آخر تحديث :الجمعة-20 سبتمبر 2024-12:43ص


التكامل الثوري: كيف أرست ثورة الـ26 من سبتمبر و14 من أكتوبر أسس النضال الوطني المشترك؟!

الخميس - 19 سبتمبر 2024 - الساعة 10:08 م

فضل حنتوس
بقلم: فضل حنتوس
- ارشيف الكاتب


في خضم الأحداث العظيمة التي شكّلت مسار التاريخ، تظل الثورات الكبرى شعلة مضيئة تُلهم الشعوب، وتجسد طموحاتها وآمالها في الحرية والكرامة. ومع اقترابنا من الاحتفاء بذكرى ثورتين خالدتين في تاريخ اليمن المعاصر، ٢٦ من سبتمبر و١٤ من أكتوبر، تتداعى إلى الذاكرة لحظات مفصلية اختزلت فيها عظمة النضال الشعبي وإرادة التحرر. هاتان الثورتان لم تكونا مجرد حركات سياسية، بل كانتا تعبيراً عن صرخة شعب ضد الطغيان والاستبداد، وإعلاناً عن فجر جديد ينادي بالمساواة والعدالة. وفيما نعيد استحضار تلك الأيام المجيدة، نجد أن جذورها لم تتوقف عند حدود الانتصار العسكري أو الإطاحة بأنظمة جائرة، بل امتدت لتكون نقطة انطلاق نحو بناء دولة المواطنة والقانون، حيث يسعى الجميع لإعادة صياغة الحاضر والمستقبل على أسس من الحرية والكرامة والسيادة.

لم تكن ثورة 26 سبتمبر 1962 مجرد انتفاضة ضد نظامٍ إمامي غاشم، بل كانت ولادةً جديدةً لشعب ظلّ يقاوم ظلم الماضي وسياط الاستبداد لسنواتٍ طويلة. انفجر بركان الثورة في قلب الظلام الدامس، ليبدد عتمة العصور البائدة ويفتح الأفق أمام يمنٍ جديد، جمهوريٍّ في روحه ومبادئه، متطلعٍ إلى الحرية والمساواة. كان صوت الثوار يرتفع ليس فقط ضد نظامٍ استبداديٍّ يقيّد حرية العقول والأرواح، بل أيضاً ضد منظومةٍ اجتماعيةٍ تكرّس الجهل والفقر والانغلاق. في لحظة اشتعال الثورة، كانت ألسنة النار تأتي على رماد ماضٍ أثقل كاهل الشعب اليمني، وتؤذن بميلاد فجرٍ جديد، لا يُرضى فيه بأنصاف الحلول.

في الجنوب، كانت الشرارة تنتظر اشتعالها. في 14 أكتوبر 1963، انطلقت الثورة من جبال ردفان الشامخة لتكون صدىً لثورة الشمال، لكنها حملت في طياتها معركة مختلفة، معركة التحرر من الاستعمار البريطاني الذي حاول أن يرسخ هيمنته على أرض الجنوب الطاهرة. لم تكن ثورة أكتوبر مجرد ردّ فعل على ممارسات المستعمر، بل كانت تلبية لنداء الحرية الذي أصاخ له أحرار الجنوب، وعزماً لا ينكسر على إنهاء عقودٍ من الاحتلال والهيمنة.

ورغم اختلاف الجغرافيا والتوقيت، كان الرابط بين الثورتين وثيقاً، كأنه قدرٌ محتوم أن يتكامل نضال الشمال والجنوب ليصنعا معاً ملحمة التحرر. ثورة 26 سبتمبر، بوهجها وشعاعها، كانت بمثابة دفقة الأمل التي ألهبت مشاعر الثوار في الجنوب، وجعلتهم يؤمنون بأن التغيير ممكن، وأن الاستعمار لا يمكن أن يدوم أمام إرادة الشعوب. أما ثورة 14 أكتوبر، فقد جاءت كتأكيد على أن اليمنيين، أينما كانوا، لن يقبلوا الذل أو الاحتلال، وأن نضالهم لا يعرف الحدود ولا التفريق.

