آخر تحديث :السبت-04 مايو 2024-06:45م

لا خاب من تغافل

الثلاثاء - 05 سبتمبر 2023 - الساعة 09:19 ص

انور ثابت بن عبدان
بقلم: انور ثابت بن عبدان
- ارشيف الكاتب


يشعر الكثيرون بالمعاناة الدائمة في حياتهم بتكوين العلاقات الاجتماعية أو الاستمرارية فيها أما بالتواصل أو الانقطاع ويبحثون ما بين لحظة وأخرى عن نوع من أنواع السلوك الإيجابي الذي يضمن لهم النجاح في تكوين العلاقات وبقائها ، والحل في مبدأ (  التغافل   ).

و( التغافل  ) أن تغض الطرف عن هفوات الآخرين وتتجاوز عنها ، وألا تحصي سيئاتهم بذكر او بغيره ، وأن تترفع عن صغائرهم ما خفي منها وما ظهر ، وألا تركز على اصطياد سلبياتهم وأخطائهم .

( التغافل  ) أن تترك الخطأ الذي ارتكبه الآخر تركا لا ذكر فيه ولا سمعه ، ثم تعود إليه لتناقشه فيه بكل أدب وتصوبه له لأنك تحب له الخير .

( التغافل  ) حب وإحترام وتقدير وإجلال ، لا تجاهل فيه ولا إهمال فيه  ولا ازدراء لصاحبه .

ويحكي القرآن عن قمة الرقي في التغافل ، فيقول الله تعالى : (  قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ  ) . فيوسف عليه السلام البريء يتغافل عن اتهامه بالسرقة لأنه يريد حب إخوته وكسب قلوبهم ، مع قدرته على الرد عليهم ، فالتغافل قوة لا ضعف .

وكفار قريش يشتمون النبي الكريم محمدا صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وينادونه مذمما بأوصاف غير لائقه ، فما كان منه إلا أنه قال : (  أَلَا تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ؛ يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ ) فأصحاب النفوس الراقية والهمم العالية والقلوب النقية يتغافلون عن كل صغير القول والفعل لأن لهم أهدافا عظمى يريدون تحقيقها في إصلاح النفس البشرية .

قال الحسن البصري رحمه الله : ما زال التغافل من فعل الكرام .

ويقول الإمام أحمد رحمه الله : تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل .

قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله  :

ما يزال التغافل عن الزلات من أرقى شيم الكرام ، فإن الناس مجبولون على الزلات والأخطاء ، فإن اهتم المرء بكل زلة وخطيئة تعب وأتعب ، والعاقل الذكي من لا يدقق في كل صغيرة وكبيرة ، مع أهله ، وأحبابه ، وأصحابه ، وجيرانه ، وزملائه ، كي تحلو مجالسته ، وتصفو عشرته .

قال أبو علي الدقاق رحمه الله : جاءت امرأة فسألت حاتما عن مسألة ، فاتفق أنه خرج منها صوت في تلك الحالة فخجلت ، فقال حاتم : ارفعي صوتك .

فأوهمها أنه أصمّ فسرّت المرأة بذلك ، وقالت : إنه لم يسمع الصوت ، فلقّب بحاتم الأصم . انتهى . 

[مدارج السالكين : ج2ص344 ] .

 

من كان يرجو أن يسود عشيرة

فعليه بالتقوى ولين الجانب

ويغض طرفًا عن إساءة من أساء

ويحلم عند جهل الصاحب

دخل رجل على الأمير المجاهد قتيبة بن مسلم الباهلي ، فكلمه في حاجة له ، ووضع نصل سيفه على الأرض فجاء على أصبع رجل الأمير ، وجعل يكلمه في حاجته وقد أدمى النصل أصبعه ، والرجل لا يشعر ، والأمير لا يظهر ما أصابه وجلساء الأمير لا يتكلمون هيبة له ، فلما فرغ الرجل من حاجته وانصرف دعا قتيبة بن مسلم بمنديل فمسح الدم من أُصبعه وغسله ، فقيل له : ألا نحَّيت رجلك أصلحك الله ، أو أمرت الرجل برفع سيفه عنها فقال : خشيت أن أقطع عنه حاجته .

التغافل خلق عظيم ، وفن من فنون التعامل مع الناس لا يتقنه إلا كل ذا قلب حليم ، وصدر رحب ، والتغافل هو تعمد الغفلة ، وتكلف الغفلة عن مساوى الآخرين مع العلم والإدراك لما يتغافل عنه تكرما وترفعا عن سفاسف الأمور وصغائر الأفعال والأقوال .

قليل من الناس بل وندر من يتخلق ويتحلى بهذا الأدب الرفيع والخلق العظيم والفن الراقي في التعامل ، فالتغافل فن لا يحسنه إلا الكرام الأفاضل ذوو المروءة ممن حباهم الله به  .

الكريم لا يكتفى بالعفو والصفح عما وجه له بل يتجاوز ذلك ويدفع بالتي هي أحسن  .

واخيرا : 

إذا جرحت مساويهم فؤداي

صبرت على الإساءة وانطويت

ورحت عليهم طلق المحيا

كأني ماسمعت ولا رأيت