في كتابات عدة سابقة، تناولت قراءة القانون الدولي لما حدث ويحدث في اليمن، ضمن مفهوم " فشل الدولة"، باعتبار أن أهم مدخل لفهم العقدة اليمنية يكمن في تشخيص المرض العضال الذي أصاب الإنسان اليمني وأفقده الإحساس بالكرامة لغياب الدولة التي تخفف من أعبائه، وتجعل الحياة في الوطن ممكنة، وحينما يكون تشخيص المرض الذي أصاب اليمن دقيقاً يمكن حينها وضع الوصفات الممكنة لمعالجته.
يقول الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة بطرس بطرس غالي وأحد أبرز المفكرين السياسيين اللامعين في عصرنا، في تعريفه لمفهوم "فشل الدولة" أنه انهيار المؤسسات وعدم قدرتها على فرض هيبتها الأمنية والقضائية وما يترتب على ذلك من شلل الحاكمية وانهيار النظام والقانون وانتشار الفساد والعصابات والفوضى وتعرض أصول الدولة للتدمير والنهب، وأخيراً هرب العقول.
ومن خلال التجارب التاريخية يقف الصومال نموذجاً صارخاً لفشل الدولة في منطقتنا، وسيطرة أمراء الحرب على المشهد العام لهذه الدولة العربية الأفريقية منذ عام 1990. وما زال الصومال اليوم بعد مرور 33 عاماً، يجاهد من أجل استعادة كيانه السيادي والخروج من حال الفشل، كما تشكل الحرب الأهلية في لبنان خلال الثمانينيات أحد أبرز تعابير "فشل الدولة"، التي أفضت لاحقاً إلى خطف ميليشيات "حزب الله" الإرهابية المدعومة من إيران، للدولة اللبنانية، وحولت مؤسساتها إلى قنوات لتهريب الأسلحة والصواريخ والمسيرات، وصناعة وتجارة المخدرات. وتحول لبنان إلى منطلق للتوسع الإيراني، فيما باتت عصابات طهران تتغذى من جسد الدولة اللبنانية المتعب والمتهالك، مثل تفشي السرطان في الجسد السليم.
وفي نظر المتخصصين في القانون الدولي ثمة ثلاثة سياقات لفهم العوامل الجيوسياسية لتبلور "الدولة الفاشلة"، أبرزها ظروف الصراع الدولي في زمن الحرب الباردة، حيث تبنت القوتان العظميان أنظمة تسلطية فاشلة بشكل مصطنع، وحافظت على بقائها كدول حليفة في خريطة المواجهة بين الشرق والغرب. وتجربة المرحلة الاستعمارية التي امتدت لزمن طويل، وعمدت إلى تدمير الهياكل الاجتماعية التقليدية، ولم تنجح في إحلال هياكل جديدة. وعمليات التحديث الوطني لما بعد المرحلة الاستعمارية، وما رافقها من طغيان، وفساد اجتماعي وسياسي وأخلاقي، وفشل مشروع بناء الدولة الوطنية الحديثة.
وكل هذه السياقات التي شكلت الخلفية لانهيار المؤسسات والقانون والنظام كلياً أو جزئياً تحت الضغط ووسط ارتباك واندلاع العنف، وتحول الدول إلى وجود شبحي على خريطة العالم، تنطبق على تجربة اليمن بشماله وجنوبه، ودولته الموحدة، فحينما أراد اليمنيون بناء دولة الوحدة التي لطالما كانت ولألفيات خلت، جزءاً من الهوية الجمعية لليمنيين، ولدت هذه الوحدة مشوهة ونتاج عمل فوقي إلحاقي جمع نظام الجنوب الاشتراكي "الفاشل" بحكم أن تعريف القانون الدولي للفشل يضم أيضاً الدول البوليسية والتسلطية والشمولية مع نظام الجمهورية العربية اليمنية، القبلي - العسكري.
هادي وعناوين الفشل
في 27 فبراير (شباط) 2012 وتحت ضغط التظاهرات الصاخبة المطالبة بإسقاط النظام، والتي شملت معظم المحافظات اليمنية، تنازل الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح عن الحكم بناءً على توافقات المبادرة الخليجية التي تم التوصل إليها برعاية سعودية، وتم التوقيع عليها في 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، فانتقلت السلطة إلى نائب الرئيس عبدربه منصور هادي، الذي فاز لاحقاً في الانتخابات الرئاسية كمرشح توافقي وحيد لقيادة مرحلة انتقالية حددت ملامحها الآلية التنفيذية للمبادرة الخليجية التي صاغتها الأمم المتحدة.
خلال المرحلة الانتقالية كان الرئيس الأسبق صالح يتربص للعودة إلى المشهد السياسي، فيما كان هادي يبحث في كيفية ديمومته في السلطة بعد الانتخابات التي ستتمخض عن الدستور الجديد. وبينهما كان الحوثي يدرك ويستغل شغف الطرفين بالسلطة، تمكن من فرض نفسه أمراً واقعاً على الساحة، واستمر في مغازلته كليهما حتى تحين اللحظة المناسبة لينقض على السلطة بانقلاب كان يراد له أن يكون أبيض. استغل الحوثي ثورة التغيير ولبس عباءة مكافحة الفساد، وقاد في منتصف عام 2014 الحشود للتنديد بالحكومة وفشلها.
وأعطى المبعوث الخاص الأسبق للأمم المتحدة إلى اليمن، جمال بنعمر والدائرة المحيطة بالرئيس حينها الانطباع لهادي بأن الأمور تحت السيطرة، وأن مجلس الأمن والمجتمع الدولي سيقفان داعمين له في وجه أي تمرد داخلي، فأسكرته نشوة البقاء في السلطة. ولم يحل آخر العام الا وقد استكمل الحوثي انتشار ميليشياته داخل العاصمة، ووقع مع الرئيس هادي اتفاق السلم والشراكة ليصبح الأخير رئيساً صورياً لليمن. استفاق الرئيس هادي على طامة كبرى، وهنا بدأت المشكلة.
