آخر تحديث :الخميس-02 مايو 2024-11:46ص

ذكرياتي في القاهرة (1972)

السبت - 18 نوفمبر 2023 - الساعة 04:27 م

ناصر علي الحربي
بقلم: ناصر علي الحربي
- ارشيف الكاتب


هي أشهُر معدودة لا تتعدى الستة الشهور عشتها في قاهرة المعز حينما كلفت بالعمل سكرتيرا للملحقية العسكرية ومساعدا للملحق العسكري المرحوم / محمد قاسم عليوة اليافعي كانت الفترة قصيرة ولكنها حيوية مليئة بالنشاط الدبلوماسي.

لم يتجاوز سني حينها 21 عاماً رشحت لهذه المهمة من قبل لجنة البعثات لتي كانت مسؤولة في جيش جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية عن ترشيح المبعوثين من الجيش للعمل او للدراسة خارج الجمهورية.

ترشحت لهذه المهمة مع 16 صف ضابط كلهم عناصر من دائرة الاستخبارات باستثنائي انا فقد كنت الوحيد كاتب اداري في مكتب التسجيل والاحصاء العسكري.. بترشيحي وفي ذلك الزمن الصعب اخترقت اللجنة ولأول مرة العادة المتبعة لديها في إعطاء الاولوية للترشيح في هذه المواقع للعناصر الاستخباراتية.

ولأني كما قلت كاتب إداري غير مرتبط بالعمل الاستخباري فقد استدعاني إلى مكتبه قبل سفري المرحوم النقيب محمد عبدالله باصهيب الذي كان رئيسا لشعبة الاستخبارات لجيش جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. قابلته لأول مرة دون معرفة شخصية سابقة بالرجل وكانت المرة الأولى التي ازور فيها شعبة الاستخبارات الذي كان موقعها في مدينة الشعب.

كان باصهيب شخصية قوية وجذابة، رحب بي في مكتبه وسألني هاه يا رفيق ناصر متى مسافر القاهرة؟ اجبته يوم الأحد القادم سيدي.. قال شف يا رفيق لا تعتقد اننا لم يكن لنا علم بترشيحك لهذه المهمة فقد رشحنا معك 16 عنصر من الاستخبارات العسكرية لكن لجنة البعثات رجحت الكفة لصالحك.... وهذا شرف لنا.

فهمت قصده من كلمة "وهذا شرف لنا" اننا من منطقة واحدة وهذه من العبارات المحرم قولها في ذلك الزمان ان تتشرف بواحد لأنه من منطقتك.. حتى اني شكيت ان الرجل يختبر وطنيتي بهذا الكلام فهو الرجل الذي عرف بصلابته وسلوكه الثوري وكرهه للمارسات القبلية.

المهم لم اتفاعل معه في الحديث، حتى اني لم ارد عليه فاحتفظت بهذا السر ولم أبوح به لأي شخص حفاظا على الرجل وشعوره الطيب نحوي.. ولم اكشف هذا الكلام الصادر عن رئيس شعبة الاستخبارات إلا بعد وفاته بأعوام في حادث انفجار حقيبة مفخخة.

على كل حال نصحني الرجل باليقظة والانتباه في العمل وحرر لي رسالة إلى الملحق العسكري في القاهرة يوصيه بالاهتمام بي في العمل...

غادرت عدن متجها إلى القاهرة في 31 يناير عام 1972م، وفي أول أيام الدوام في مكتب للسكرتارية والطباعة بجانب مكتب  الملحق العسكري رحب بي الملحق العسكري فسلمته رسالة رئيس شعبة الاستخبارات ببراءة لم أكن في ذلك الوقت ناضجاً وإلا لما سلمته الرسالة، تجنباً لأي شكوك في مهنيتي وعلاقتي بالعمل الاستخباري من عدمها، وبعد أن قرأ الرسالة رحب بي مرة أخرى وسلمني مفاتيح السيارة الوحيدة التي كانت معه للعمل، وهي سيارة فيات 124 .. تفاجأت بهذا التصرف ورديت عليه لا يا سيدي السيارة معك وبايكون السائق المصري يمر عليه قبل بدء الدوام وبعد الانتهاء من الدوام.. فأصر إلا أن تكون السيارة في عهدتي...

