آخر تحديث :الأحد-22 ديسمبر 2024-09:22ص

فشل الدولة ومعاناة اليمنيين 1

السبت - 12 أغسطس 2023 - الساعة 03:53 م
خالد اليماني

بقلم: خالد اليماني
- ارشيف الكاتب


التقى أمين الريحاني خلال وجوده في مدينة نيويورك عام 1922 مصادفة حينما كان ذات يوم في مكتب إحدى الصحف النيويوركية بمهاجر يماني يبحث عن كتاب يعلمه الحديث باللغة الإنجليزية. لاحظ الريحاني أن الرجل غريب اللهجة لا اللسان، فبادره بالسؤال من أين يكون؟ فرد الرجل "من اليمن".

 

كان الريحاني بصدد زيارة الجزيرة العربية، فأستأنس الحديث مع ذلك اليماني رغبة في معرفة مزيد عن اليمن، فقال للرجل "حدثني عن اليمن"، فقال اليماني على الفور: بلادنا طيبة الهواء والماء، لكن أهلها دائماً في احتراب. فسأله الريحاني "تحاربون من؟" فأجاب الرجل "حاربنا الأتراك، وحاربنا القبائل، وحاربنا الإدريسي، ونحارب دائماً بعضنا بعضاً".

 

أصاب ذلك اليماني كبد الحقيقة بتوصيفه لوضع اليمن، باحتراب دائم، وغياب للاستقرار، وبحث مستميت عن العداوة والثارات، وهذا ما تعيشه اليمن منذ عصور غابرة حتى اليوم بعد 100 عام من ذلك اللقاء بين الريحاني واليماني مجهول الاسم، لا الهوية، الذي هرب إلى العالم الجديد ليترك أحب بلاد الله إلى قلبه، ترك بلاده طيبة الهواء والماء، أجمل بلاد الله، لكنها حكمة الله فينا نحن معشر يمانين خلقنا وفطرنا على العنف المنفلت.

 

لم يعرف اليمن الاستقرار خلال النصف الأول من القرن الماضي، فيما عدا الأجزاء الجنوبية والشرقية التي كانت خاضعة للاستعمار البريطاني، أما شمال اليمن فقد استفحل فيه جور النظام الإمامي الذي أمعن في إذلال الشعب اليمني، حتى قامت مجموعة من الضباط بانقلاب سبتمبر (أيلول) 1962 الذي شكل محاكاة لحركة الضباط الأحرار في مصر. وفتح الانقلاب أبواب جهنم على اليمنيين، فكانت حرباً ضروساً دامت قرابة العقد لم ينتصر فيها أي طرف، لكنها طحنت الشعب اليمني، وعكست طبيعة الصراع على السلطة مع مجيء نخب جديدة لتحل محل النخب الإمامية المهترئة، والتي تصارعت مع نفسها تباعاً.

 

البحث عن مستعمر بديل

أما في الجنوب، فقد انخرط نظام الاستقلال عن بريطانيا في أجواء منفلتة من التنكيل الذاتي، في متوالية تصاعدية لانقلابات دموية، تليها انقلابات أكثر دموية للسيطرة على السلطة، تحت تسميات اشتراكية ثورية، وكان كل نصر لهذا الفصيل أو ذاك يسجل كنصر لنظرية الاشتراكية العلمية، وللبروليتاريا التي لا وجود لها، ولمزيد الوفاء لموسكو، فيما سحق الناس بين رحى كماشة الصراعات العدمية بين الرفاق.

 

ونقل ذلك النظام عدن من تلك المدينة التي كانت ذات يوم جوهرة التاج البريطاني وأنشط ميناء عالمي ومركزاً دولياً لإعادة التصدير، إلى الميناء المنسي الذي كانت تتوقف عنده قطع الأسطول السوفياتية فقط، فيما انتشر الفقر، وبطاقات التموين، وترشيد الإنفاق، وطوابير الباحثين عن الخبز، وتهالكت المباني التي كانت ذات يوم مفخرة العمارة الإقليمية.

