آخر تحديث :السبت-21 ديسمبر 2024-02:54م

الثأر والاشتراكي وشراب البيرة!٠

الإثنين - 02 سبتمبر 2024 - الساعة 12:19 م
منصور الصبيحي

بقلم: منصور الصبيحي
- ارشيف الكاتب


في يومٍ دراسي من أيام شهر فبراير/ شباط وأنا على مشارف إكمال مرحلة الثانوية العامة في مدرسة قميح لأبناء البدو الرّحل، والوقت يشير للواحدة بعد الظهر، واثناء ذلك وأنا عائداً للبيت مشياً على الاقدام ومستمتعاً بجمال الطقس والضباب الذي أخذ من الصباح الباكر يغطّي السماء والجبال والأودية، عنده شدّ إنتباهي سيارة نوع كراسيدا تقف على مسافة تقريباً ٣٠٠ متر من الخط الإسفلتي، وبجانبها أسرة مكوّنة من أفراد قليلة تفترش سجاداً على العراء وكأنّها قادمة من عدن بغرض الراحة والاستجمام، تزامناٌ مع مروري بالقرب منها لاحظت صدور إشارة تلوّح إلي بالاقتراب، لأقترب وإذا به رجل تجلس إلى جانبه إمرأة وطفلين، سلّمت عليه وريحة القات فواحة تنطش من فمه، ليبادرني بالكلام :لن أخذ من وقتك طويلاً فقط أردت أن أستفسرك عن ذلك الكوم من الأحجار الذي تراهُ من أمامك وقد لاحظت شبيه لها أثنين أو ثلاثة في هذه المنطقة؟

الحقيقة وبحكم خبرتي القليلة السؤال كان مقاسهُ اكبر منّي بكثير، لكني بين الكِبر والإحراج خشيت من قول لا أعرف، فتجشّمت الصعاب مجازفا بالإجابة: هذه لم نضعها نحن وإنّما وضعت في مراحل سابقة من عهدنا، وهي تشير لمكان سقوط قتيل أو سفك دماء ناتج تفشّي الثأر والإنتقام بين القبائل، وانتشارها بهذا الشكل على كثرتها دليل واضح على ما عاشهُ سكان هذه المناطق من أوضاع مأساوية، لينتهي أمرها بالثورة وصعود الحزب الاشتراكي الذي أصلح ووفق بين الجميع.

ليعود يسألني مرة أخرى وكيف أصلح الاشتراكي بينهم؟ وهذا كان سؤال أصعب من الذي قبله لتقودني البديهة في ظل العجز التام للجواب التالي: الذي أصلح ووفق بينهم هو ذا الذي يتناثر من حولك، إشارة لزجاج قوارير البيرة المنتشرة في ذات المكان الخالي والبعيد عن السكان، ويقصده الكثير من شاربيها ليلاً فيقضوا عليه ساعات من الراحة النفسية والاجتماعية.

وإذا بالرجل من بعد أن تفحّص حواليه وعرف المقصد!، إلا ينفجر بالضحك حتى ظهر مقروص الغضروف منه وتناثر القات من بين فكيّه أبيض كالزبد، ثواني ثم يصدر شهيقاً قوي وقد اشترغ، ما كان منّي إلا نطيّت بطريقة ارتجالية نحو دورق الماء وأصبّه بدون تفكير من أعلى رأسه، لتسارع التي معه أخالها زوجته فتلقي يدها لتسد فمه وتأخذ تنفخ في أنفه، حتى بدأء يفيق ثم تقوم تحرق ثقاب الكبريت بقربه وتخرج بقايا القات بإصبعها... قليلاً من الذهول والصمت يخيّم على المكان إلا ويعود الرجل لطبيعته، فيأمر أحد الطفلين بإحضار علب المنجا من السيارة ليناولني حبة منها.. هاه خذ ياولدي ولا تخف واصل رحلتك العيب مش عليك العيب علي أنا الذي حمّلتك من الأسئلة ما لا يحتمل.

ما دعاني لتذكّر هذه الحادثة وكتابتها من بعد مرور حوالي ثلاثون عام من حصولها معي، هو الثأر الذي بات يقلق الجميع، فما يوم يمر إلا وأقرأ وأطالع عن حادثة من حوادث القتل تحصل هنا وهناك، أو عن إبرام صلح قبلي جرى بين قبيلتين متقاتلتين.

وبعد أن كبرت وترعرت وعرفت بأن تلك الأحجار ما هي سوى معالم وقبور حميريّة لا دخل لصراع القبائل والثأر فيها، وكما هو ليس للبيرة أيضاً سبب للقضاء عليه، ليبقى السؤال الذي يحيرني، كيف استطاع الاشتراكي السيطرة على تلك الظاهرة وإغلاق ملفها في غضون سنوات قليلة من توليه حكم الجنوب؟

فكما وصلنا عن قبائل كانت متناحرة بلغ تعداد قتلاها بالعشرات بل وتعدّى المئات، ولكنها بعد استباب وضع النظام انتهى أمر الثأر بينها وكان شيئاّ لم يكن، وقد أصبح من أبناءها يجمعهم مرفقٍ واحدٍ، ومقعدِ درسٍ واحدٍ، بل وغدا منهم من يتصاهر ويتبادل الزيارات بكل أريحية.

إذ ونحن على عجزنا في مكافحة هذه العادة التي باتت في توسّعها وانتشارها تشمل مناطق كثيرة مهددة أمن واستقرار الفرد والمجتمع على حدٍ سوأ، ويجري ذلك في ظل كثرة المساجد وتعدد الوعاظ والمرشدين لدى كل قرية وحارة، وبالرغم من الثورة المعلوماتية التي يسّرت المعرفة وسمحت للكل الاندماج بشكلٍ فجاجي ودون ضوابط.

بهذا الشكل من الفشل والإخفاق المتكرر، وعدم القدرة على الاستيعاب واستعادة المبادرة، فياحبذا لو نستفيد من تجربة أولئك الرواد وعمالقة عهد الاشتراكي، من كان لهم شرف القيادة لمرحلة ما بعد الثورة، كعلي ناصر والبيض والعطاس وياسين... نسألهم والسؤال ليس عيب عن الآلية التي جابهوا بها الثأر وتخلّصوا منه؟ وإذا أرشدونا للبيرة واحتاج الأمر فلنعيد مصنع البيرة للعمل والإنتاح، هذا أفضل من قتل النفس وإزهاق الأرواح البريئة التي لا ذنب لها إلا أنّها خُلقت في هذا العصر المترهّل، وكما ورد في الحديث القدسي: ( لهدم الكعبة حجراً حجراً خيراً عند الله من قتل مسلم) وفي الأخير لا تخدم سوى مصالح أعداءنا وأعداء الدين والوطن.