آخر تحديث :الأحد-08 سبتمبر 2024-07:51ص


الهجرة آلام وآمال ،،

الأحد - 07 يوليه 2024 - الساعة 05:25 م

د. سعيد سالم الحرباجي
بقلم: د. سعيد سالم الحرباجي
- ارشيف الكاتب




ويبقى حدث الهجرة كتاب مفتوح تهتدي به البشرية منذ قرابة أكثر من (1444) عاماً .
فهو كتاب ضخم لم ولن تنتهي صفحاته حتى يرث الله الأرض ومن عليها ،،
ذلك أنَّ سيرة الحبيب المصطفى لا ينبغي أن تكون تاريخاً يُحكى ، ولا أن تكون قصصاً تُروى ، ولا أن تكون احتفالات تُقام ، وإنما يجب أن تكون حياةً تُعاد، وواقعًا يُتحقق .

لقد جاء الإسلام يوم أن جاء ليكون منهج حياة لإسعاد البشرية ، وتحريرها من التبعية ، والعبودية ، والرق ، والإنتقال بها إلى أفقه الوضئ ، ومنهجه السامي ، وتشريعه الراقي .

لذلك اجتهد الرسول وصحابته أن يجسدوا كل تلك المبادئ ، وكل تلك القيم ، وكل تلك التشريعات إلى واقعٍ حي ، وسلوك يترجم ،وأخلاق ترى .
وأكدت تشريعاته أنَّه إنما جاء لإسعاد البشرية كل البشرية ، ولإنقاذ الإنسانية كل الإنسانية
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ).

لكن كل تلك الجماليات ، وكل تلك القيم السامية ، وكل تلك الدعوات الراقية الداعية إلى إحترام إنسانية الإنسان ، وتكريمه ، وتحريره من الرق ، ونقله إلى الأفق الوضيء ....
أزعجت دعاة الظلام ، وأرَّقت عبيد المناصب ، وأرعبت طغاة الشعوب ، وهزت عروش المجرمين ...
فهبوا على قلب رجل واحد ، فصبوا جام غضبهم
على ضعفاء المسلمين ،
فتعرض الرسول وصحابته لأصناف لا تُطاق من الأذى ، والتعذيب ، والتنكيل ، والتشريد ، ومورست بحقهم وسائل التجويع ، والعزلة الاجتماعية ، والدعايات المقرضة ...
إلا أنَّ كل تلك الوسائل الخسيسة باءت بالفشل .

فلقد ثبت المسلمون ثبات الجبال الرواسي ، واستطاعوا أن يتحمَّلوا ذلك الأذى، وأن يتجاوزوا تلك المحنة التي تكللت بحدث الهجرة ، والخروج الكامل من مكة .

فمن رحم المعاناة التي تعرض لها المسلمون في مكة .....ولد حدث الهجرة ، ومن آلام تلك المرحلة تولَّدت الآمال التي تنفس معها المسلمون الصعداء ، فكان ذلك الحدث نهاية لتلك المرحلة الشاقة من تاريخ حياة المسلمين ، وبداية لمرحلة جديدة ، وتاريخ جديد ، وحقبة زمنية جديدة .

لهذا تجيء مثل هذه الأحداث الضخمة التي وقعت في مرحلة من مراحل تاريخ المسلمين العسيرة ....
لبتعث الأمل مرة أخرى في نفوس المسلمين لاستلهام العبر والدروس المستفادة منها في واقع حياتهم المعاش .

وحدث الهجرة يأتي والأمة تمر بامتحان شاق ، وبمراحل غاية في الصعوبة ، وهي اليوم على مفترق طرق...
ففي الوقت الذي تتجرع فيه آلام العذاب ، تتطلع من خلاله إلى آمال الإنعتاق من الظلم ، والاضطهاد ، والارتشاف من معين الحرية .
مما يجعل لهذا العام طعمه الخاص ، ومذاقه المميز ، ونكهته الفريدة .


فالإسلام لم ينتصر يوماً من الأيام دونما تضحيات ، ودونما أنات وهنات ، ودونما آلام وآمال ....... وإنما انتصر برجال صادقين عافوا الدنيا ، وتشربوا القيم ،والمبادئ ، وارخصوا الغالي والنفيس لأجلها .

فهذا رسول الله يأتيه عمه أبو طالب ويعرض عليه ما اقترحته قريش فيقول له يا ابن أخي : إن أردت ملكاّ ملكناك ، وإن أردت مالاً جمعنا لك حتى تكون أغنى أغنياء قريش ، وإن أردت زواجاً زوجناك ممن تشاء .
وما أن أكمل عمه حديثه حتى انتفض انتفاضة العُقاب ، وزأر زئير الأسد ....فقال :
( والله يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر .....ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ) .
ذلك أنه عليه السلام كان يريدها عقيدةً تُنتشر ، وفكرةً تسود ، ومجتمعًا يتكون وإسلامًا يقوم على وجهِ الأرض يُعلم الناس ما لم يتعلموه قبل هذا الإسلام العظيم.

وهنا تظهر قيمة الثبات على المبادئ ، وعدم التفريط فيها مهما كانت المغريات ، أو عظمت التحديات .

وهذا درس في غاية الأهمية ينبغي لدعاة التغيير اليوم أن يستلهموه في طريق مسيرتهم ، وهو سر النجاح ، ومفتاح الولوج إلى عالم الحرية .

إنَّ الاحتفال بحدث الهجرة لا يقتصر على تبادل التهاني والتبريكات ، ولا أن نقيم الموالد ، ولا أن نفرش الموائد ...كلّا وألف كلا .

إننا ونحن نحتفل بهذه المناسبة .... يجب أن نرتفع بأنفسنا إلى مستوى أيام الهجرة ، أن نرتفع بأرواحنا إلى مستوى أيام الهجرة ، أن نرتفع بذواتنا إلى أيام الهجرة ، أن نرتفع إلى إدراك المعاني الكبيرة الكامنة في هذا اليوم الكبير.

لذلك يجب أن يكون لهذا الاحتفال طابعه الخاص، وأن يكون له جوٌّه الخاص، وأن نُهيئ نحن أنفسنا لنكون جديرين بالاحتفال بهذه المناسبة الكريمة.

ولن نكون جديرين بأن نحتفل بيوم الهجرة إلا حين نرتفع بأرواحنا، وحين نرتفع بأخلاقنا، وحين نرتفع بأعمالنا وقيمنا إلى هذا المستوى الشامخ الرفيع، مستوى الهجرة النبوية الشريفة.

إن ذكريات محمد- صلى الله عليه وسلم  - لا يجوز أن ترخص.. لا يجوز أن تصبح سلعةً رخيصة في السوق.. لا يجوز أن تكون مجالاً لأن يحتفل بها كل مَن يحتفل قبل أن يُعد نفسه لذلك المستوى الرفيع، لذلك المستوى الكريم الذي أعدَّ محمد - صلى الله عليه وسلم - نفسه له هو وصحابته
حتى قال لعمه :
 "والله يا عمِّ، لو وضعوا الشمسَ في يميني والقمرَ في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره " .

هكذا كان حدث الهجرة...
( آلام مضت ، وآمال تتجدد ) .