آخر تحديث :الأحد-22 ديسمبر 2024-09:16ص

الانتقام يحفر قبر الدولتين

الأحد - 17 ديسمبر 2023 - الساعة 11:23 م
خالد اليماني

بقلم: خالد اليماني
- ارشيف الكاتب


 

قال الرئيس جو بايدن في لحظة صفاء خلال الخطاب السياسي الأميركي أثناء حفل لجمع التبرعات لمصلحة حملة إعادة انتخابه لدورة رئاسية ثانية نهاية 2024، "إن أبواب الفرص لا تزال مشرعة في دول المنطقة لخيارات الأمن والاستقرار والتنمية والتطور، ولكنها تنتظر قبول الإسرائيليين بحل إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة"، إلا أن الحكومة الإسرائيلية الأكثر تطرفاً في حياة الدولة اليهودية ومن فيها من المتعصبين من أمثال ابن غفير لا يمكن أن يصنعوا السلام.

وتناول بايدن جانباً من حديث دار بينه ورئيس الوزراء الإسرائيلي أخيراً قال فيه الأخير للرئيس الأميركي "لقد قصفت ألمانيا بالقنابل الذرية، ومات كثير من المدنيين"، في محاولة لتبرير القصف العشوائي الذي أودى ويودي بحياة آلاف المدنيين الفلسطينيين داخل قطاع غزة في سبيل القضاء على حركة "حماس"، فكان رد بايدن أنه "بسبب ما حدث في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية قامت كل المؤسسات لضمان عدم تكرار ذلك مرة أخرى".

وكرر الرئيس بايدن نصحه للإسرائيليين، وهو ما سبق وقاله مع بداية حرب غزة، بعدم اتباع نهج الانتقام في المعركة ضد "حماس"، لأن منطق الانتقام يسقطها في الشرك الذي وقعت فيه أميركا عقب أحداث الـ 11 من سبتمبر (أيلول) التي أفضت إلى خوض حرب أفغانستان بكل مآسيها وعدميتها وكلفتها الاقتصادية والبشرية، ونهايتها بعد 20 عاماً بذلك الانسحاب والهرب.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من جانبه أطلق تصريحات تصعيدية أبرزها أنه لا يقبل تكرار خطأ "أوسلو"، وبهذا يضع نهاية لفكرة السلام مع الفلسطينيين وأنه لا يقبل بعودة السلطة الوطنية الفلسطينية إلى غزة بعد انتهاء الحرب، بقوله إن غزة لن تكون "حماسستان" ولا "فتحستان"، وواصل الإصرار على عدم وقف إطلاق النار حتى القضاء على "حماس" بدعم خارجي أو من دونه، وأنه لا يشرفه أن يكون رئيس وزراء لإسرائيل فيما يتلقى التوجيهات من الخارج.

ويحاول نتنياهو بهذا الخطاب الموجه لأنصاره من اليمين المتطرف في الداخل الإسرائيلي القول إنه المنقذ لفكرة إسرائيل الكبرى، وأنه الوحيد الذي بمقدوره الوقوف في وجه الرئيس الأميركي.

الانتقام والإرهاب مؤشرات القيامة

يعتقد كثير من المراقبين أن اليمين المتطرف في الحكومة الإسرائيلية التي وصفها الرئيس بايدن بالأكثر تطرفاً في عمر إسرائيل الفتي الممتد لـ 75 عاماً، يقود اليوم برفضه فكرة التعايش وإنكار الوجود الفلسطيني، أو كما قال الوزير المتطرف سموتريتش إن "فكرة إقامة دولة فلسطينية هي انتحار لدولة إسرائيل". ولطالما كرر نتنياهو في أحاديثه وكتاباته أن دولة إسرائيل صغيرة جداً، وهي محاطة بدول عربية ذات مساحات شاسعة، وأنه يستحيل على هذه الدولة الصغيرة أن تكون مكاناً يستوعب دولة للفلسطينيين، وأن عليهم الذهاب إلى الدول العربية كي يعيش الجميع بسلام.

وتعزز هذه السردية الإقصائية فكرة اليمين المتطرف في حرب غزة والذي يصر على الانتقام والتنكيل بالمدنيين والتهجير، بل والتلويح بمشروعية استخدام القنابل الذرية، وهي برأيي تشكل مدخلاً لحفر قبر كبير لدفن مشروع الدولتين، ليس الفلسطينية وحسب، ولكن الإسرائيلية أيضاً.

في كتابه "بيبي، حكايتي" المنشور نهاية العام الماضي، يكرر نتنياهو تلك الأفكار المتطرفة ويؤكد أنها رؤيته للسلام والتي تشاركها كما يقول مع الرئيس ترمب في ما عرف بـ"خطة السلام من أجل الازدهار"، ويؤكد أنه يعرض بكرم الازدهار على الفلسطينيين في مقابل إسقاط الدولة الفلسطينية المستقلة، ويشترط الاعتراف بيهودية الدولة وسيطرة إسرائيل على كامل الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن وعدم العودة لحدود 67، ورفض عودة اللاجئين وبقاء القدس عاصمة لإسرائيل وقضم 30 في المئة من مساحة الضفة الغربية التي تقع فيها المستوطنات، وهي الأفكار التي رفضتها السلطة الوطنية الفلسطينية والدول العربية والمجتمع الدولي، وكل ما يقدمه نتنياهو للفلسطينيين هو عبودية وخنوع في مقابل فتح أبواب العمل لهم في الزراعة وبناء مزيد من المستوطنات والخدمة في إسرائيل.