كان "فشل الدولة" هو العنوان الأكبر لإرث رئاسة هادي في صنعاء، إلا أنه لطالما أعاد أسباب فشله لسيطرة صالح على مقاليد الأمور باعتباره الحاكم الفعلي، وأنه لم يتمكن من إدارة الأوضاع الداخلية في اليمن بحكم أنه قادم من الجنوب، ومن خارج منطقة القبائل الزيدية الحاكمة في شمال اليمن. إلا أن فشل الرئيس هادي طال حتى المحافظات الجنوبية التي جاء منها. وانكب هادي يومياً على متابعة ترتيبات الحوار الوطني، واستمرأ لعب دور رجل التغيير، الذي كان يرى فيه وسيلته للبقاء في الحكم، ما وفر غطاءً لتمدد المشروع الحوثي في شريان الدولة اليمنية ومؤسساتها نظراً إلى الانفلات الأمني الشامل.
وللحقيقة وللتاريخ فعلى رغم غياب كاريزما القيادة عند الرئيس هادي، وعدم قدرته على مخاطبة شعبه، فإنه لم يألُ جهداً وبصدق في مكافحة الإرهاب من ناحية، ومن ناحية أخرى في شرح أخطار التوسع الإيراني في اليمن عبر الميليشيات الحوثية، وتهديد طهران للأمن الإقليمي وسيطرتها على ممرات الملاحة الدولية في خليج عدن وجنوب البحر الأحمر، مما يعني تحكمها بعصب التجارة الدولية في مضيقي هرمز وباب المندب. وأتذكر أنه كان يكرر دائماً أن إيران لا تحتاج إلى القنبلة النووية، إذ أحكمت سيطرتها على مضيقي هرمز وباب المندب. وتكررت رسائل هادي حول الخطر الإيراني المحدق خلال أول جولة له في أوروبا وأميركا، والتي ختمها بزيارة المغفور له بإذن الله، الملك عبدالله في جدة في عام 2012.
ويبقى تسلسل الأحداث بين الفترة الزمنية لهرب عبدربه منصور هادي، نائب رئيس الأركان في جيش جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في 13 يناير (كانون الثاني) 1986 إلى صنعاء، وهربه منها في 21 فبراير (شباط) 2015، بل وهربه من عدن إلى السعودية في 26 مارس (آذار) 2015، وبدء عمليات التحالف لاستعادة الشرعية في اليمن، حتى انكفائه الأخير في 7 أبريل (نيسان) 2022، بعد تفويض مجلس القيادة الرئاسي كامل صلاحياته الرئاسية دون رجعة، قصص مليئة بالعبر والدروس التي ستكون مادة إجبارية للأجيال القادمة في بحثها عن أسباب فشل الدولة اليمنية.
تفكيك عقدة "فشل الدولة"
يبقى السؤال الأكبر الذي يشغل متابعي الشأن اليمني هو: ما السبيل لحل أزمة "فشل الدولة" في اليمن المبنية على تراكمات تاريخية مشحونة بالاختلاف والصراع ودورات العنف المتتالية؟ وهو سؤال أكبر من أن نتناوله في مقال، وربما أفردنا مساحات قادمة له، ولكن في الواقع هناك الكثير من الجهود التي بذلت، ربما أبرزها رؤية الأشقاء في السعودية وباقي الدول الخليجية لسلام مستدام في اليمن، وهناك ما تقدم به عديد من القوى السياسية في الجنوب والشمال من أفكار لبناء نظم مستدامة. كذلك كانت الجهود التي سبقت الحرب، وأبرزها مخرجات الحوار الوطني التي يجمع اليمنيون على بعضها ويرفضون بعضها الآخر، وهي تشكل قاعدة صالحة لرؤية إجماع وطني. أما جهود ما بعد اندلاع الحرب فهناك جهود كبيرة بذلت في "الرياض 1" و"الرياض 2"، وتحديداً تلك المتصلة بإصلاح وضع القوى التي تسيطر على المناطق المحررة.
وفيما يرفض الحوثي أن يكون شريكاً في الوطن، ويمعن في تعزيز فكر العصابات، تواجه جهود تقوية صفوف "الشرعية" مصاعب جمة، سبق وتناولتها كتابات وتقييمات عدة، فهذه القوى لا يجمع بينها جامع، ولا تلتقي أجنداتها حتى في حدودها الدنيا، والتطورات على الأرض منذ أبريل 2022 خير دليل على ذلك، وآخرها ما حدث في عدن في الأيام القليلة الماضية من استهداف لرئاسة الوزراء. وفيما كان الناس ينتظرون أن تتمكن القيادة الجديدة التي آل إليها مشروع استعادة الدولة في إحداث فرق عن مرحلة "السبات العميق" التي انتابت القيادة السابقة، فشلت ولم تتمكن من تنفيذ بنود مخرجات "الرياض 2".
وتدرك النخب السياسية اليوم وهي تواجه مرحلة طويلة من اللاحرب واللاسلم أن الانهيار وتعميق "فشل الدولة" يتعزز مع الوجود الافتراضي للدولة وشخوصها وأفراد أسرهم في الخارج على رغم القرارات الصارمة بعودة الجميع. وفي غياب الوطن الجامع يكون التالي لفشل الدولة هو الدخول في الدويلات والكانتونات فهل نتعظ؟
اندبندنت عربية