آخر تحديث :الأحد-15 سبتمبر 2024-01:32ص


(ابو باشا)

الخميس - 16 مايو 2024 - الساعة 02:19 م

سعيد عولقي
بقلم: سعيد عولقي
- ارشيف الكاتب


(ابو باشا) كانت -- ولا تزال -- صحيفة الايام الغراء التي اسسها العميد محمد علي باشراحيل لذكراه الخلود مدرسة رائدة ومتميزة للصحافة العدنية الحرة، تولى العميد رئاسة تحريرها في اصدارها الاول، ومن بعده تولى ابنه هشام(ابوباشا) رئاسة تحريرها في اصدارها الثاني، وبعد رحيله عن دنيانا لذكراه الخلود تولى اخوه تمام باشراحيل رئاسة التحرير، والى يومنا هذا (صورة العميد، وهشام، وتمام).
بعد الاستقلال قررت الجبهة القومية الحاكمة تأميم الصحافة، وفعلت ذلك بخشونة وقسوة بكل المطبوعات.. وعند الايام توقفت قليلاً للتأمل.. كانت صفحة الايام وطنية ناصعة.. ناصرت قوى الكفاح المسلح ببسالة لنيل الاستقلال الوطني.. ومن بين تلك القوى كانت الجبهة القومية ذاتها.. لكن عزمها على التاميم تقرر.. وليس في قاموسها عرفان الجميل، بل ان نكران الجميل كان من عزائمها المفضلة.. تقرر تأميم الايام بقدر من اللطف تدخل فيه الاستاذ سالم زين للتسوية.. وتقرر ضم ممتلكات الايام لصالح القوات المسلحة.. وانطفأت اخر شموع حرية الرأي.. ودخلت البلاد في حقبة ديكتاتورية البدوتاريا. !!
بعد انقطاع طويل قرر ابو باشا هشام اعادة اصدار الايام على مافي ذلك القرار من عوائق وصعاب وعقبات.. ونجح في مهمته الجليلة.. وخرجت الايام الى النور مرة اخرى من جديد وفي حلة قشيبة.. وكان لي نصيب الكتابة فيها بعمود اسبوعي ارجعني الى عالم الصحافة بعد طول انقطاع.. تمسكت الايام بحق الصدور من عدن فيما اتخذت جل المطبوعات صنعاء العاصمة مقراً رئيسياً لصدورها.. وعادت لنا الايام.. وكانت لنا ايام.
الوحدة اليمنية كانت شعاراً فارغاً للاستهلاك المحلي منذ استقلال الجنوب الى ان تحول الشعار الحالم الى واقع حي بعد اكثر قليلاً من عشرين سنة.. وبعد اقل من عقد من الزمن تحول الحلم الى كابوس.. في بداية الوحدة انتقلنا الى صنعاء التي كان آل باشراحيل قد انتقلوا اليها بعد التأميم.. ولنا نحن المنتقلون كان بيت باشراحيل ومقر الايام واحة ظليلة نقضي فيها اجمل سويعات النهار في ديوان القات الملحق بالدار.
في بيت باشراحيل سررت برؤية عميد الايام في صحن الدار بعد سنين طوال.. طويلاً شامخاً بكل حلة اناقته المعتادة وابتسامته التي لا تفارق محياه:سلمت عليه وقال لي بود: قرأت مقالك الاخير، واعجبني، كان كلامه وسام ثمين على صدري.. قلت : يااستاذ انا لم ولن انسى كرمك معي يوم خصصت لي الصفحة الاخيرة من الايام اواخر الستينيات لنشر مقابلة اجريتها مع الفنان الكبير ابوبكر بلفقية.. هز رأسه كمن يريد ان يتذكر.. فواصلت متشجعاً : كما انك منحتني الصفحة الاخيرة مرة ثانية في حوار اجريته مع الفنانة الصاعدة نادية عبدالله.. هز رأسه مجاملاً بكرم زائد.. ولم يفارق ذهني محياه المتألق ابداً.
في الاصدار الثاني للايام كان ابو باشا قد ارتضى لنفسه، ولجريدته السير في حقل مليئ بالالغام.. كان علي البيض يقول : ان الوحدة ثمن ارتضيناه في سبيل قيمة كبرى هي الديموقراطية. !! كانت الرياح المتلاطمة من كل اتجاه تتقاذف البلاد بضراوة.. وفي مقدمتها كانت الايام صامدة في مهب الريح، وخلفها هشام ممسكاً بكل تحد بصفحات الايام. !!
ذات يوم اغبر مر بالايام كان عمر الجاوي ومعه حسن الحريبي من قادة حزب التجمع الوحدوي في الطريق الى دار الايام.. وفي لحظة توقف سيارتهما التي يقودها الحريبي امام بوابة دار الايام.. ظهرت فجأة سيارة هيلوكس محملة بالمسلحين، اتجهوا نحو الحريبي والجاوي وامطروهما بوابل من النيران قتلت الحريبي، واخطأت هدفها الاساسي، الجاوي، اما الصبي الصغير ابن الحريبي الذي كان معهما في السيارة فقد انسل تجاه باب الايام ودخل وفي رجله اصابة طفيفة من شظية اصابته واسعف في الداخل على الفور.. ولى القتلة الادبار، وكعادات اليمن قيدت القضية ضد مجهول، في اليوم التالي خرجت صنعاء في مسيرة حاشدة احتجاجاً..وسمي الحريبي اول شهداء الديموقراطية التي ماتت بموته، ودفنت مرة والى الابد.. لكن هشام باشراحيل اصر على الابحار في اتجاه الريح وكنا معه نخاف من السقوط عند اول صخرة. !!