وفي المقلب الآخر هناك الاستمرار في نهج تجريب العنف تدميراً لنضال الشعب الفلسطيني الطويل، فلم تحقق "حماس" أي نصر للشعب الفلسطيني الصابر، ومع هذا تصر قياداتها وهي تنعم بملذات العيش في الخارج على أنها تحقق الانتصارات تلو الانتصارات في الحرب على أشلاء آلاف المدنيين الأبرياء الذين تقطعت بهم السبل، بين من يستخدمهم دروعاً بشرية ومن ينتقم منهم، فدماء المدنيين الفلسطينيين رخيصة بالنسبة إلى "حماس" كما هي بالنسبة إلى الولي الفقيه في طهران، وحتى خطابات قيادات "حماس" التي صدرت أخيراً جاءت متضاربة حول فكرة حل الدولتين ولم تصل يوماً إلى الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً للشعب الفلسطيني، ولا القبول بالبرنامج الوطني الفلسطيني، وقد تهربت من الالتزام بهذا التوجه في مختلف مساعي الدول العربية لجمعها مع القيادة الفلسطينية، وما تصريحاتها الأخيرة إلا جزء من التقية السياسية سرعان ما تعود عنها فور الخروج من مأزق غزة.

إسرائيل تؤرق الداخل الأميركي

وفيما تتواصل الحرب في يومها الـ 71 تتفاعل في الداخل الأميركي تيارات الرفض للحرب وكلفتها البشرية ونبرتها الانتقامية، فإضافة إلى تصريحات الرئيس بايدن يزداد النقاش بين صفوف الديمقراطيين والليبراليين بمن فيهم كثير من الأميركيين اليهود، للمطالبة بضرورة الضغط على إسرائيل لإنهاء حربها في غزة، وتزداد المطالبات بين هذه التيارات بضرورة إخراج المتطرفين من الحكومة الإسرائيلية وإقصائهم وعزلهم، فهذه قوى تريد توسيع الاستيطان في الضفة الغربية والقدس بل وإعادة استيطان غزة، وفتح المجال أمام القوى السياسية التي يمكنها إعادة طرح حل الدولتين مع السلطة الوطنية، الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني.

تقول الكاتبة والناشطة الأميركية اليهودية سيليستي ماركوس في مقالة الأسبوع الماضي بصحيفة "واشنطن بوست" إنه "حان الوقت لكي يمارس اللوبي الإسرائيلي في أميركا قوته الكبيرة في خدمة إقامة دولة فلسطينية، دولة قومية يستطيع فيها 7 ملايين فلسطيني في المنطقة التمتع بالمواطنة الكاملة التي تحرم إسرائيل الغالبية العظمى منهم التمتع بها، فالفلسطينيون يستحقون مستقبلاً يليق بهم وبتطلعاتهم، ويجب على الصهاينة الليبراليين الأميركيين أن يقاتلوا من أجل ذلك أو يشهدوا تكرار 75 عاماً من الدم والألم، ومن مصلحتنا معارضة التوسع الاستيطاني والعنف المسعور الذي يمارسه المستوطنون، ومن مصلحتنا أن ندعم السلطة الفلسطينية، ومن مصلحتنا معارضة السياسات التي ينفذها نتنياهو، وإن التزامنا بحل الدولتين يجب أن يرتكز على الاعتراف بأن شعبينا مرتبطان مثل شريانين ملتفين حول بعضهما بعضاً، وأن أرضنا المشتركة شربت من دمائنا وعلينا أن نجد طريقة لتقاسمها بسلام".

وتبقى الأسئلة الكبرى في هذا الصراع الدامي الممتد لأكثر من 75 عاماً، هل سيكون بمقدور إسرائيل أن تعيش كدولة سوية في مجتمع الدول بحدود مرسّمة ومعروفة ونهائية بعيداً من الادعاءات المسيانية الأسطورية؟ وهل ستقبل استمرار عقلية التطرف والانتقام وعبث المستوطنين؟ وهل يستطيع الإسرائيلي يوماً العيش جنباً إلى جنب مع الفلسطيني سادة شركاء في الأرض؟ وأن يتعاونا ويتركا خلف ظهريهما مآسي السنين، ليتذكروا دائماً أن أرضهم ارتوت بدماء أبنائهم، وأن كل زيتونة تنبت على وجه تلك الأرض مغمسة بالدم؟

لقد قدمت السلطة الوطنية الفلسطينية والعرب رؤاهما للسلام المستدام، وقبلوا بـ "أوسلو" مدخلاً لحل الدولتين، وقدموا المبادرة العربية للسلام للحل الفلسطيني العربي - الإسرائيلي، وتبعتها السعودية أخيراً برؤية للسلام والتواصل والازدهار مقرونة بحل الدولتين، فلا يراهن نتنياهو بأنه حقق مكاسب بعلاقاته الثنائية مع بعض الدول العربية في مقابل أنه سيسحق نضال الشعب الفلسطيني بعنف المستوطنين والانتقام.

على إسرائيل أن تقرر مآلات اليوم التالي، بما في ذلك مراجعة حساباتها المغلوطة التي أطلقها نتنياهو خلال تصريحاته الأخيرة بأن الدول الخليجية ستتكفل بإعادة إعمار غزة، أو كما قال الكاتب توماس فريدمان في "نيويورك تايمز" الأسبوع الماضي "إن إسرائيل تكون واهمة إذا اعتقدت أن الدول الخليجية ستسارع بأكياس من المال إلى إعادة الإعمار، ما لم يكن لدى إسرائيل شريك فلسطيني شرعي وفعال وتلتزم له بالتفاوض لحل الدولتين".