آخر تحديث :الخميس-02 مايو 2024-04:02ص

ذكرياتي في الولايات المتحدة الأمريكية

الخميس - 23 نوفمبر 2023 - الساعة 07:42 م

ناصر علي الحربي
بقلم: ناصر علي الحربي
- ارشيف الكاتب


اتيحت لي خلال الاعوام 1997 حتى 2013 فرص كثيرة لزيارات رسمية للولايات المتحدة الامريكية. ولأنها زيارات كثيرة ومعظمها بروتوكولية مثلت فيها دائرة التخطيط ضمن وفود عسكرية وتركزت على زيارة البنتاجون ووزارة الخارجية والكونجرس ومراكز البحوث وغيرها من المؤسسات الحكومية وشملت برامج هذه الزيارات أنشطة بحثية   وحوارات استراتيجية مع نظرائنا الأمريكان.

إلا أني اخترت من كل هذه الزيارات الحديث هنا، عن أول زيارة قمت بها في فبراير/ مارس 1997م. لحضور دورة هامة مدتها (25) يوما سميت "دورة السائح الدولي"، وهي دورة ممتعة وشيقة لما لها من فوائد كبيرة في التعرف على المجتمع الامريكي بتنوعه وتعدد جنسياته وثقافاته وتنوع جغرافيته.

بعد اشهر من تعييني مديرا عاما لدائرة التخطيط والتنظيم والاحصاء في القوات المسلحة وتحديدا في بداية العام 1997م استدعاني اللواء ركن محمد علي القاسمي نائب رئيس هيئة الاركان العامة للحضور الى صالة وزارة الدفاع قابلني ومعه الاخ/ رئيس هيئة الاركان العامة اللواء ركن / عبدالله علي عليوه.

عرض عليه القاسمي موضوع يتعلق بترشيحي في دورة خارجية قصيرة في الولايات المتحدة بناء على دعوة من المركز الاعلامي الامريكي مارديان.. طالبا مني الموافقة على حضور هذه الدورة.

وحتى لا تخسر دائرة التخطيط هذه الفرصة.. سألته: هل يُشترط أن اتحدث الإنجليزية؟ فلغتي ضعيفة واستسمحكم ترشيح نائبي فهو يتحدث الانجليزية.

التفت الي اللواء عليوه مبتسما ويهز راسه.. حركة افهما من عليوه وكأنه مش مصدق؟ طبعاً مسؤول محنك يرى مالا نراه.. كان متوقعا ان تعترضني صعوبات في الترشيح لهذه الدورة.. وذلك فعلا ما واجهته وسأذكره لاحقاً.

واصل اللواء القاسمي حديثه بالنسبة للغة غير مشروطة وسيرافقكم مترجمين... بالنسبة للترشيح انت على رأس قائمة المرشحين إذا موافق وإلا سنعرضها على اخر.. ولكني انصحك تشارك أولاً تتعرف على الولايات المتحدة وتستفيد وتغير لك جو.. رديت عليه شاكراً له هذا الشعور الطيب نحوي وعبرت له عن موافقتي.

تحرك القاسمي واتفق مع اللواء عبدالملك السياني وزير الدفاع واخذ موافقة الأمريكان على ترشيحي... بعد أيام سمعت ان دائرة الاستخبارات اعترضت على ترشيحي حينها كان مديرها علي احمد السياني، يقال انه دخل مع وزير الدفاع في أشكال ويدعي ان الدورة هذه مخصصة لدائرته.

التقيت بالأخ علي السياني في نفس صالة الدفاع وكان حاضر معنا كذلك اللواء عليوه.. فاتحت السياني، قلت له سمعت انك معترض على ترشيحي في الدورة اذا كان الكلام صحيح ولك رغبة تحضر قل لي وانا باسحب نفسي بطريقتي الخاصة واتفضل اما أنك ترشح غيري فاعتقد هذا غير منطقي.. رد عليه مباشرة انا لا عارضت ولا باعارض تفضل وجهز نفسك للسفر.

