قلت لزميل ألماني: ثلثا الألمان قالوا إن إسرائيل دولة لا يعنيهم أمرها، بحسب استطلاع لمؤسسة فورسا قبل يومين فقط. قال: أنا أيضا لا تعني لي شيئاً.
الصورة القادمة من غزة دفعت الإعلام الألماني إلى إلقاء اللائمة على "المجموعة المتطرفة التي تحكم تل أبيب". صار نتنياهو خطراً يتهدد الديموقراطية الإسرئيلية، يداه تلطختا بدم بريء، ونظامه خطر على أمن إسرائيل على المدى الطويل. وبات من السهل على الصحفي الأوروبي أن يقتبس من بابا الڤاتيكان وصفه للحرب على غزة بالإرهاب، بعد أن تسببت بمقتل سيدتين كاثوليكيتين (اختلف الأمر نحواً ما حين كان القتلى أرثوذكس).
استطلاعات الرأي تعطي نتيناهو حظوظاً متدنية مقارنة بأبرز منافسيه. فليحمل هو اللعنة والجريمة بما أنه ذاهب، حتى يجد العالم المتحضر مندوحة للقول وقفنا مع إسرائيل التي كان يقودها، للأسف، الرجال الغلط الخطأ. من من الممكن أن يخلف نتنياهو؟ نفتالي بينيت أحد أبرز المرشحين لخلافته.
طل بنيت بالأمس على برنامج هارد توك على BBC مع مقدم البرنامج ستيفن ساكور. سأله المذيع: هذا القصف العشوائي على رؤوس المدنيين، ألا تخشون أن يدفع الناس إلى أحضان حماس؟ يرد بينيت: الفلسطينيون على كل حال معادون لليهود منذ الولادة، نحن بالنسبة لهم خنازير. كلما أعطيناهم قطعة أرض ليسكنوا فيها جعلوها منصة للإرهاب.
وفي ختام اللقاء يقول: حاولنا ثلاث مرات إعطاء الفلسطينيين أرضاً ليقيموا عليها دولتهم ولكن محاولاتنا باءت بالفشل. لن نحاول مرة رابعة.
لا توجد صورة أكثر اعتدالاً من بينيت حالياً، حتى وهو يقول بكل ثقة: إن كل مستشفى وكل مدرسة في غزة ليست سوى قاعدة عسكرية لحماس.
سواء ذهب نتنياهو أو بقي في مكانه فإن اليمين الراديكالي قد استحكم من السياسة وسيطر عليها. فبحسب استطلاع رأي أجراه معهد إسرائيل للديموقراطية IDI في أغسطس ٢٠٢٢ فقد وصف ٦٢% من الناخبين الإسرائيليين أنفسهم بأنهم يمين، مقارنة ب ٣٩% في العام ١٩٨٦م. بين العامين ٢٠١٩-٢٠٢٣ حدثت خمسة انتخابات إسرائيلية انتصر اليمين في جميعها. لا يوجد معادل موضوعي لليمين الإسرائيلي، وعلى نحو متسارع يهوي اليسار ويختفي من رادار السياسة.
لم يعد الأمر يتعلق بنتنياهو بل بالبلد المسمى إسرائيل. فما إن أعلن الجيش الإسرائيلي عن خطته لاقتحام غزة حتى تطوع آلاف اليهود الحريديم (المتطرفون) للقتال. في العادة يرفض الحريديم الخدمة في الجيش وبدلا عن ذلك يؤدي أبناؤهم بين ١٣-٢٢ عاماً الخدمة بالانقطاع لوقت كاف لدراسة التوراة.
حين يتعلق الأمر بقتال العرب، أو بالحديث عن دولة لهم، فإن إسرائيل تقف على قلب رجل واحد، ويحمل الحريديم السلاح.
إذ لا تزال استطلاعات الرأي تكشف دعماً منقطع النظير داخل المجتمع الإسرائيلي للحرب على غزة. يحدث هذا بينما يقول تقرير مروع للأسوشييتد برس هذا اليوم عن تلك الحرب:
إنها أكثر حرب تدميرية في العالم. فاق الدمار الذي حدث في غزة ما حدث لألمانيا في الحرب العالمية الثانية (١٠% من منازل ألمانيا سويت بالأرض مقابل ٣٣% من منازل غزة). وتجاوز عدد القتلى المدنيين في شهرين إجمالي ضحايا التحالف الدولي لمواجهة داعش خلال ثلاثة أعوام، بحسب أسوشييتد برس.
التوحش الإسرائيلي، التعالي الأحمق، سيجعل سكان البلد ينامون على الحقائب المعبأة. وهو تعبير استخدم لوصف حال اليهود الذين عاشوا في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. كانت الأخبار تصلهم عن النازية التي تخرج من بين الركام، ما دفعهم لتعبئة حقائبهم والنوم فوقها. ففي العام ١٩٤٧م، بعد سنتين من انتهاء الحرب، قال استطلاع رأي صادم إن ٣٣% من الألمان يتمنون لو أن اليهود يختفون من الوجود، بينما قال ٦٢% من المستطلعة آراؤهم إنهم معادون للسامية (٢٢% منهم قالوا: معادون جداً).
العدوان الإسرائيلي الهمجي على غزة، بالصورة المرعبة التي رآها العالم، هو أخطر تهديد وجودي للدولة اليهودية الوحيدة في الأرض. وقد كان بمقدروها أن تسلك سلوكاً متحضراً ومتواضعاً مع جيرانها بما أنها جيب أبيض دخيل في بيئة سمراء معادية.
م.غ.