اليوم، في عصر العولمة واشتداد التنافس الاقتصادي،أصبحت معظم الدول تتبنى نموذج الاقتصاد القائم على الابتكار ونقل المعرفة وإنتاجهابواسطة البحث العلمي الجاد، الذي أصبح حقاً رأسمالا وسلعة قابلة للتسويق؛ للبيعوالشراء. فاليوم لم يعد التسويق قاصراً على المنتجات المادية والخدمات فقط، بل أنهبات يشمل المعرفة والأفكار، وأصبح على الجامعات والمراكز تسويق أنشطتها البحثية وخدماتهاليس فقط للطلاب، بل كذلك للمؤسسات الاقتصادية الإنتاجية والمجتمع بشكل عام. وأصبح لدىالأستاذ الجامعي والباحث الماهر سلع عليهما تسويقها بجدارة وفاعلية.
ولنستطيع تسويق ما ننتجه من معرفة وبحث علمي،داخليا وعالميا، علينا أولا تجاوز الظاهرة السائدة في الجامعات العربية بشكل خاص،والتي تكمن في ربط الحصول على الألقاب الأكاديمية بإنجاز عدد البحوث العلمية وإلزامالمدرسين بنشرها في مجلات (علمية محكمة)، لا يمت معظمها للعلم الجاد بأي صلة، بلأنها في الغالب تتخذ من نشر البحوث وتعميمها وسيلة للكسب. وليس صحيحا أبدا أن حصولهذه المجلة أو تلك على رقم دولي، أو صفة زد أو أكس دليلا على جودة ما تنشره وتعممهمن بحوث علمية.
وبالنسبة لمعظم المؤسسات البحثية والأكاديميةالغربية فهي قد توقفت منذ نهاية القرن الماضي عن تعميم البحوث العلمية من خلالالنشر المجاني لما تتضمنه مجلاتها العلمية. وقبل ذلك، وعلى مدى بضعة عقود من الزمن،كانت الصين واليابان وألمانيا قد استفادت كثيرا من المعرفة المنتجة في الولاياتالمتحدة وبريطانيا أكثر من الأمريكيين والبريطانيين أنفسهم.
ومنذ مطلع هذه الألفية تشهد الجامعات على المستوى العالميتحولات جذرية فرضتها عليها العولمة وسيادة اقتصاد السوق وسياسة التمويل الذاتيالتي تلزمها بتجاوز التركيز على مهمة تأهيل الطلبة، الاهتمام أكثر بالمشاركة المباشرةفي مختلف مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، في بلدانها.
ولهذا نلاحظ أن المؤسسات الجامعية والبحثيةالغربية قد حدّت اليوم كثيرا من النشر المجاني للبحوث، وذلك بسبب ربط تمويلالمؤسسات الاقتصادية الخاصة والعامة للبحث العلمي باحتكار نتائج ذلك البحث العلمي،وعدم إتاحته مجانا لأي جهة أخرى. لقد أصبح البحث العلمي حقا سلعة يتم تمويلإنتاجها وبعد ذلك احتكارها وتسويقها.
وللنهوض بمستوى البحث العلمي في بلادنا علينا خلقآليات مراقبه صارمة وفعّالة لكيفية قيام منتسبي جامعاتنا بمهامهم البحثية،والتعاون الحقيقي بين المؤسسات الجامعية والبحثية والمؤسسات الإنتاجية في القطاعينالعام والخاص من أجل وضع أسس شراكة حقيقية ومثمرة. فاليوم لم يعد في إمكان الجامعةأن تظل مجرد مكان لإنتاج المعارف النظرية ونقلها، بل ينبغي إسهامها في مختلف مشاريعالتنمية.
ولكي يتم تفعيل دور جامعاتنا في هذا المجال عليهاأن تعيد النظر في كيفية تعاملها مع منتسبيها ونشر الوعي بينهم بأهمية التسويقالذاتي للباحث العلمي وأبحاثه وإنجازاته العلمية، والتوسع في إنشاء المراكز المتخصصةفي البحث العلمي ونقل المعرفة والتكنولوجيا، واستحداث حاضنات للمشاريع الإبداعية،ومجمع تكنولوجي، وكذلك إنشاء إدارة لتسويق البحث العلمي ضمن هيكلها، وخلق هويةرقمية للباحثين، وقواعد بيانات دقيقة عن الأكاديميين والباحثين وتعميمها علىالمؤسسات الإنتاجية، والترويج لمنتوجها العلمي من خلال تنظيم المعارض الأكاديميةواللقاءات المستمرة بين الأكاديميين والمستفيدين من القطاعين العام والخاص.