 

اعتمد نظام عدن على المساعدات السوفياتية، ومن بقية دول المعسكر الاشتراكي، وبعض المنح والهبات الدولية، وكان جنوب اليمن، وبعده دولة الوحدة، على رأس قائمة الدول الأفقر والأقل نمواً في العالم منذ أن استحدثت تلك القائمة، مع أن كثيراً من دول ذلك التصنيف قد تخرجت فيها وباتت من الدول متوسطة الدخل، وذلك بفعل فشل السياسات الاقتصادية، والهشاشة، والفساد المستشري. وبحسب تقديرات البنك الدولي فقد كان الناتج القومي لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية يتراوح بين مليارين ومليارين ونصف المليار دولار يوم أفولها.

 

وبعد قيام الحزب الاشتراكي اليمني بتوجهاته الماركسية اللينينية في نهاية السبعينيات، وفي لحظة نشوة ثورية تاريخية زحفت قوات النظام الاشتراكي في عدن شمالاً لتحقيق الوحدة اليمنية بالقوة، فاجتاحت مناطق واسعة مما كان يعرف بالجمهورية العربية اليمنية، وبانحسار هذه المغامرة غير محسوبة العواقب، بدأ العد التنازلي للنظام الماركسي اللينيني الوحيد في العالم العربي، فاقتتل الرفاق في مذبحتهم الكبرى في يناير 1986 التي راح ضحيتها خلال ثلاثة أيام من المواجهات الدامية خمسة آلاف إنسان، فيما تقول بعض لتقديرات إن الرقم أكبر، وقد تجاوز 13 ألفاً، وفر بجلده من استطاع ليلوذ بنظام صالح الذي كان الجنوب ينوي إسقاطه قبل سنوات.

 

سقطت تفاحة الجنوب وتلقفها صالح المتعطش للانتقام، وأغلق الستار على مسرحية الماركسية اليمنية قبل انهيار المستعمر السوفياتي بسنوات، وبدأ الجميع التفتيش عن راعٍ جديد.

 

الراقص على رؤوس الثعابين

لـ33 عاماً استطاع الرئيس علي عبدالله صالح بشخصيته الكاريزمية الإمساك بقبضة حديدية بزمام الحكم في شمال اليمن، وفي دولة الوحدة لاحقاً، بعد أن تمكن من بيع الوهم للاشتراكيين الجنوبيين بتحقيق حلمهم في الوحدة اليمنية التي كانت في صدارة شعاراتهم الثورية.

 

أراد صالح الجنوب ولم يرد الجنوبيين فأثخن فيهم، وكانت معركته الكبرى بعد أربع سنوات من قيام دولة الوحدة. كذلك كانت فلسفة الحكم لدى صالح "أنا ومن بعدي الطوفان"، وكان وفي لهذه النظرة حتى يوم مقتله في 4 ديسمبر (كانون الأول) 2017، رحمه الله.

 

بدأ حكم الرئيس صالح في يوليو (تموز) 1978 بمجزرة ما سمي الانقلاب الناصري، لتروق له الأمور في شمال اليمن. وفي دولة الوحدة، وبعد أربع سنوات من الشراكة، والتصفيات الدموية لشريكه اللدود الاشتراكي، خسف بالأخير واجتاح الجنوب، وأنهى الشراكة، وعاد ملكاً منصباً بالانتخابات المزورة، ليلتحق بصفوف الديمقراطيات الناشئة.

 

كان صالح يقود ديمقراطية ناشئة من منطلق أنه حليف للغرب زمن الحرب الباردة، على رغم معرفة الدول الديمقراطية باستحالة ذلك في شخصية قبلية تنزع إلى الديكتاتورية والحكم الفردي.

