آخر تحديث :الخميس-02 مايو 2024-06:11م

كيف تنهض الشعوب؟

الأحد - 05 نوفمبر 2023 - الساعة 12:25 ص

اكرم العلوي
بقلم: اكرم العلوي
- ارشيف الكاتب



أكرم العلوي 
السبت،٤ نوفمبر ، ٢٠٢٣م
خذ ما تريد من الأرقام والمؤشرات السلبية عن حال المجتمعات العربية، فكل ما يصدر من تقارير أممية عن التنمية في العالم نجد العالم العربي يحتل موقعا متميزا في ذيل هذه التقارير، وليس هناك استثناء إلا عندما يكون الحديث عن استيراد الأسلحة، فمنطقتنا الأكثر إنفاقا على تسليح نفسها. هناك مليار فقير في العالم، ملايين بل أكثر وشعوب دول بحالها من هؤلاء الفقراء هم عرب أقحاح، ينام نصف الأطفال وهم جوعى.

والمقصود بالجوع هنا هو عدم حصول الطفل على كفايته من الطعام ليحمي بدنه ونفسه من أمراض سوء التغذية، فالجوع في مرحلة الطفولة قد يعني أمراضا مبكرة وعمرا قصيرا وإنتاجية أقل عند الدراسة والعمل. الفقر اشد آفة تحطم المجتمع وتفتك به، ولهذا وصف كثير من المحللين العرب وغير العرب ثورة الشعوب العربية بأنها ثورة جياع. لكن الفقر حالة تنتجها أسباب وعوامل متعددة، ويأتي في مقدمتها الاستبداد السياسي والفساد الاقتصادي، وكلا الأمرين موجودان بقوة في عالمنا العربي، ولهذا كانت النومة طويلة وكانت فرحة هذه الشعوب شديدة وهي تنهض بنفسها أملا في تغيير حالها إلى الأحسن في المستقبل، لكن أمام هذه الشعوب اليوم وهي تستعيد الثقة بنفسها أسئلة صعبة ومن العيار الثقيل والخوف من أن يكون هناك هروب من الإجابة عنها فتكون نهضتها بلا أرجل تستطيع أن تمشي بها إلى الأمام. الاستبداد في السياسة والفساد في الاقتصاد لم يكن ليعمر ويخنق أنفاسنا كل هذه المدة الطويلة لو لم يحتم بثقافة أنتجها هو بنفسه، واليوم لا بد من التخلص منها وإلا سيعود لنا الاستبداد وربما أكثر سوءا من قبل وأكثر فسادا من الماضي، لكن بثياب جديدة وبخطاب مغلف بشعارات براقة وخادعة. التخلص من الاستبداد بداية الطريق للنهوض بهذه الشعوب، لكن النهوض والتحضر في الأساس صناعة ثقافية، ولا بد لنا من إعادة إنتاج ثقافتنا بقيم جديدة وأخلاق مغايرة وقناعات مختلفة. الربيع العربي، الذي استبشرت به الشعوب العربية وهللت له منظمات حقوق الإنسان، إن لم نقعّده على ثقافة جديدة ستنطفئ شعلته وتسقط أوراقه وندخل في خريف جديد لا يعلم إلا الله متى نخرج منه من جديد. فبعد أن تنجز الشعوب مهمتها وتعود الجماهير العربية إلى بيوتها ويستقر الحال وتعود الأمور إلى طبيعتها يأتي دور المثقفين ليكملوا مهمة النهوض ويخرجونا من ثقافتنا السابقة إلى ثقافة بأركان جديدة وعناصر مختلفة. والحديث في الشأن الثقافي ليس بالحديث السهل لأنه حديث فيه مكاشفة مع النفس وفيه اقتلاع لقناعات قد تكلست مع الزمن، وفيه مقارعة مع أخلاق وقيم اكتست قداسة مزيفة صدقناها فسلمنا رقابنا لها، حديث يزيل الحجب عن كل ما نريد التستر عليه من أفكار بالية وقناعات فاسدة. هو حديث مع النفس وما أصعب الحديث مع النفس، لكن هل هناك من سبيل إلا التحدث معها؟ فهي لا تتغير ولا تتبدل إلا بالتواصل معها "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" - الآية رقم 11 - سورة الرعد. الشعوب العربية مدعوة اليوم للجهاد الأكبر، وهو الجهاد الثقافي، وهو جهاد النفوس، الذي بحاجة إلى عمل وصبر، ولكن الله مع الصابرين وسيبارك لهم جهدهم وعملهم إن أرادوا فعلا العزة لأنفسهم. الاستبداد أول ركن أقام بنيانه عليه إذلال الناس وسلب كرامتهم، وأول مطلب نادت به الشعوب العربية في نهضتها هو استعادة كرامتها، فثقافة الذل يجب أن تكنس من أذهاننا وأن ترمى في زبالة التاريخ مع كل المستبدين بكل أصنافهم، الذين أرادوا أن تبقى أبد الآبدين حتى يبقى استبدادهم لنا واستعبادنا لهم. والركن الآخر من أركان النهوض التي يجب أن نقيم عليها الثقافة العربية الجديدة هو الحرية، فلم يكن بالإمكان بقاء الاستبداد كل هذه المدة الطويلة من الزمن لو كانت الحرية هي فعلا شرف الإنسان العربي. الثقافة العربية الحالية، التي يجب أن تتهاوى، لا تنظر إلى الحرية إلا على أنها باب من أبواب الفتنة، وفي أدبياتها يجب أن يبقى هذا الباب مسدودا حتى لا يدب الاختلاف وعدم الاستقرار في المجتمع. هذه المقولة وهذه