صنعاء واصلت حياتها بنفس جمالها وبهائها الذي ليس له مثيل في اي مكان اخر واي عاصمة اخرى.. لاشيء يشبهها مهما تكالبت عليها الثعالب وتربصت بها الضباع. !! عند مقهاية شاي العدانية كنت يومياً القى الاستاذ عبده حسين"كركر جمل" وبعد الغداء والشاي العدني اقله بالسيارة ونذهب الى المقيل في دار الايام.. : قال لي:كلفني هشام ازكن عليك.. بكره الغداء عنده في البيت.. وانا بااكون معك.. سيقيم لك مأدبة غداء عدنية على كيفك.. لي انا؟ سألته فقال ايوه لك.. ليش تستقل بنفسك؟ هشام يعزك كثير.. وانا اعزه اكثر قلت له.. وفي موعد القات اخذت معي شوكولاته درب التبانة لصديقتي الكلبة لولو التي تقابلني بترحاب شديد.. كان النقاش محتدماً حول دخول صدام واثر احتلاله للكويت.. كان ابو منصور، سفير الكويت حاضراً كعادته حين يزورنا بعض المرات.. قال نجيب الذي كان يهول مقدرة صدام:ان العراق تملك صاروخاً يصل طوله من هنا الى بيرعبيد3كيلو !! التفت اليه باشرين مهتماً وقال:مادام كذا معادش في داعي يضرب به.. يكفي انه يمدده مداد. !!
اخجلني كرم الاستاذهشام ومأدبة الغداء الرائعه التي اقامها وحوت اطباقاً كثيرة كنا قد نسيناها من مينيو المطبخ العدني العريق.. قلت : هذا كثير يااستاذ.. قال صلي عليه ياشيخ احنا اهل، والا نسيت؟؟ والحق اني كنت قد نسيت.. فاسترسل في التفاصيل يذكرني اننا اقرباء بالمصاهرة.. اصل الحجة فلانة مع الست فلتانة.. والوالد فلان.. يقع للشيخ علان.. وكذا.. تفاصيل كثيرة استحال على ذاكرتي استيعابها.. وبعد الشاي العدني تشرفت بلقاء عقيلته الكريمة ام باشا التي اهدتني قالباً من اجود قوالب البخور العدني.. قالت : هذا من صنع يدي. !! اثار كلامها دهشتي كما اثاره قبل ذلك لقائي بالسيدة الجليلة الكريمة ام هشام.. ومضت بنا الايام ومضينا بها.. في مبرز الايام بعدن ابلغني ابو باشا بدعوتنا الى ندوة في صنعاء يعد لها اللواء علي الشاطر رئيس التوجيه المعنوي للجيش ورجل الرئيس احتفاءً بمناضلي حرب التحرير وشهداء الثورة.. مسكين الاستاذ الشاطر الذي فقد احدى عينيه.. قيل ان الرئيس صالح فقد اعصابه في ثورة غضب ورمى الشاطر بطفاية سجاير غليظة ذهبت بعينه وارسل على عجل للعلاج في الخارج. !!
طلب منا اعداد مداخلات بمناسبة الندوة نلقيها فيها.. فكتبت صفحتين فولسكاب ولم اجد مااقوله اكثر. !! تقرعنا في الصباح في ضيافة هشام بمخبازة صيرة، انا والاساتذة نجيب اليابلي، وعبدالرحمن خبارة.. وانطلق بنا ابوباشا بسيارته السوزوكي التي ساقها الى صنعاء.. وفي الندوة الحاشدة التي افتتحها الرئيس صالح وادار وقائعها الاستاذ حسن اللوزي قدم كل مشارك مداخلته.. وجاء دوري بعد الاستاذ هشام.. جلسنا بجانب بعضنا.. وبدأت قراءة مداخلتي على القوم.. وبعد بضع دقائق تصايحت اصوات احتجاج، وساد هرج ومرج بين الحضور، واستقام ضابط ليوبخني على ماصدر عني من كلام في مداخلتي.. وايده اخرون.. لكن اذكر ان الاخ احمد الحبيشي والاخ سالم باجميل دافعا عن حقي في الكلام.. وكذلك الاستاذ اللوزي، وكنت قد سكت عن الكلام متوجساً فطلب مني اللوزي الذي ادار اللقاء بحياد ان استمر واكمل مداخلتي ففعلت. !! وجاء الاستاذ الشاطر وطلب مني نص المداخلة فاعطيتها له وطلبت تصوير نسخة عنها لي ففعل ذلك مشكوراً..واعطاني3نسخ. !!
قال لي هشام باشراحيل : يبدو انك تتعمد اثارة الجدل، وربما الشغب في كتاباتك. !!
قلت له مستسلماً : انت على حق.... ومع ذلك فقد فوجئت فعلاً بنشر نص مداخلتي كاملة في ثلاث صحف في وقت واحد : الايام.. و26 سبتمبر.. والتجمع... ولكن مااجمل ايام الايام