بعد ذلك تفاجأت بزيارات متعددة قام بها إلى مكتبي ركن استخبارات يطلب مني التنازل عن هذه الدورة لصالحه.. قلت له اتفضل ما عندي مانع نتحرك مع بعض الى مكتب وزير للدفاع واتنازل لك امامه. انزعج الرجل ومارد عليه الا يقول المشكلة يا افندم ناصر انك معاد تستثمرش هذه الدورة فغادر مكتبي غاضبا.

يومان فقط واتفاجأ بأحد الضباط يعرض عليه أخذ امرأة وطفلها معي في السفر لإيصالها لزوجها في أمريكا.. كنت على نياتي قلت له مرحبا خل حد من أهلها يجيني ويحضر معه جوازها مع جواز الطفل.

رد عليه.. ما عندها جواز، قلت له فكيف قال بايسجلوها في جوازك على اساس انها قريبتك.. واصل حديثه، قائلاً: "يقع لك يا افندم 20 ألف دولار مصروف (ذكرت كلام ركن الاستخبارات معاد تستثمرش هذه الدورة)، رديت على وكيل المرأة أخي انا بتحمل الموضوع انسانيا على الرغم ان الموضوع محرج.. كيف لي أن تسافر معي امرأة غريبة! وفي احتمال نبقى ترانزيت في فرانكفورت وقد نبقى ليلة هناك في كل الأحوال سأخدمكم بدون مقابل لكن يجب أن تعملوا الذي عليكم، تروحوا عند الجهات العسكرية المختصة وتعرضوا عليها الموضوع لتعرض على وزير الخارجية ليضيفوها وطفلها في جوازي حينها سأخدمكم وسأرحل بها وأنا أمن دون ذلك ارجو ان تعذرني.

واجهتني هذه الصعوبات والاحراجات وغيرها، قبل السفر لكني وبحمد الله وشكره تجاوزت ذلك وغادرت صنعاء متجها إلى واشنطن في 17 فبراير 1997م، ووصلت بسلامة الله وحفظه. 

لا أنسى الموقف المسؤول والإنساني للمرحوم محمد علي القاسمي فقد كان الفضل له بعد الله في هذا الموقف وارشدني لهذه الدورة وتواصل مع السفارة اليمنية في واشنطن لاستقبالي وتسهيل مهمتي.

اليوم الأول في برنامج الدورة كانت جولة سياحية لمدينة واشنطن وزيارة معالمها التاريخية، نهاية اليوم اطلعت على برنامج الدورة بعد الجولة السياحية لمدينة واشنطن ووجدت فعاليات اليوم الثاني من البرنامج تتضمن بعض اللقاءات الاول مع منظمة الايباك اليهودية بواشنطن واللقاء الثاني مع موظف من السفارة الاسرائيلية.

باعتباري العسكري الوحيد في المجموعة العربية التي حضرت هذه الدورة وهم ممثلين عن (سوريا، فلسطين، الامارات، عمان، الجزائر، والمغرب)، ولم يحضر الدورة ممثل عن السعودية لأسباب لا نعرفها، رغم وجوده في كشف الدورة.

مترجما الدورة اثنين عرب أحدهم فلسطيني اسمه محمد شاهين اعتقد (غزاوي) والثاني تونسي نسيت اسمه الاثنان كانا يتمتعا بالجنسية الامريكية، ويجيد كل منهما التحدث باللغتين الانجليزية والفرنسية.

اسرعت في الاتصال بالأخ جمال نعمان سكرتير اول السفارة اليمنية في واشنطن طالبا حضوره حالاً لأعرض عليه برنامج الدورة فلبا الدعوة مشكورا واخذنا للعشاء (سمك) في المطعم الصيني.. عرضت عليه البرنامج طالباً منه عرضه على الأخ السفير الذي كان حينها الأستاذ عبدالوهاب الحجري وطلبت منه إبلاغ السفير بعدم رغبتي في حضور فعاليات اليوم الأول من البرنامج (مع الاسرائيليين).