النظرة الثقافية للحرية هي التي ولدت الخوف في النفوس من قول الحق والوقوف في وجه الباطل والظلم. انتزاع الحرية من الناس بحجج فكرية وقناعات ثقافية ينتج أناسا جبناء، والجبن صفة ذميمة، وهي بمنزلة الثقب الأسود الذي يسحق ويبتلع كل ما عند الإنسان من قيم وأخلاق فاضلة. فلا عجب أن يكون الإنسان الجبان إنسانا منافقا، لأن النفاق من أهم أسلحة الجبناء، وهذا ربما يفسر شيوع ظاهرة النفاق في المجتمعات المستعبدة. إعادة إنتاج الثقافة العربية لن يتم بشكله الصحيح إلا باستعادة الحرية كقيمة مهمة ومحورية في منظومة شرف الإنسان، فعندما تنتج لنا الثقافة العربية قناعة راسخة في أذهاننا بأن الإنسان غير الحر إنسان غير شريف، وأن الإنسان الذي يدافع عن حريته هو في الحقيقة يدافع عن شرفه، عندها تكون هذه الثقافة فعلا ثقافة حياة وليست ثقافة موت واستعباد. وهناك ركن آخر من أركان ثقافة النهوض بالمجتمع وهو القبول بالتعددية والتنوع الفكري، لا يمكن لمجتمع ما أن يعيش باستقرار وأن تتكامل قواه وطاقاته وموارده الفكرية وأن تترسخ فيه العدالة الاجتماعية إلا باحترام الآخر والقبول به وعدم السماح بأي اعتداء عليه وانتهاك حقوقه. فمن غير تعددية ولا تنوع يعيش المجتمع حالة ركود، والمجتمع الراكد تنقلب أولوياته رأسا على عقب، فالعلم عنده في إنتاج الأوهام والخرافات ومن ثم تصديقها والعمل بها على أنها علم لا شك فيه، وأما وحدة المجتمع عنده فهي إكراه المجتمع على الأخذ برأي واحد واجتهاد واحد. وكيف لمثل هذا المجتمع الذي لا يقبل التنوع والتعددية أن ينتج مبدعين؟ وهل ستكون هناك نهضة حقيقية من دون إبداع ومبدعين؟ فثقافة تريد أن تعاكس السنن الاجتماعية إن لم تهزم بهزيمة الأنظمة التي كانت تتبناها، فإن الاستبداد والتسلط سيخرج من الشباك ليدخل من الباب، وبثقافة الرأي الواحد والفكر الواحد والمذهب الواحد اشتعلت عندنا الفتن الطائفية والمذهبية وصرنا ندين بالمذهب ونحارب باسم المذهب حتى ولو كان ذلك على حساب الدين والوطن. وبمثل هذه الثقافة صرنا نقدس الأشخاص أكثر من تقديسنا لله - سبحانه وتعالى. وعدم القبول بالتعددية والتنوع يجعل عظام مجتمعنا هشة وغير قادرة على النهوض بنا ومسابقة الآخرين في ميادين التطور والتقدم العلمي، فهذه الثقافة تجبرنا على أن نبقى جالسين في مكاننا نتصارع فيما بيننا وكأن الدنيا لم تخلق إلا لنا، وأن جنة الله التي عرضها السموات والأرض لن تتسع إلا لنا. نحن اليوم نريد ثقافة عربية تقوم على ركن متين، ليس ركن التسامح مع الآخر المختلف، لأن في هذا إدانة لهذا الآخر بأنه مخطئ أو معتد أو منحرف، إنما ركن القبول والاحترام لهذا الآخر المختلف، نحن في حاجة إلى ثقافة تنشغل بالبحث عن المشترك لنبني به حياتنا، وثقافة تعطي الفرصة لمواردنا كي تتكامل ومن بعد نلتفت إلى مختلف لفهمه والتعمق فيه، لأن هذا الاختلاف ربما أنتجته ظروف وعوامل قد يساعد فهمنا لها على تحجيمها واستخلاص الدروس منها، والأهم من ذلك استثمارها لتعزيز وزيادة المشترك فيما بيننا في المستقبل، وقد ينفعنا كثيرا في فك الارتباط الموجود في العادة بين الاختلاف والكراهية في النفوس، فالإنسان الجاهل يتسرع في كراهية الآخر المختلف عنه، لكن الإنسان العالم والمتفحص في أصول هذا الاختلاف إذا كان عنده تقوى وموضوعية، تجده يتقبل هذا الاختلاف وينظر إليه على أنه جزء من طبيعة الحياة من دون حاجة إلى أن يثير هذا الخلاف عنده توترات نفسية. أما الركن الأخير الذي يتسع له هذا المقال هو قيمة الإنسان الفرد والاهتمام بحقوقه كإنسان، لقد بنيت الثقافة العربية على فكرة إعلاء الجماعة وتهميش الفرد، وفي ثقافة كهذه يموت الإبداع وتضيع المبادرات الفردية. فلو تفحصنا مكامن القوة في المجتمعات المتقدمة لوجدنا ثقافتها تحتفي بما يقوم به الفرد من مبادرات وتبني مشاريعها على هذه المبادرات ومن ثم تتحول هذه المشاريع إلى مؤسسات إنتاجية عملاقة، ونجد العكس في ثقافتنا العربية، فهي تخنق أنفاس الفرد، وتكبت كل من يفكر في القيام بمبادرة تخالف المألوف وتخرج عن المتعارف عليه من عادات وتقاليد. فما أكثر التهم والأسماء البذيئة التي يحويها قاموس لغتنا الثقافية، فهذا خارجي وهذا مبتدع وذاك زارع فتنة.

