لن أبالغ إذا قلت بأن معظم المآسي والكوارث التي تعرضت لها المجتمعات البشرية خلال وجودها على الأرض ، كانت وماتزال وستظل ناتجة عن الاستبداد السياسي ، ولن أبالغ إذا قلت بأن الاستبداد السياسي قد حول حياة الكثير من البشر إلى خوف ورعب واضطهاد وعنف وقهر وتسلط وارهاب وحروب وصراعات ، وعبر التاريخ لم يتوقف أرباب وعتاولة الاستبداد السياسي من ابتكار أقذر الوسائل وأبشع الطرق لقمع المجتمعات بهدف إخضاعها وإذلالها واستعبادها ، ولن أبالغ إذا قلت بأن الاستبداد السياسي قد تحول إلى علم ، تتبارى وتتسابق السلطات الاستبدادية في تطويره وتحديثه ، لممارسة المزيد من الاستبداد بطرق حديثة ومبتكرة ، ومن أبرز تلك الطرق طريقة تجويع وإفقار الشعوب ، وطريقة التجهيل لصناعة أجيال جاهلة متخلفة يسهل تطويعها والسيطرة عليها والتحكم فيها بما يلبي رغبات السلطة الحاكمة ، وطريقة صناعة الخلافات والصراعات بين الأطراف الشعبية المؤثرة بهدف اشغالها في خلافاتها وصراعاتها البينية ( فرق تسد ) وغيرها ..!!
وللاستبداد السياسي درجات متفاوتة تبدأ بالاستيلاء على السلطة عن طريق الغلبة والقهر ، مروراً بمصادرة الحقوق والحريات الإنسانية ، وممارسة العنف والبطش ضد كل من يعارضها أو ينتقدها ، وفرض فكرها السياسي على الجميع سواء بالترغيب أو الترهيب ، واستغلال الوظيفة العامة لإخضاع وإذلال الموظفين الحكوميين ، وأسوأ أنواع الاستبداد السياسي هو فرض المزيد من الجبايات والضرائب التي تثقل كاهل المواطنين ، والتي تستخرج ما في جيوبهم وتسلب ما في أيديهم ، وهو ما يعرف بالنهب السلطوي المنظم لأفراد الشعب ، بهدف إفقارهم وإذلالهم على حساب إنشاء طبقة غنية ومترفة وثرية من الموالين للسلطة ، تتركز الثروة والقوة والمال في يدها لتصبح المهيمنة والمتحكمة والمسيطرة على كل الموارد الاقتصادية ، ليصبح أفراد الشعب مجرد خدم وأجراء وعمال لديها ..!!
وليس هناك ما هو أسوأ من فقدان الإنسان لحقوقه وحرياته ، ونهب مدخراته وأمواله ، وهنا تتجلى بشاعة وفداحة الاستبداد السياسي على حياة البشر ، لذلك جاءت الأديان السماوية بالكثير من التشريعات والأحكام التي تحرم الاستبداد السياسي ، والتي تمنح الشعوب حق مقارعة الظلمة والمستبدين والثورة عليهم ، كما أن المفكرين والفلاسفة لم يألوا جهدا في ابتكار الكثير من الأفكار والنظريات التي تحارب الاستبداد السياسي وصولاً إلى منح الشعوب حق حكم نفسها بنفسها ، وحقها في تغيير السلطة الفاسدة والمستبدة ، بهدف القضاء على العوامل التي تؤدي إلى ظهور الاستبداد السياسي ، وبهدف حماية الحقوق والحريات الإنسانية من الانتهاك والمصادرة والعبث ، ورغم بعض النجاحات التي حققتها البشرية في هذا المجال ، بعد تطبيق النظام الديمقراطي في العديد من دول العالم وخصوصا المتقدمة منها ، وتلاشي الاستبداد السياسي فيها وتمتع مواطنيها بحقوقهم وحرياتهم ، ورغم قيام الأمم المتحدة عبر منظماتها الإنسانية والحقوقية ومجلس أمنها وجمعيتها العمومية بإدانة السلطات الاستبدادية حول العالم ، إلا أن الكثير منها مستمرة في غيها وبطشها واستبدادها بشعوبها ، غير آبهة بإدانات وشجب الأمم المتحدة ، خصوصا تلك الأنظمة الاستبدادية التي تحظى بدعم مباشر من قوى دولية أو إقليمية ..!!
وكم هو مؤسف ومحزن أن تمارس السلطات القمعية حول العالم استبدادها السياسي على شعوبها ، على مرأى ومسمع المجتمع الدولي والأمم المتحدة ، وكم هو مؤسف أن تتورط بعض القوى الدولية والإقليمية في دعم هكذا سلطات لتحقيق بعض المصالح السياسية والاطماع الاقتصادية ، على حساب معاناة ومآسي شعوب بأكملها تتجرع مرارة الاستبداد السياسي ، وتكتوي بناره ليل نهار ، لكن يبدو أن القائمين على تلك القوى الدولية والاقليمية الداعمة ، لا يدركون فداحة ما تتعرض له تلك الشعوب المنكوبة بكارثه الاستبداد السياسي ( فمن يده في الماء ليس كمن يده في النار ) ، لذلك نراها وهي مستمرة في دعم ورعاية تلك الأنظمة الاستبدادية ، مقدمة بذلك مصالحها السياسية والاقتصادية على معاناة ومآسي إخوة لهم في الإنسانية ، وكأن الاستبداد السياسي مصير محتوم على العديد من الشعوب حول العالم خصوصاً النامية والمتخلفة منها ، لأن الشعوب الواعية والمتعلمة والمتقدمة لا يمكن أن ترضخ للاستبداد السياسي ..!!