بعد عودتي من تناول وجبة العشاء مع جمال نعمان التقيت بإخواني المشاركين في الدورة للتشاور حول حضورهم فعاليات اليوم الثاني من البرنامج (مع الاسرائيليين)، موضحا لهم ان اللقاء الأول مع منظمة الايباك، اما اللقاء الثاني فمن تعتقدون سيقابلكم من السفارة الاسرائيلية غير ممثل الموساد.. مجرد جس نبض فهمت من بعضهم انهم عازمين على الحضور كنت على أمل على الاقل ان لا ينساقوا جميعا لحضور هذا اللقاء ولكن للأسف هذا ما حصل.

وصل صباحا قبل بدء اللقاء الاخ جمال نعمان وتحدث مع الاعلامي هنس ماهوني وطلب منه ان يأخذني معه لأمر هام في السفارة فتركت المجموعة ورافقت جمال نعمان الى السفارة. بالمناسبة هنس ماهوني كان السكرتير الاعلامي للسفارة الامريكية في صنعاء بعد عودته تم تعيينه رئيسا للمركز الاعلامي الامريكي مارديان.

وصلنا السفارة.. كان في استقبالي الاخ السفير عبدالوهاب الحجري وموظفي وموظفات السفارة، تشرفت بهذا اللقاء الهام تداولنا في هذا اللقاء بعض المعلومات حول اخبار الوطن.. واطلعت عن قرب عن ظروف السفارة وموظفيها وموظفاتها.

تحدث السفير شاكرا حضوري الى السفارة مقدرا موقفي المسؤول شارحا الاحراجات التي تواجه السفارة مع بعض المسؤولين اليمنيين الذين يزورون أمريكا لمهام رسمية دون مرورهم على السفارة، وما يتركه البعض منهم بعد مغادرتهم من اخبار مؤسفة.. مؤكدا صحة موقفي في التحفظ عن حضور لقاء السفارة الاسرائيلية وإمكانية حضوري في بقية الفعاليات في البرنامج.

تحركنا مع السفير وجميع الموظفين والموظفات لتناول وجبة الغذاء في المطعم الافغاني.. بعد عودتي من المطعم إلى الفندق تجمعوا عندي بعض الاخوة اعضاء الوفد وخاصة الجزائري والمغربي والسوري لينقلوا صورة عن مجريات لقائهم مع الاسرائيليين كانوا الحقيقة نادمين على الحضور نظرا لما واجهوه من معاملات سيئة في لقائهم مع الاسرائيليين....

تضمن برنامج الدورة زيارة عدد كبير من الولايات والمدن الامريكية وأهمها واشنطن فرجينيا جورجيا مينيسوتا لوس انجلس في كلفورنيا نيويورك نيوجرسي وزرنا قبل التحرك من (واشنطن العاصمة) البنتاجون والكنجرس ووزارة الخارجية وفيما يلي ابرز ما شاهدنا في واشنطن :-

* تواجد يهودي فاعل في مرافق صنع القرار حتى انني وفي مستهل الحديث مع موظف كبير في البنتاجون قال لا تصدقوا مهما سمعتم في علاقاتنا مع إسرائيل فإسرائيل في قلوبنا مؤشر بذلك الى صدره.

* في زيارتنا لوزارة الخارجية التقينا مدراء مكاتب العلاقة مع الدول العربية.. فالتقيت مع مدير مكتب اليمن والكويت في الوزارة كان شاب لا يتجاوز سنه 35 عاماً، هو الاخر يسألنا عن امكانية العلاقة مع اسرائيل.

* من المفاجآت في تلك الزيارة ان ممثل سوريا في الدورة لم يجد مدير مكتب سوريا اسرائيل في وزارة الخارجية اثناء زيارتنا للوزارة، لكنه وصل الى الفندق ليلتقي بممثل سوريا حينها كنا معا في البوفيه نتناول وجبة الفطور، وإذ به شاب في منتهى الوسامة اسمه سلفر مان.. تذكرته وعرفته تماما كان يدرس في الاتحاد السوفييتي (مدينة لينين جراد)، كان حينها في عام 1980/ 1981 طالب وسكرتير الحزب الشيوعي الإسرائيلي في مدينة لينين جراد كان له حضور ملفت النظر في الاحتفالات التي كانت تقام للمناسبات الوطنية السوفيتية واليمنية وغيرها.

