آخر تحديث :الأحد-22 ديسمبر 2024-09:16ص

الهجرة... خطل سياسة المساومة

السبت - 29 يوليه 2023 - الساعة 09:31 م
خالد اليماني

بقلم: خالد اليماني
- ارشيف الكاتب


قبل أيام جمعت الحكومة الإيطالية لساعات معدودات مجموعة من الدول المطلة على حوض المتوسط وأخرى من خارجه، في محاولة يائسة لمعالجة أزمة تدفق اللاجئين إلى أراضيها، في ظل تضاعف أعداد الواصلين إلى الشواطئ الأوروبية، في ما بات يشكل تحدياً أمنياً متزايداً يصعب الإمساك بخيوطه المتشابكة، فعلى رغم وعود "عملية روما" كما أطلقت عليها رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، وهي تقصد استمرارية الجهد الذي بدأ للتو، إلا أن محصلته لم تختلف كثيراً عن عديد المقاربات الأوروبية خلال العقود الماضية، وما المحاولة الأخيرة إلا مقايضة غير متكافئة لن يكتب لها النجاح.

مؤتمر روما تمخض عن نتائج مخيبة بالنسبة إلى الدول المشاركة، أولاً من حيث أن أوروبا ليست موحدة وذلك بدا واضحاً في غياب فرنسا وألمانيا وإسبانيا، كما أن رئيسة الوزراء الإيطالية اكتفت بالإعلان الافتراضي لإنشاء صندوق لتمويل مشاريع استثمارية ومراقبة الحدود وتنظيم عمليات تدفق المهاجرين، ولم تبين مسألة التمويلات وآلياتها، بل وعدت بتنظيم مؤتمر للمانحين بهذا الخصوص لم تحدد حتى اللحظة تاريخ انعقاده. ويجمع خبراء الهجرة من الضفتين الأوروبية والأفريقية في تقييمهم لعملية روما على وصفها بالمستحيلة، وأن معالجة الأمر لا تتعلق بنوايا سياسية، وكأنه صنبور الماء يمكن فتحه وإغلاقه بمجرد عقد اجتماع أو إصدار قرار سياسي، إذ حاولت أوروبا كثيراً قبل ذلك وأخفقت.

إنها حقاً قضية تؤرق بلدان الوصول والعبور والمنشأ، ولم تكن معالجتها في يوم من الأيام على قدر التحدي، بل كانت العلاجات وما زالت مجرد مهدئات موضعية موقتة سرعان ما يتلاشى أثرها، لتصحو معها أوروبا على صباح جديد يحمل معه آلاف الواقفين على أبوابها من القادمين الجدد من دول آسيوية بعيدة، وأفريقية قريبة من شمال القارة ووسطها وجنوبها. لقد أثبتت معالجات العقود الماضية فشلها لأنها استهدفت الحكومات وذهبت المليارات إلى جيوب المنتفعين، الذين يعملون وفق شريحة الدفع المسبق لتأمين استمراريتها، فحينما تتوقف المنح السخية تتوقف الرقابة على السواحل والحدود أو ترخو.

والحقيقة التي لا تقبل الجدل هي أن الدول الأوروبية عاجزة عن ضخ تمويلات ضخمة لمواجهة محاور ظاهرة الهجرة المتعددة، فهناك سفن وشبكات تجارة البشر يجب إيقافها من المصدر، وهناك سفن منظمات إغاثية غير حكومية أوروبية تعمل على مساعدة اللاجئين ولا تلقى فرصة للرسو في موانئ المتوسط لأنها ترفع أعلام دول من الشمال الأوروبي، وهناك تفاهمات ما يسمى بـ"تسوية دبلن" لتوزيع الحصص التي سبق التوافق عليها، ولكن بعض الدول أعادت النظر فيها بعد وصول اليمين المتطرف إلى الحكم، وهناك مشكلات دول المنشأ الطاردة للبشر التي تدفعهم إلى تفضيل الموت في مياه المتوسط في سبيل حياة كريمة عن البقاء في أوطانهم الأصلية.

إنها معضلة تاريخية تتصل بالبيئة والموارد وشحها وفساد النظم وغياب الأفق والمتاجرة بأرواح البشر وتسييس ظاهرة البؤس الإنساني، يقابلها سعي الفطرة الآدمية إلى النزوح نحو ملاذات آمنة وفرص كريمة وأرزاق ممكنة، بعد أن تسقط الأوطان في هاوية اللااستدامة البيئية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية. نزعة لا تنقطع كبحث الحيوان بالفطرة عن الكلأ في أماكن جديدة بعدما تستحيل مراعيه القديمة إلى يباب، ولطالما كانت أوروبا في نظر بلدان المنشأ هي ضالة الناس على رغم تراجيديتها، وستستمر ظاهرة النزوح الجماعي وتتعاظم ولو كانت أوروبا خلف بروج مشيدة.

معالجات ومراجعات ضرورية

لم تدرك أوروبا حتى اليوم أن الحل لا يكمن في تمكين قوى الفساد المسيطرة على مقدرات الدول المصدرة للهجرة، لأن أموال قارون لن تكفي لضمان استمرار هذه القوى في الإبقاء على السكان في مستوطناتهم الأصلية من خلال توفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة، وبإمكان أوروبا أن تعود لمراجعة المبالغ المليارية التي صرفتها لمثل هذه المعالجات منذ بداية تسعينيات القرن الماضي حين تأسس الاتحاد الأوروبي.