فكل من يأتي بفكر جديد أو ينتج لنا رؤية جديدة نمطره بسيل من التهم التي لا حد لها ولا نعطيه الفرصة حتى ليشرح أبجديات فكرته.

الشعوب العربية لم ولن تستكمل نهضتها ما لم تعد للفرد قيمته، وعندما يستعيد هذا الفرد الإنسان قيمته الذاتية عندها فقط يحق لنا الحديث عن أهمية العمل الجماعي وبناء المؤسسات الاجتماعية المدنية، لأن كل هذه الأمور هي بناءات فوقية ولن تستقر هذه البناءات ويستقوي عودها إلا عندما تبنى على أساس متين هو قيمة الإنسان كإنسان وكفرد له خصوصيته وحريته وله حقوقه وحرمته. أخيرا نقول، وهذا ليس قولي، لكنه قول تسالم عليه أهل الاختصاص والمعرفة والنظر في أحوال المجتمعات، إن الشعوب لن تنهض ولن تحقق أهدافها ما لم يكن لها إنجاز ثقافي، والشعوب العربية وإن نجحت في التخلص من الاستبداد لكنها لن تنهض وتخرج من تخلفها ما لم تتخلص أيضا من ثقافتها، وهي ثقافة الاستبداد، لكن رجال ثقافة الاستبداد ليس بالضرورة أن يخرجوا وينفوا أو يموتوا مع المستبد لأنهم يعيشون في سراديب نفوسنا ودهاليز عقولنا ومطاردتنا لهم وطردهم أصعب بكثير من طرد أسيادهم المستبدين والفاسدين.

أبو الأسكندر العلوي 
السبت،٤ نوفمبر ٢٠٢٣م