاضي عن أهمية إصدار قوانين وتشريعات تضمن لهذه الفئات حقوقها وتحد من التمييز، مع إنشاء برامج دمج اجتماعي واقتصادي تعزز من قيمة هذه الفئات وتدمجها في النسيج الوطني. تحتاج اليمن إلى ثورة ثقافية، تقوم على نبذ الإرث المتجذر من العنصرية والتمييز وتبني سلوك حضاري يحترم الإنسان بغض النظر عن مهنته.