* في لقاء مع رجال وسيدات أعمال يهود فهمت رغباتهم وما كانوا يتحدثون عنه انهم  يعملون في التجارة ويبحثون عن اسواق مشتركة لهم مع العرب والمسلمين لحد ان سيدة أعمال (عجوزة) من الحضور لعدم ارتياحها من آرائنا وافكارنا في موضوع التطبيع بمعزل عن حل القضية الفلسطينية ردت علينا نحن نشتي ناكل عيش اني كنت قبل شهر عند رئيس اوزباكستان وقبل 20 يوماً كنت عند امير قطر.. عندما احتدم النقاش سحبت نفسي من اللقاء والحمد لله سلمت من اخذ صورة فوتوغرافية معهم.

* قمنا بزيارات متعددة لمراكز اسلامية أفضلها كان المركز الإسلامي الأمريكي مديره شاب أمريكي مسلم من اصول باكستاني، بقية المراكز الإسلامية كانوا القائمين عليها عرب أسرهم اجنبية واطفالهم لا يتحدثون العربية.. صراحة كانت مراكز اسلامية لا تمثل الاسلام الحقيقي وإنما تمثل سياسات دولها.. بالمناسبة المركز الإسلامي السعودي كان يديره ليبي وزوجته يابانية. 

* كانت لنا زيارة لمنظمة يهودية معتدلة حضر معنا المفكر اللبناني مقصود.. كانت لهذه المنظمة وغيرها من المنظمات اليهودية علاقة مع العرب والفلسطينيين وكانت لها مواقف معارضة للتطرف الصهيوني وذلك ما ظهر جليا اليوم بخروج الآلف اليهود المعتدلين في شورع امريكا ولندن وغيرها من مدن العالم يناصرون القضية الفلسطينية.

* لفت انتباهي حضور رجل عجوز من اصل امريكي في اللقاءات مع اليهود كان يستمع فقط للحوارات ولا يشارك بكلمة في الحديث. فهمت من ذلك أن هذا العجوز كان بمثابة خبير يمثل الدولة الأمريكية، يقوم بمراقبة وتقييم مستوى الحوارات بين العرب والاسرائيليين لمعرفة امكانية التقارب فيما بينهم.

* أجمل المدن الأمريكية التي اتيحت لنا فرصة لزيارتها في هذه الدورة هي مدينة لوس انجلوس والأجمل ما فيها هي تلال هوليود ويتواجد فيها استوديوهات الفلم الامر يكي.. كم كانت جميلة وممتعة قضينا في هذا الاستديو يوما كاملا.... يقال ان مدينة تصوير الفلم هي صناعة يهودية.. يزور هذه الاستوديوهات يومياً حوالي مليون سائح سعر تذكرة الدخول للفرد 34 دولار وبها من المطاعم المحلات التجارية والسياحية المغرية.

* كانت نيويورك المحطة الأخيرة في زيارتي تعرفت فيها على معالم ناطحة السحاب وسكنت في الدور 55 في فندق طلعت أحد أبراج المركزين التجاريين اللذان دمرا في 11 سبتمبر وتمثال الحرية وتشرفت بالتعرف على الصديق الوفي أمير العيدروس الذي كان نائب سفيرنا في الامم المتحدة ورافقته كثيرا وشبه يوميا الى مكتب اليمن في هيئة الامم المتحدة.. عندما سألت عن امكانية الحصول على مكتب أوسع من الشقة رد عليه السفير امير العيدروس ذاكرا زيارة الرئيس سالمين الى نيويورك في بداية السبعينات واقدم على شراء ارضية واسعة للسفارة بمبلغ زهيد لازالوا يحتفظوا بهذه.

* الحديث عن هذه الزيارة ممتع وشيق لكن مساحة الكتابة محدودة ناهيك عن قدرة القاري على التركيز لذلك اسمحوا لي أن اكتفي بهذا القدر من ذكرياتي في الولايات المتحدة الأمريكية...

 

وللحديث بقية بإذن الله تعالى....