ويكفي أن نشير إلى أن العالم احتاج إلى سنوات طويلة لإدراك عدم قدرته على تجاهل الآثار المدمرة لتغير المناخ والآثار البيئية الأخرى، وربما تحتاج الحكومات في أوروبا وأميركا الشمالية إلى مزيد من الوقت لإدراك حجم الفجوة المهولة في معيشة الناس في دولهم ودول الجنوب وعدم الاستمرار في تجاهلها، ومع بقاء هذه الاختلافات سيواصل سكان هذه الدول النزوح الجماعي ليل نهار نحو دول الشمال بحثاً عن مستقبل أفضل، ولن يقف من دون تحقيقهم لأحلامهم التي عمدتها وغذتها وسائل التواصل الاجتماعي لا حدود ولا أسوار ولا بحار، ومشاهد نزوح الآلاف من سكان أميركا الجنوبية والوسطى اليومية باتجاه حدود الولايات المتحدة خير دليل على ذلك.

ومتى ما تدرك الدول في الشمال أن هناك ضرورة لتنظيم موجات الهجرة لأنها تلبي حاجات متزايدة في اقتصاداتها، إذ يقوم المهاجرون بالأعمال التي لم يعد السكان الأصليون يرغبون في القيام بها، وهذه مسألة يجب أن تنظمها قوانين الهجرة النظامية لتغطية أسواق العمل وقطع الطريق أمام عصابات الاتجار بالبشر. وتشير دراسة أجراها معهد "بروكينغز" في واشنطن أخيراً إلى وجود عجز قدره 2.4 مليون عامل منذ ديسمبر (كانون الأول) 2022 في الاقتصاد الأميركي، وإلى وجود حاجة إضافية إلى 2.4 مليون وظيفة نظراً إلى خفض متوسط ساعات العمل الأسبوعية، هذا إضافة إلى انخفاض نسبة الخصوبة وشيخوخة السكان والتحديات الديموغرافية الأخرى.

وحتى تستوعب سياسات الهجرة الرسمية ما توصلت إليه "ألمانيا ميركل"، حول الحاجة إلى الدماء الجديدة والمفعمة بالحياة، ستواجه الدول الرافضة لمنطق التاريخ مزيداً من المصاعب في إدارة شؤونها، فيما سيتواصل ضغط المهاجرين غير النظاميين. إن اعتماد سياسة للهجرة المخطط لها جيداً التي تسمح للعمال الراغبين في الدخول الخاضع للرقابة إلى مختلف مجالات سوق العمل، وتساعد في دمجهم داخل البلدان المضيفة، من شأنها أن تقطع شوطاً طويلاً نحو تخفيف ضيق سوق العمل ومنع المآسي الإنسانية الناجمة عن استغلال المهربين المخزي للمهاجرين واللاجئين.

وقد يروج بعضهم لأن دخول عصر الانسان الآلي والأتمتة المتقدمة والذكاء الاصطناعي سيجعل الاعتماد على البشر في تناقص مستمر، ولكن حقيقة الأمر أن المجتمع في هذا العصر سيكون بحاجة إلى العمالة في قطاعات مثل الخدمات المتعددة والبناء والخدمات المنزلية والرعاية الصحية والضيافة، وتحديداً في مجتمعات تزداد شيخوخة، وبالتالي فإن التفكير في تنظيم وصول مزيد من المهاجرين الجدد لن يكون عملاً استعطافياً إنسانياً البتة، بل هو حاجة ملحة إلى هذه الدول.

لقد عملت الدول المتقدمة وما زالت على سرقة العقول، وهي تدرك أنه في مقابل واحد من هذه العقول التي سرقت هناك آلاف من البيئة ذاتها الذين يواجهون تحديات العيش في بلدانهم. ومع إقرارنا في الوقت ذاته أنه ليس من الممكن فتح الأبواب على مصراعيها لاستيعاب جميع الراغبين من سكان البلدان منخفضة وضعيفة الدخل إلى أميركا وأوروبا، ولكن على أوروبا وأميركا الضغط على الاقتصادات المتقدمة من أجل أن تفعل مزيداً معاً لمعالجة الاختلالات الهائلة التي لا تزال موجودة في عدد كبير من دول العالم للتقليل من عدم المساواة الاقتصادية العالمية، باعتباره أمراً ملحاً لمستقبل مستدام للبشرية.
إن فشل مجتمع الدول في التقدم باتجاه مد يد العون للمجتمعات الساقطة، ووقف النزوح الجماعي للناس نحو أوطان غير أوطانهم كانت وما زالت جلية في فشل الأمم المتحدة في تحقيق أي تقدم ملموس في أهداف الإنمائية الألفية 2000 - 2015، وهو الفشل ذاته الذي يرافق اليوم تنفيذ أهداف التنمية المستدامة 2016 - 2030، فإلى متى تتواصل متوالية الفشل، فيما زعماء الدول يصفقون بحماسة لنجاح أعمال المؤتمرات الدولية مثل الصور التي شاهدناها للقادة مع انتهاء مؤتمر "عملية روما"، على رغم أنهم يدركون ما آلت إليه أوضاع شعوبهم؟