المهم كانت العلاقة بيني وبين المرحوم الملحق العسكري محمد قاسم عليوه ليست علاقة بين الرئيس والمرؤوس وإنما علاقة بين أب وابنه، حتى انني كنت قريب من أسرته وزوجته الفاضلة التي كنت أراها في مقام والدتي وكنت على تواصل معهم وفي خدمتهم.. كنت مواظب يومياً على مواعيد العمل وطباعة كل التقارير اليومية التي يقوم الملحق صباح كل يوم بتسليمها لي وهي عبارة عن معلومات يقوم بتجميعها اثناء لقائه في اجتماعات وحفلات مسائية بحضور الملحقين والسفراء العرب والأجانب المقيمين في القاهرة.

طبعا بعد طباعة هذه التقارير نرسلها إلى رئيس اركان الجيش ونسخة منها إلى رئيس شعبة الاستخبارات الذين تعودوا أن يستلموا التقارير مكتوبة بخط الملحق ولكن ومنذ توليت العمل في الملحقية العسكرية كانت تصلهم خطابات وتقارير مطبوعة وهذا ما نال رضا رئيس هيئة الأركان ورئيس شعبة الاستخبارات اللذان كانا ينظران إلى هذا العمل كجزء من مهام شعبة الاستخبارات.

كنت اقضي أوقاتي بعد الدوام الرسمي مع بعض الزملاء من موظفي السفارة ومنهم المرحوم الخضر ناصر مسودي الذي كان ملحق أمني في السفارة وكانت لي علاقة طيبة مع موظفي السفارة سالم عمر العولقي سائق السفير وعبدالله علي جار الله حارس السفارة... كنت لا افترق يوما عن المرحوم المسودي فهو شخصية نضالية معروفة كان فدائي وله دوره البارز في معارك عدن ضد الاستعمار البريطاني... حتى إن أحد الصحفيين المصريين كان حاضراً عرفه وسأله قال فين شفتك فرد عليه الخضر يخلق من الشبه أربعين وتذكر الصحفي قال انته كنت في تعز مع الفدائيين اللذين تدربوا في تعز في عام 1964م فابتسم المرحوم المسودي وقال لي فعلا الرجل عرفني وانا والله اني نسيت.

قبل عمل المرحوم الخضر في القاهرة كان مدير مباحث الجمهورية ومكتبه في خور مكسر وكان من عناصر محمد علي هيثم الذين عينوهم في السفارات الخارجية بعد ما كانت تسمى الخطوة التصحيحية.

من خلال تواصلي اليومي بالمسودي تعرفت من خلاله على بعض اللاجئين اللذين كانوا مقيمين في ذلك الوقت في القاهرة وأبرزهم المرحوم عبدالله صالح غرامة صهير محمد علي هيثم، وسالم الخضر الذي كان اكثر نشاطا وحيوية، وناصر علي هيثم وغيرهم.. ومن اللاجئين السياسيين اللذين لم تربطني علاقة بهم لوحدي بل أن المرحوم محمد صالح مطيع، كلما يزور القاهرة يلتقي ببعض هؤلاء اللاجئين، وخاصة سالم الخضر (رحمهم الله جميعاً)، ورحم الشخصية الدبلوماسية المرموقة محمد صالح مطيع الذي كان رجل دولة ويتمتع بحيوية عالية حتى أنه كان اثناء زيارته يطلب مني شخصياً مرافقته وإحضار الصحفيين المصريين لإجرائهم مقابلات معه.. اتذكر منهم الصحفي المشهور يوسف الشريف، صاحب روز اليوسف.

كان سكني في دار الضيافة وكنا نستقبل الوزراء اللذين يمرون ترانزيت القاهرة لزيارة بعض بلدان اوروبا وافريقيا وكانوا يتأخروا كثيرا في القاهرة قبل سفرهم لترتيب تأشيراتهم ولدواعي أمنية، ومنهم من سكن في دار السفارة، مثل المرحوم عبدالعزيز عبدالولي، وكذلك المرحوم علي عنتر، الذي فضل الاقامة ليعيش معنا في دار الضيافة، رافض السكن في الفنادق، لحد اننا عندما عرضنا عليه السكن في الجناح الذي يسكن فيه في الدار المسودي رفض علي عنتر وفضل السكن في نفس الغرفة التي اسكن فيها كانت الحمامات عامة في الدار.. عشنا حياة متواضعة على الرغيف والفول والفراخ والكيلو اللحمة كانت حياة متواضعة لم نعرفها في مسؤولي هذا الجيل.