لقد أرست هاتان الثورتان أسساً متينةً للنضال الوطني المشترك، حيث لم تكن قضية الشمال معزولةً عن الجنوب، ولم يكن الجنوب بعيداً عن هموم الشمال. لقد أدرك الثوار أن المعركة واحدة، وأن الحرية لا تتجزأ. كان تكامل الجهد الثوري بين الشمال والجنوب نموذجاً مشرفاً لوحدة الهدف والمصير. فما إن تحقق النصر في الشمال بإسقاط النظام الإمامي حتى أصبحت الثورة الجنوبية أكثر إصراراً على تحقيق الاستقلال، وكأنما انتصار الشمال كان بشيراً للجنوب بأن الحرية قريبة.

في خضم هذا النضال المشترك، كانت تبرز معاني الأخوة والوحدة الوطنية. فالشمال والجنوب، رغم تباعد المراحل الزمنية، جسّدا روحاً واحدة لا تنفصل. لقد كانت كل خطوة يخطوها الثوار في الشمال تدفع بالثوار في الجنوب إلى الأمام، والعكس صحيح. كانت القضية أكبر من مجرد ثورتين منفصلتين، بل كانت معركة مصير واحد، عنوانها الحرية والاستقلال، وغايتها بناء يمن جديد يجمع تحت رايته كل أبنائه.

واليوم، ونحن نسترجع تلك الأيام المجيدة، ندرك أن التكامل الثوري الذي أرسته ثورتا 26 سبتمبر و14 أكتوبر ليس مجرد حدثٍ تاريخي، بل هو نموذج حيّ يجب أن يبقى حاضراً في وجدان كل يمني. فقد علّمتنا تلك الثورات أن الوطن لا يُبنى إلا بتكاتف أبنائه، وأن الكرامة لا تُنال إلا بالنضال المشترك. كما أثبتت أن قوة اليمن تكمن في وحدته، وأن التفكك والانقسام لا يجلبان إلا مزيداً من الألم والمعاناة.

إن الثورتين، بما حققتاه من انتصارات، وبما رسختاه من قيم النضال المشترك، تركتا إرثاً لا يمحى من الذاكرة الوطنية. إرثاً يؤكد أن الحرية ليست هبةً تُعطى، بل هي حق يُنتزع. وأن الاستقلال ليس غاية في حد ذاته، بل هو بداية لمسيرة طويلة من البناء والتقدم. فكما انتفض الأجداد ضد الطغاة والمستعمرين، يظل واجب الأجيال القادمة الحفاظ على هذا الإرث وتطويره، والوقوف صفاً واحداً في مواجهة أي تحديات تهدد سيادة الوطن وكرامة أبنائه.

إن التكامل الثوري الذي جمع بين 26 سبتمبر و14 أكتوبر لم يكن فقط تكاملاً في السلاح والميدان، بل كان تكاملاً في الرؤية والطموح. رؤيةٌ لمستقبلٍ أفضل، وطموحٌ لبناء وطنٍ حرٍّ، تسوده العدالة والمساواة. ولعل هذا التكامل هو الذي صنع من تلك الثورات أيقوناتٍ خالدةً في ضمير الأمة اليمنية، ودروساً لا تنضب في معاني العزة والكرامة.

ثورتي سبتمبر وأكتوبر ليستا مجرد ذكرى عابرة تمر في صفحات التاريخ، بل هما نبضٌ حيٌّ في وجدان كل يمني، يذكّره دوماً بأن اليمنيين قادرون على صنع مصيرهم بأيديهم، وبأن تكاتفهم ووحدتهم هي الطريق الأوحد لبناء مستقبلٍ يليق بتضحيات الأبطال الذين صنعوا هذه الأمة بدمائهم وتضحياتهم.

كل عام وانتم وشعبنا اليمني بخير