 

حينما نقل إرهابيو "القاعدة" إرهابهم إلى نيويورك وواشنطن أدرك صالح أنه مضطر إلى التحرك بسرعة، وما هي ألا أربعة أسابيع من الضغط والإلحاح على واشنطن متعللاً برغبته في نقل رسالة مهمة للرئيس بوش، هبطت طائرته في واشنطن.

 

يقول جيرمي سكاهيل في كتابه "حروب قذرة" إن صالح اشتهر في دوائر الاستخبارات الغربية بـ"الناجي" و"المراوغ"، الذي تحرك بمهارة خلال مرحلة الحرب الباردة وأبدع في استخدام الخطاب المعادي للشيوعية، وكسب منه المليارات، وشق طريقه عبر الانقسامات القبلية، والجماعات الإرهابية، إلا أنه أدرك مساء يوم 11 من سبتمبر، وهو يتابع ما يجري في شاشة التلفاز من قصره في صنعاء، أنه مضطر إلى التحرك بسرعة وتقديم فروض الولاء، وأكباش الفداء للبقاء في السلطة.

 

كان صالح يدرك أن لعبة الأوراق وجمع المال تحت أي اسم على حساب اليمن وأهله دخلت في مرحلة معقدة، وفيما كان يستمع إلى الرئيس بوش بعد أربعة أيام من الأحداث المشؤومة، حينما قال إن الذين اختاروا الحرب على أميركا، هم وأولئك الذين يؤونهم ويدعمونهم سيلاحقهم الموت، وكان صالح يعرف أنه المقصود، ولم تمر أربعة أسابيع إلا وحطت طائرته في واشنطن العاصمة، حاملاً معه وعوداً بتسليم "القاعدة". والمزيد من التعاون، بعد التعنت الذي واجهه المحققون الأميركيون في تفجيرات البارجة "كول" في عدن قبل عام من ذلك التاريخ في أكتوبر (تشرين الأول) 2000.

 

ويقول أمين نخلة الضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية إن صالح كان على اتفاق مع قيادات "القاعدة" في اليمن، وإن "القاعدة" ومنظمات إرهابية أخرى كانت تعتبر اليمن منصة ضد السعودية، وكانت عقوده مع الإرهابيين تتركز في مساعدته في تصفية خصومه، وبقائه في السلطة.

 

كذلك كان حال صالح في حروبه السوريالية الست من عام 2004 لغاية 2010 ضد الحوثيين التي زادتهم قوة ومنعة، في الوقت الذي زادت مدخراته الشخصية بالملايين من الدعم السعودي تحت لافتة الخطر الماثل على حدودها الجنوبية.

 

صنع صالح فزاعة من الحوثيين مشابهة لتجربته مع "القاعدة" بغرض ابتزاز السعودية إلا أن الفزاعة الحوثية تحولت إلى وحش كاسر التهم كل أنصاره، والدولة التي حكمها لـ33 عاماً، وأنهى مسيرة الراقص على رؤوس الثعابين، "الناجي"، "المراوغ".

 

وصل صالح إلى السلطة واليمن في حال فقر مدقع، حيث تجاوزت مستويات الفقر السحيقة 50 في المئة من السكان، وحينما ترك السلطة كانت البلد بمستويات الهشاشة والفقر نفسها، مع زيادة ملحوظة في ثراء الفئات المنتفعة من النظام، فيما ظهرت القصور الفارهة في المدن اليمنية جنباً إلى جنب مع بيوت الطين والصفيح.

 

ربما تكون أكبر جرائم الطبقة الحاكمة التي رافقت الرئيس صالح خلال فترة حكمة الطويلة هي تدمير الاستدامة البيئية، والاقتصاد التقليدي لدولة كانت تعيش مما تنبته أرضها، أو كما قال ذلك اليماني في حديثه مع الريحاني في نيويورك "طيبة الهواء والماء".

 

مع نهاية عهد صالح كان اليمن دولة فاشلة تعيش على المساعدات والهبات، وتتحصل على أكثر من 85 في المئة من قوتها وغذائها من الخارج... دولة تسول بامتياز. وللحديث بقية.