فجأة أخبروني ان ابنتي الوحيدة (سنتين) أصيبت بمرض خطير نتيجة التهاب النخاع الشوكي.. فسمع علي عنتر بالخبر، مباشرة قال "هذه رسالة إلى أحمد صالح ضالعي يرتب سفر عيالك إلى القاهرة ويجهز لكم التذاكر والمخصصات"، ونصحني بالسفر مجاناً في طائرة انتينوف تابعة لجيشنا وصلت القاهرة لنقل زيوت إلى عدن.. فغادرت القاهرة.

كان المرحوم الخضر ناصر مسودي في وداعي وسلمني حقيبة صغيرة فيها ملابس لأولاده اوصلتها إلى منزله الكائن في حي عبدالقوي.

لم يمر اسبوع على وصولي إلى عدن إلا وأسمع واقرأ من وسائل الإعلام المرئية والمقروءة عن محاولة اغتيال علي ناصر محمد قام بها الخضر مسودي فكانت نهاية المسودي رحمه الله.. صدمني هذا الخبر وسبب لي حالة من الغلق والتوتر النفسي خاصة وهو الزميل والصديق الوفي الذي لم يفارقني يوماً وكانت علاقتي به طيبة لا توصف.

ذهبت بنفس الأسبوع إلى وزارة الخارجية لأتفاجأ بالمفاجئة الأخرى، حين ابلغوني إن جوازي وجوازات الزوجة والبنت المشلولة موقفة...

حقيقة عدت إلى منزلي في الممدارة مهزوماً وحزين خاصة اني لم اتمكن حتى من السفر لإنقاذ حياة بنتي الوحيدة ولو لمنحة علاجية.. أما العودة إلى القاهرة لمواصلة عملي فقد قررت أن لا أراجع أحد رغم علاقتي الطيبة مع المسؤولين، وفي مقدمتهم المرحومين علي عنتر واحمد صالح ضالعي وطيب الذكر محمد سالم وحيد.

عرفت فيما بعد عن اتفاق بين وزير الدفاع علي ناصر محمد وبين وزير الخارجية محمد صالح مطيع باستبدالي بموظف اخر اسمه ناصر فرحان، ومع ذلك لم اجهد نفسي للتساؤل عن أسباب ذلك.

بعد فترة وانا اعمل في ديوان وزارة الدفاع (الفتح) وإذ بالمرحوم علي عنتر يمر من أمامي ويلتفت اليه ويسألني ما انت ناصر ذي كنت في الملحقية العسكرية في القاهرة ايش جابك؟ قلت له المقادير.. رد عليه المقادير تعمل عمائلها يا أخ العرب.. وفعلا المقادير تعمل عمائلها والحمد لله الذي جعلني اتحلى بالصبر.

 واصلت المسيرة العملية بالتفريغ للعمل في منشأة النفط بالبريقة على رأس عناصر ادارية عسكرية وقوة حماية كلفت من قبل سالمين في حماية المنشئة وتأمين عمل المنشأة وضمان عدم توقف تأمين الجيش بالمشتقات النفطية.

بعد سنتين من العمل في منشأة النفط استدعتني وزارة الدفاع لتجهيز نفسي للسفر إلى الاتحاد السوفيتي للدراسة في عام 1974م، وبعد نيلي لشهادة البكالوريوس في العلوم العسكرية واصلت دراستي الاكاديمية والحصول على الماجستير في العلوم العسكرية قيادة وأركان امداد وتموين.

تخرجت في العام 1981م وعملت ما بوسعي في خدمة وطني وشعبي وقواتي المسلحة بكل إخلاص واقتدار رغم كل الصعوبات التي واجهتني في حياتي العملية فالحمد لله على ما أعطانا والحمد لله على ما اخذ منا عشنا حياتنا بكل حلوها ومرها.

 

وللحديث بقية...