آخر تحديث :الخميس-02 مايو 2024-10:01ص

الألف السعودي ودروب الموت ،،،

الثلاثاء - 02 أبريل 2024 - الساعة 10:40 م

د. سعيد سالم الحرباجي
بقلم: د. سعيد سالم الحرباجي
- ارشيف الكاتب



محمد شاب خلوق ، مهذب ، مجتهد في دراسته ،  نشأ في أسرة ميسورة الحال ، والده كان مهاجراّ، وكانت أسرته تحبه كثيراً لكونه الذكر الوحيد وبقية أفراد العائلة إناث.

شاءت الأقدار أن يتوفى الأب ليترك  محمداً وبقية أفراد أسرته دون عائل ، ودون مصدر دخل يعتاشون من خلاله ،،
كافحت الأم كي تربي أولادها ، وكان محمد قد ناله قسط من المعاناة  وهو لا يزال في المرحلة الثانوية .

وفي صبيحة يوم مشؤوم وبينما كان محمد  يتهيٌأ للذهاب إلى المدرسة إذ  به يسمع صوت والدته وهي تردد _ حسبنا الله ونعم الوكيل _ تقدم نحو  مصدر الصوت بهدوء فأصغى إلى أمه وهي تحدث نفسها وتقول : 
بالأمس خربت الغسالة ولم نتمكن من إصلاحها ، واليوم خربت الثلاجة ولن نتمكن من إصلاحها ، ورحى الغلاء توشك أن تقضي على كل شئ في المنزل ......حتى المواد الأساسية عاجزون عن توفيرها  لهذا الشهر ، ثم رفعت يديهيا ألمرتعشتين إلى السماء وتمتمت بدعاء طويل ، وحزين ،،،

كان محمد يرقبها من بعيد  وهو يسمع تلك التمتمات التي كانت بمثابة طعنات في جسده ..
تسلل بسرعة إلى غرفة نومه وأرتدى ملابس الدراسة ، وأخذ حقيبته بينما كانت أمه تجهز وجبة الفطور ،،
ابتلع لقيمات على مضض ثم ودع أمه وغادر المنزل متوجهاً إلى المدرسة ...
دلف المدرسة يجر رجليه جراّ ، تتثاقل خطواته ، تعلو محياه كآبة حزن قاتمة  ،  تكاد ساحة المدرسة أن تضيق به وتخنق أنفاسه .
انتحى جانباً وجلس منفرداً ريثما يأذن مدير المدرسة
بدخول غرف الدراسة .
تقدم نحوه بعض زملائه وتحدثوا معه ، سألوه عن ما يعكر صفو حياته ، عرضوا عليه أن يشاطروه همه ، وأن يقفوا إلى جانبه .. 
إلا أنه أظهر لهم تجلداً وإباء ، وعزة ...وأخبرهم أنَّه أنما يعاني من إرهاق نتيجة انقطاع الكهرباء ليلة البارحة...

دخل الصف ... وبينما كان زملاؤها يملاؤون قاعة الصف حيوية وتفاعل  ، ونشاطاً  ، كان هو شارد الذهن تماماً ، لم يكن متواجداً إلا لحماّ وعظماّ وحسب .
تنبه أستاذ اللغة العربية لحال محمد ، فلما أنهى الدرس وخرج الطلاب ، استدعى محمداً  وأخذه إلى  إدارة المدرسة ...
وهناك تحدث معه عمٌَا يخفيه ، وما يعانيه ..
حاول  جاهداً أن يتمالك نفسه ، وَيُظهر للمعلم أنَّ الأمر مجرد إرهاق ، وتعب نتيجة قلة النوم ، لكن الأستاذ ألحَّ عليه  أن يصدق معه القول ، فما كان من  محمد إلا أن أباح لمعلمه  عمَّا يجيش في خاطره ، وما ينوي أن يعمله ، ،،
حاول المعلم مواسته ، ووعده أن يقدم له الدعم الكافي 
حتى يتمكن من إنهاء دراسته ...
إلا أنه لا يزال مصراً على اتخاذ قراراّ خطيراً سيغير 
مجرى حياته ..
عاد محمد إلى منزله مكسور الخاطر ، يحمل هموم الدنيا على رأسه . دخل غرفة نومه وبدأ يتحدث مع نفسه :
لقد وجدت الحل ،،
أجل لقد وجدت الحل الذي سيغير حالنا ، وسنعيش حياة أفضل ، وسأصلح الثلاجة ، والغسالة ، وسأعيد ترميم بيتنا المتهالك ، وسأجعل أمي تلزم المنزل بدلاً من البحث عن أعمال تهرهقها لتحصل على ما يمكنها من إعالة أخواتي .
نعم ، نعم ،،
لقد وجدت الحل ،،
سأذهب إلى جارنا  عبدالله سمعت أنٌَ له   علاقة بقائد أحد الأولوية العسكرية وسأطلب منه أن يتعاون معي كي ألتحق بالسلك العسكري ..وسأحصل على ( ألالف السعودي ) ..
أجل ( ألف سعودي ) سأنقذ حياتنا .
اختمرت الفكرة لديه ، وقرر قراره الأخير _ رغُم أنه لا يزال في السابعة عشر من عمره _  قرر فعلاً أن يخوض المغامرة  للحصول على ( الألف السعودي ) .
خرج من غرفته وكأنما نشط من عقال !!!
ونادى بصوت عال : 
يا أماه سأذهب إلى جارنا عبدالله  كي يتعاون معي وألتحق بأحد الأولوية العسكرية وسأحصل على ( ألالف السعودي )
أجل يا أماه ( ألف سعودي ) سنشري كل الأجهزة المنزلية وسأعيد تأهيل المنزل  وسنعيش حياة أفضل يا أمي .

