هو لا يجيد التظاهر بالصخب، مع أنه شديد اللمعان والحضور، وحضوره ولمعانه ليس من النوع الذي يخبو بمجرد الذهاب والأفول، إلا أنه يفضل أن يكون عاديا، وفي نفس الوقت يحرص أن يبقي مسافة معقولة مع الجميع.
والشيء الوحيد الذي لا تزال ثقته فيه مطلقة هو دخانه، أعني دخان سجائره ،نعم هو ذاك، هو ذاك الدخان المنبعث من سجائره.. والذي يرافقه أكثر أوقاته، صبحا ومساء وفي أغلب الأوقات.
وخاصة عندما يتأكد له أن لا أحد يشاركه أفكاره وحيرته وجنونه، لا يسأل الآخرين عن أحوالهم ومشاكلهم، ليس لأنه متعالٍ أو مغرور، بل لأنه يؤمن بأن لا شيء يستدعي السؤال طالما وأنه يستطيع أن يعرف كل شيء من وجوههم.
وغراباته تصييك بغرابات أغرب، وحتى عندما يكون مسرورا ويكون مزاجه صافيا وهادئا لا يساورك الشك لحظتها بأنه يفكر في مكانٍ آخر ويسافر في عالمٍ آخر.. غرابة أليس كذلك، هي كذلك بالفعل وأبعد.
ومع كل ذلك لا يزال يثق بدخانه ويصر أن يدخن بعمق..قبل أعوام قاد تمردا عماليا على مجموعة اقتصادية مرموقة كان يعمل بها، وأفضى تمرده إلى رفع أجور العمال والموظفين بعد أن خاض مفاوضات شاقة وعسيرة مع إدارة تلك المجموعة.
ويومها كان بطلا وقائدا وعقلا وخطيبا وناطقا يشار إليه بالبنان إلى قبيل نزوحه القسري المفاجئ.. وبعد كل تلك السنوات تخلى العبيد عن محررهم وقائد حريتهم، وأكلوا وشربوا على فتات موائده وفضلاته، وعادوا لسيرتهم الأولى عبيدا، وهو لا يزال قائدا.
ولا يزال يثق بدخانه.. وكم فضل الخسائر التي لا تهدر إنسانيته على الأرباح، هو يتحين موعدا، يتأهب لحظة، يتجشم وعدا، لا يعلم بالضبط ما الذي توحي له به همسات دخانه الصامتة، وإن كان يسمع همسات دخانه جيدا، مع أنه لا يفصح عن منتهيات آراه ونهاياتها البعيدة.
ولم تعد تستهويه تلك الصبوات والمغامرات، أصبح صعبا على الفهم، ومنيع التحصينات، وأكثر تحكما برغائبه وثقلباته.. عدا أن موؤدته الخمسون بعد الألف تكاد تفقد بريقها من لهفها للحظة تهزم فيها غرائبه وثقته بدخانه، ولكنها لا تنجح، قد ضحت بأربع زهرات من ربيعها ولم تنجح، ويبدو أنها ستغادره بعد أن ضاقت ذرعا بدخانه.