الأمن يعدّ من أهم الأسس التي تقوم عليها استقرار الدول وتقدّمها. فبفضل وجود الأمن، ينعم المجتمع بالسلام ويزدهر الاقتصاد وتتوطد العلاقات الاجتماعية. ويأتي دور رجال الأمن في صدارة المسؤولية، حيث يسهرون على حماية المواطن وضمان حقوقه وحرياته. لذا، تتطلب العلاقة بين رجال الأمن والمجتمع ثقة متبادلة؛ فهي الأساس الذي يقوم عليه نجاح مهامهم. ومع ذلك، وفي السنوات الأخيرة، شهدت بلادنا تراجعًا ملحوظًا في مستوى هذه الثقة، مما أثر على التعاون بين المواطن والأجهزة الأمنية، وهو أمر يثير القلق ويستدعي التدخل لمعالجة أسبابه واستعادة الثقة المفقودة.
وفي هذا السياق، تبرز مدينة تريم في حضرموت كنموذج فريد يعكس مستوى متميزاً من الأمن والاستقرار، وهو الأمر الذي يكاد يكون نادراً في معظم مدن البلاد. فرغم التحديات التي تواجه اليمن في السنوات الأخيرة، استطاعت تريم أن تحافظ على بيئة آمنة يطمئن فيها المواطن على نفسه وممتلكاته، بفضل الجهود الكبيرة التي تبذلها الأجهزة الأمنية المحلية ووعي المجتمع بأهمية التعاون مع رجال الأمن. إن استقرار الأوضاع في تريم يعد مثالاً يحتذى به لبقية المدن، ويؤكد أن الأمن يمكن تحقيقه حين تتضافر الجهود وتترسخ الثقة بين المواطنين ورجال الأمن.
قادتني قدماي نهار هذه اليوم إلى إدارة الأمن تريم بصحبة أحد الطلاب الأندونيسيين المتواجدين في هذه المدينة لغرض العلم الشرعي، والذي سرقت منه دراجة نارية قبل عام تقريبا، ولكنه لم يتقدم ببلاغ، وليلة أمس جاء البحث الجنائي إلى المعهد الذي يدرس فيه الطالب ويسكن، بعد ضبطهم للص اعترف بسرقة العديد من الدراجات النارية ومنها دراجة من هذا المكان. وعند إخبار فريق البحث بأن الطالب قد سرقت منه دراجة طلبوا منه التوجه في اليوم التالي لتقديم البلاغ. ولهذا ذهبت معه هذا اليوم، وعندها قدمت البلاغ مكتوبا، لنائب مدير الأمن واخبرته بفحواه موجزا، فقام وبكل هدوء بثني البلاغ ووضعه في جيبه، ودون أن يطلع عليه. وقال أن الدراجة تمت مصادرتها. وذلك بحجة أن البلاغ جاء متأخرا جدا. وأعلنت له تقبلنا للأمر ومحاولة الإنصراف، مع توضيح أمر التأخير يرجع إلى الخوف، فالوافدون من شرق آسيا ليسوا على الدرجة من الشجاعة في الذهاب إلى الجهات المسؤولة وإخبارها عن مفقوداتهم، فهم يؤثرون الصمت ابتغاء السلامة والسكينة والهدوء.. ويمكن الحال هذا صار الكثير من الناس يعمل به، في ظل الصورة العامة من انعدام الثقة بين المجتمع والجهات المسؤولة، بصرف النظر عن حقيقتها هنا في تريم والتي يشكل فيها الأمن وضعا أفضل من غيرها كما قلنا سابقا. بعد ذلك أخرج البلاغ وطلب مننا الذهاب للنيابة ليعطوا التوجهيات له باستلام البلاغ، وهذا أمر هو أعلم بقانونيته وصحة إجرائه باعتباره جزء من عمله، وهو أدرى بطرق ومسالك قضايا كهذه. ولن نخطئه أو نوجه له عتب على ذلك، فقد خرجت بصحبة الطالب الاندونيسي صاحب البلاغ وأنا أفكر في إتباع تلك الخطوات، لولا تشبث ذلك الطالب بيدي راجيا مني إنهاء الموضوع ومافهمته من عربيته المكسرة ( إنه خلاص الأمر صعيب، ولا يريد الجعجعة).
ما أريد أن أضعه هنا أمام إدارة الأمن تريم وجميع مسؤولي هذه المديرية التي مازال فيه عرق ينبض بالحياة هو إن هذه الشريحة الوافدة إلى المجتمع بحاجة إلى مراعاه وهي أحوج ماتكون إلى بناء الثقة معها من قبل رجال الأمن، وعمل جسور من التواصل معها عن طريق أي قناة تكون مناسبة، هناك الكثير من هذه الشريحة تضيع مقتنياتهم وممتلكات لهم، ولكن الخوف والتهيب يمنعهم من تقديم البلاغات في وقتها.
نعم الخوف وهذا عارض طارىء لأنهم في أرض غير أرضهم وليس خصيصة متأصلة فيهم. وبشكل عام، ونعتبره قانونا مطلقا: الشجاع في أرضه شجاع، أما في أرض غيره فالسياسة والحكمة، وربما التجاهل والتغاضي هي مبادئ يلتزم بها لتسير حياته بعيدا عن المشاكل. لأن الشجاعة في أرض الآخرين تهور وعربدة. إلا في حالة واحدة وهي أن يكون في موقع مسؤولية وسلطة، وفي هذه الحالة شجاعته يستمدها من السلطة.
ولذا فإن حالة الطالب الاندونيسي كما أطلعت عليها ولامستها هي الخوف كان وراء عدم تبليغه في الوقت المناسب، بل وطلب التخلي عن المطالبة عن حقه، وهو ماجعل حقه يضيع باعتبار ذلك قصور إجرائى بدا منه، ولكن السؤال هل القصور في الإجراءات المتخذة في وقتها من قبل أصحاب الحقوق نتيجة الخوف أو حتى عدم الثقة المؤقتة يبيح ضياع حقوقهم أو تعقيد إجراءات رجوعها إليهم ؟ حتى وأن جاؤوا متأخرين، وخصوصا مع هذه الشريحة التي تحدثنا عنها.
في الختام نأمل أن تكون هناك خصوصية لهذه الشريحة في تريم أمام السلطات المسؤولة في القضايا التي تصلهم، فليس الغاية من القانون التطبيق بحذافيره حتى وأن أدي إلى ضياع الحقوق، بل غايته أن تصل الحقوق، وهذا كان الهدف من ذلك منذ أن وعت البشرية أهمية ذلك فصكت القوانين والتشريعات.