رحبت المسكينة بالفكرة وهي مكرهة ،،
أسرع محمد وطرق باب جاره وعرض عليه الفكرة ، وما كان منه إلا أن  أبدى استعداده لمساعدته ..وعلى الفور اتصل بسعادة القائد ..
القائد الذي كان بالأمس يعمل في سوق القات لكن  وبقدرة قادر أصبح اليوم يحمل على كتفيه رتبة ( عميد ) ويقود لواءً عسكرياً !!
فيا لحظه السعيد !!!
يبدو أنَّ أمه دعت له في ليلة من الليالي المباركة حتى ظفر بهذا الجاه ، وبهذا المنصب !!!
رحب  سعادته بصديقه وأبدى استعداده أن يقبل الضحية الجديدة  عفواً ( الجندي الجديد ) لينظم إلى لوائه.
تفتحت أسارير محمد ، وشعر بسعادة تملأ جوانحه .
عاد مسرعاً إلى أمه وأخواته وأخبرهم أنه غداً سيغادر عدن للالتحاق باللواء الفلاني .
سعد الجميع ، وباتوا جميعا تلك الليلة في حسابات طولية ، وعريضة ، يخططون لما سيفعلون ب ( الألف السعودي) .
جهزت الأسرة الكريمة أغراضه ، وحزموا أمتعته ، وفي الصباح الباكر ودعوه وكلهم أمل أن تتغير ملامح حياتهم !!!
انطلق الشاب الذي لم يكمل العقد الثاني من عمره ، ولم يكن له معرفة بالتعامل مع قطعة السلاح البسيطة !!!
فما أن وصل إلى المعسكر  الذي لا يوجد فيه إلا  ضحايا الحاجة ، والعوز ، والفقر وهم قلة قليلة ، أما ( حمران العيون)  فهناك متنعمون مع أسرهم ، يصلهم ( الألف السعودي ) عبر الحوالات .
أنضم  ضحية ( الألف السعودي)  إلى بقية الضحايا القديمين....
وما هي إلا أيام قلائل حتى وصل سعادة القائد وأعلن أنهم سيقوم بهجمة على عدو الوطن  المجرم .
 استنفر الحاضرون وأخذوا أسلحتهم ، وأعطوا محمداً قطعة سلاح..... فأنتشى المسكين فرحاّ ، وأخذ يقلب قطعة السلاح ، وهو لأول مرة تراها عيناه .
تطوع أحد زملائه ليريه كيف يستخدمها على عجل لأنهم منطلقون إلى الملحمة التأريخية .
وفي الصباح الباكر تحركت القوة العسكرية إلى مكان المهمة وبدأت المعركة واختلط الحابل بالنابل ، وثار غبار الحرب ، ولعلعت الذخيرة   ، وتعالت أصوات المدافع .

احتمى المحاربون القدماء بالخنادق ووراء الدروع ، وبقي محمد حائراً لا يدري كيف يتعامل مع واقع المعركة ، لأنه لم يتدرب على فنون الحرب ، ومقتضيات المعارك ...
فما كان منه إلا أن  يكون أول الضحايا سقوطاً ..
انتهى الجيش المظفر من مهمته ، وخمدت نيران المعركة ، وعاد الجنود إلى ثكناتهم .
حملوا أشلاء الضحايا والمصابين ، وكان الشاب الحالم أحدهم .
لفوه في بطانية خضراء كتبوا عليها ( الشهيد محمد ) 
وأرسلوه إلى أسرته !!
وفي صبيحة يوم جميل إذ كانت الأسرة مجتمعة  منتشية نتيجة زيارة كرائم أم محمد وأبنائهن ، وهم يتبادلون أخبار المنقذ ، ويحلمون باستلام أول ( ألف سعودي ) .
بينما هم كذلك إذ بالتلفون يرن .... أسرعت الأم المسكينة وأخذت الجوال : هلا حبيبي ، أخبارك ؟  نحن في خير وعافية ، وخالاتك يسلمن عليك ، ويسألن عن حالك ، وكذلك عمك علي 
يسلم عليك ، المهم كيف أنت ؟ وكيف الوضع عندكم ؟
أخذت تسترسل في الحديث ولم تتنبه إلى صوت المتصل ..
الووووو محمد ،،لماذا  لا ترد ؟

أبعدت الجوال عن أذنها ،ثم أعادته مرة أخرى ....
الووووو محمد ، الوووو محمد .
لم يرد عليها المتصل لأن لسانه انعقد عن الكلام ،،
كيف يحدثها ، كيف يوصل لها الخبر الصاعق .
ساد وجوم لدى الجميع ، واستشعروا أنَّ الأمر غير طبيعي . 
الوووو محمد ، الووووو محمد ،،
رد عليها المتصل :
يا أماه أنا زميله عزالدين ،،،
أهلا وسهلا ً 
أين محمد ؟
رد عليها : الحمد لله .
محمد ارتقى شهيداً عند الله ، هنيىاً له الشهادة ، هنيئاً له الشهادة .
سقط الجوال من يدها المرتعشة ، وخرت مغشياً عليها من الفاجعة ، وفقدت الوعي ، وتعالت الأصوات بالنواح ، والعويل ...وأظلم المنزل .
وعاد المنقذ الحالم أشلاء ممزعة ملفوفة في بطانية كتب عليها ( شهيد الوطن محمد ) .
استقبل الجيران وبقية الأهل (الشهيد ) وواروا جسده الطاهر القض النظير .....واروه الثرى ، وواروا معه كل أحلامه وأحلام أسرته المسكينة  لتبدأ الأم مع حكايه جديدة ، ومعاناة من نوع آخر مشوبة بأمراض إصابتها من هول الفاجعة .
فلك الله أيها ( الألف السعودي ) !!